أمام حالة الفشل والتأزم التي تعيشها البوليساريو على كافة المستويات، والتي أفضت إلى تقويض مشروعيتها باعتبار سلطتها المفوضة والمفروضة على مخيمات اللاجئين بتيندوف، لم يكن صدفة تركيز قيادات الجبهة في حملة ظهورها الإعلامي المكثف مؤخرا على المواضيع التاريخية، في محاولة منها لاجترار خطابها الدعائي القديم، القائم على تبجيل وتفخيم أدوار القيادة، عبر الترويج لمكتسبات وانتصارات قاصرة باتت متجاوزة، بحثا عن مشروعية تاريخية مزعومة، في ظل انعدام شرعية التمثيل والإنجاز.
الاحتماء بالموتى..
منذ تأسيس حركة "صحراويون من أجل السلام" قبل قرابة الشهرين من الآن، نشّطت العناصر القيادية الرئيسية عديد الخرجات الاعلامية، فإلى جانب ثلاث خطابات لزعيمها براهيم غالي، أجرى مجموعة من القياديين البارزين في الجبهة مقابلات في تلفزيونها الرسمي، وبالإضافة الى لقاءات صحفية أجريت مع وسائل إعلامية جزائرية، عكف التنظيم السياسي للجبهة على إصدار بيانات متتالية للتعليق على حدث الإعلان عن تأسيس الإطار السياسي الصحراوي الجديد، فضلا عن الإنزال الذي أشرفت عليه بعض العناصر القيادية في وسائل التواصل الاجتماعي، والمصحوب بتحريض دعائي منقطع النظير شارك فيه الذباب والمواقع الالكترونية التابع لها بكثافة.
لكن الملاحظ في جميع خرجات قيادة البوليساريو الأخيرة، هو احتماؤها بسمعة زملائها المتوفين من العناصر القليلة التي كانت تحظى بالحد الأدنى من السمعة الجيدة، والتي انتقلت في معظمها إلى جوار ربها، ضمن محاولاتها للبحث عن شرعية مفقودة.
فإلى جانب المؤسس الولي مصطفى السيد الذي أعادته الشهادات التاريخية العديدة المسجلة حوله مؤخرا إلى الواجهة، وأضفت على ذكرى وفاته زخما وتعاطي أكبر، بعد انكشاف حجم الغدر والتآمر الذي تعرض له من طرف رفاقه، عملت القيادة على استغلال حدث تشييع جثمان القيادي المتوفي مؤخرا امحمد خداد لنفس المآرب، حيث صرّفت من خلاله خطابها الدعائي والتحريضي، كما تنافست على الظهور واحتلال المواقع الأمامية في ما يبدو أنه تجل واضح للصراع الدائر بينها على تركته الثقيلة، والمتمثلة في المناصب والمسؤوليات الهامة الحساسة التي كان يشرف عليها.
جرعات أكسجين أنعشت خطاب البوليساريو الدعائي، فكانت بمثابة مسكنات لمعالجة حالة السخط والتذمر الشعبيين العارمين المعبر عنهما على نطاق واسع، من خلال عديد الأشكال والمظاهر الاحتجاجية، ما يهدد هيبة التنظيم في ظل حالات توريط الاجهزة الأمنية والعسكرية في مواجهة المتظاهرين المدنيين، والاقتحامات المتتالية لمقار رسمية، كان أبرزها حادثة مقر الكتابة العامة في فترات سابقة.
الحضور الإعلامي المكثف..
لكن الأكثر إثارة للجدل من بين خرجات القيادة، كان الظهور المزدوج لأمين مال البوليساريو ومؤرخها محمد لمين أحمد، والذي أطل للمرة الثانية في نفس الآونة، لتصحيح روايته الأولى حول فترة تأسيس البوليساريو، في محاولة فاشلة لإصلاح ما أفسده في خرجته الأولى قبل أقل من شهر من الآن، فقد عكف هو الآخر على الاستنجاد بشرعية الولي مصطفى السيد، والترويج لنفسه باعتباره أقرب المقربين منه.
في نفس السياق وجد ابراهيم غالي في مناسبة تأبين القيادي الراحل امحمد خداد، فرص لتسجيل خطاب رسمي هو الثالث في مدة وجيزة لا تتجاوز الشهرين، دبجه زعيم البوليساريو بلغة الشعارات المتجاوزة، بهدف الترويج لدعايته الرسمية القائمة على دغدغة العواطف وتحريك الحس الحماسي، في تجاوز مفضوح لحرمة الموت، وتوظيف سافر لسمعة الفقيد خداد.
سيد أحمد بطل، أحد أكثر القيادات تورطا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بدوره حاول الاحتماء بشرعية الولي مصطفى السيد في ظهوره الأخير على تلفزيون البوليساريو، حيث حكى قصصا حول بطولات أمنية جمعته به، في محاولة للقفز على السمعة السيئة التي بات يحظى بها نتيجة انكشاف حجم الإجرام المهول الذي ارتكبه في حق العديد من ضحايا سجون البوليساريو الرهيبة، بعد تواتر الشهادات التي تدينه شخصيا، وتكشف تفاصيل الجرائم التي ارتكبها.
خرجات إعلامية مكثفة وغير مسبوقة حرصت معظم القيادات الديناصورية خلالها على الترويج لخطاب ديماغوجي اقصائي غلبت عليه الشعارات والمزايدات، وممارسة الشيطنة والتخوين حق المخالفين، لكن في نفس الوقت أحرقت خلاله مجموعة من أوراق القيادات الديكورية التي كانت تحتمي بها المجموعة الأمنية الضيقة المتحكمة في قرار البوليساريو، الأمر الذي دفع بها الى اللجوء إلى سمعة المتوفين من العناصر القيادية السابقة.
مواقف مرتجلة جاءت كرد فعل على تصاعد وتيرة النقاش العمومي المحلي الذي بات يطرق مواضيع هامة وحساسة، كانت الى عهد قريب في عداد التابوهات. فإلى جانب تشريح واقع الأزمة التي تعيش على وقعها البوليساريو على كافة المستويات، كان من بين المواضيع المثارة، التزوير الذي طال تاريخ الجبهة المعاصر في دعاية الجبهة الرسمية، فضلا عن ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة من طرفها، إلى جانب موضوع "شرعية تمثيل الصحراويين"، على إثر تأسيس "صحراويون من أجل السلام، ما قوض شعار "الممثل الشرعي والوحيد" الذي لطالما وظفته القيادة لاحتكار السلطة وممارسة القهر والاستبداد في حق اللاجئين القابعين تحت سلطتها المفوضة.
الشرعية المفقودة..
فشرعية البوليساريو الثورية لم تلبث أن تعارضت مع عديد الممارسات الرجعية، في مقدمتها اللجوء إلى الهيئات التمثيلية التابعة للإدارة الاستعمارية، والأجندات العشائرية والمناطقية، قبل أن تنتفي تماما مع توقيع وقف اطلاق النار، وأما مشروعية الولي مصطفى السيد الكاريزماتية التي ساهمت في إنجاح مرحلة التأسيس بفضل نشاطه وحضوره الطاغي، فسرعان ما اصطدمت مع التدخل الجزائري الذي ظل متوجسا منه إلى أن تم التخلص منه، بسبب رصد علاقته الوثيقة بالقذافي، ليقوم من يفترض أنه حليف بتوظيف قيادات قاصرة، ما كانت لتستطيع الظهور إلى جانب الولي، لأجل التخلص منه والتضييق عليه ودفعه الى هجومه الانتحاري في عملية نواكشوط.
وأما المشروعية التاريخية ممثلة في الهيئات القبلية التي سبق للإدارة الاستعمارية الإسبانية أن أطرتها ضمن "مجلس الجماعة"، فرغم تناقضها مع دعاية الجبهة الرسمية التي ترفع شعار "تجريم القبلية"، فقد حاولت القيادة توظيفها من خلال استيعاب الزعامات القبلية، قبل أن تغدر بها هي الأخرى في ظل محاولاتها الحثيثة لقلب البنية المجتمعية القائمة والانتقام من رموزها، لتعاود لاحقا الاحتماء مرة أخرى بها غداة أحداث 1988، لتتكرّس لاحقا ضمن محاولتها تعزيز مخرجات اتفاق وقف إطلاق النار، الذي رسّخ دور مؤسسة القبيلة في ضبط لوائح تحديد الهوية من خلال شيوخ القبائل، الأمر الذي أفرز حالة من التطبيع التام مع البنيات المجتمعية التقليدية.
تبقى شرعية المؤسسات (الشرعية العقلانية) هي الغائب في تجربة البوليساريو في ظل غياب أي شكل من أشكال التعاقد الاجتماعي، واقتصار التشريع على أشكال تنظيمية حزبية، يتم توظيفها لتمرير قانون الجبهة الأساسي، من خلال تجمعات مغلقة، تعقد داخل ثكنات بعيدة عن أعين المواطنين في ما يسمى عبثا بـ "المؤتمرات الشعبية"، ما يكرس نظاما شموليا متسما بالاستبداد والديكتاتورية، تصادر عبره الحقوق المدنية والسياسية للصحراويين، ويتم بموجبه التضييق على حرياتهم الأساسية.
واقع مأزوم يطبعه الاستبداد والتخلف، تهيمن فيه سلطة مفوضة وغير مبررة، في مجال جغرافي خارج الإقليم الذي تدعي سلطة البوليساريو تمثيله، تغيب فيه المؤسسات وتسيطر العقليات الرجعية المتجاوزة، التي تنسجم مع الخطابات التحريضية والحماسية...، ما يفرض مواجهته عبر حراكات منظمة تتبنى القيم الكونية والإنسانية الكفيلة بضمان كرامة وحرية الصحراويين، وحدها ستكون كفيلة بسحب البساط من تحت تنظيم فاشي تقوده عصابة متسلطة وعاجزة، لتفتح المجال لمواجهة التحديات الجمة التي تهدد كينونة وهوية المجتمع الصحراوي، بعد أن صار عرضة للاندثار في ظل حالة اللجوء والشتات ومختلف أشكال الأزمات التي يعيش على وقعها.