الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

المسودي : صياغة الأوبئة أدبا.... "الكوليرا"....تعلن ميلاد شاعر (4)

المسودي : صياغة الأوبئة أدبا.... "الكوليرا"....تعلن ميلاد شاعر (4) عبد الفتاح المسودي ، الشاعر علي الجارم
يقف العالم اليوم مشدوها أمام جبروت "الكوفيد19"، جبروت عدو غير مرئي، عدو كان خارج حسابات وتوقعات دهاليز داهقنة السياسة والاقتصاد، والذين حيال عجزهم أمامه أصبح كل ما في متناولهم هو ترويج سلعة بائرة من اللغو لم يعد الناس يعيرونها أي اهتمام . رغم تسخيرهم لكثير من الأبواق الإعلامية التي مل الناس متابعة زعيق تفاهاتها التي سقط عنها القناع وبهت طلاؤها المزيف الذي كان يحجب الحقيقة التي استيقظ على هولها الجميع . حيث اكتشف الإنسان أنه كان ضحية خطابات جعلته يعيش في طمأنينة مزيفة وحصانة وهمية من عوائد الزمن والتي كان ضامنهما الأساس التقدم العلمي والتجريب التكنولوجي .
لا يعتبر هذا تقليلا من أهمية البحث العلمي، ولا من دينامية التجريب التكنولوجي ولكن هو تنبيه إلى أن توظيفهما كان ومايزال الآن بعيدا عن خدمة الإنسان وضمان عيشه في كرامة. بحيث ، ونتيجة لطبيعة النظام الاقتصادي السائد في العالم فإن توظيفهما ـ العلم والتكنلوجيا ـ كان من أجل إخضاع الإنسانية لمنطق الإكراه و التسلط و ذلك بالتحكم في عواطفها ورغباتها خدمة لنظام اقتصادي مبني على الاستهلاك.
هل يمكن اعتبار هذه الرجة التي يعيشها إنسان اليوم إ حدى فوائد "كورونا" ؟
قد يبدو من الصعب ، بل بالأحرى من غير اللائق الحديث عن فضائل أي وباء، وخاصة فيروس كورنا الذي ما زال ينشر الهلع في الناس ، بحيث إذا طرحنا سؤالا بشكل تلقائي : ماذا تخلف الأوبئة وراءها ؟
الجواب الذي قد يبدو بديهيا ولن يتلعثم اللسان لكي ينطقه، هو أن الأوبئة لن تخلف إلا انتشار الموت وما يشيعه من أحزان، والإحساس بالخوف والرعب وما يسببه من أزمات نفسية. في حين أنه قليلا ما يتم الانتباه إلى أن هذا الجو الجنائزي وما يصاحبه من هلع قد يكون أيضا دافعا للإنسانية لمراجعة أفكارها، ومعتقداتها، وتصوراتها حول ذاتها وحول الكون وهذا ما يلاحظه المتتبع اليوم في الرجة الفكرية والقيمية التي أحدثها فيروس كورنا عند جميع فئات الشعوب عبر مختلف أرجاء المعمور . كما أن هذا الجو المأتمي وما يرافقه من حزن وألم قد يتحول إلى طاقة إبداعية خلاقة ستمنح/ ومنحت للإنسانية أعمالا فنية ما تزال خالدة نظرا لميسمها الجمالي الذي صاغت به الحدث / الوباء .
إن الأدب الإنساني خلق تراكما إبداعيا سواء شعرا أو سردا من النصوص التي تناولت موضوع الأوبئة مما جعل مؤرخو الأدب يصنفون هذه الأعمال ضمن ما أسموه ـ أدب الأوبئة ـ .
وفيما يلي التفاتة إلى هذا الموضوع من خلال التعريف بمجموعة من الأعمال الإبداعية التي عادت إلى واجهة الإهتمام إعلاميا على صفحات الجرائد والمجلات الإلكترونية، وأيضا على صفحات وسائل الاتصال الاجتماعي .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الالتفاتة ليست قراءة نقدية لهذه الأعمال ، ولا تحليلا لها بقدر ماهي معلومات ليس لي في أغلبها إلا فضل التجميع وأحيانا التمحيص والفحص والغربلة ، إذ ما هي إلا عصارة لقراءات متنوعة ـ في زمن الحجر الصحي ـ وددت أن أتقاسمها لكي لا تبقى حبيسة الذاكرة والمذكرة الشخصية .
 
"الكوليرا" ....تعلن ميلاد شاعر (4)
"النحو الواضح" البلاغة الواضحة و"دليل البلاغة الواضحة" فضلا عن "المجمل" والمفصل" من الأدب العربي. مراجع موازية للمقررات المدرسية طالما رافقتنا في المرحلتين الإعدادية والثانوية، إذ نتذكرها اليوم ، فإننا نتذكر معها مدى فائدتها لنا ـ وبغض النظر عن إثراء الجانب اللغوي والمعرفي ـ بشكل نفعي في الحصول على علامات جيدة وخاصة في الإجابة عن أسئلة الإعداد القبلي التي كان يكلفنا بها أساتذة اللغة العربية، ولكن قليلا ما نذكر من كان وراء هذا المجهود . أو بالأحرى من شارك فيه مع مجموعة من الأدباء و الكتاب، لأن ما كان يهمنا في تلك السنوات هو الكتاب وما نستفيد منه وليس صاحبه .
وهمنا هنا والآن ليس الوقوف عند هذه الذخيرة من الكتب ، بقدر ما يهمنا الوقوف عند أحد أهم الفاعلين في إنتاجها و إخراجها باعتباره شاعرا له علاقة بالموضوع الذي تخوض فيه هذه الورقات .
إنه علي الجارم، مفرد بصيغة الجمع، فهو الكاتب والأديب و اللغوي إضافة إلى ما يستوقفنا عنده هنا إلا وهو الشاعر الذي خلف وراءه ديوانا من أربعة أجزاء جمع فيها كل ما كتبه من شعر في مختلف الأغراض، وإن غلب عليه ما قيل في المناسبات سواء منها الوطنية أو القومية ، وكل هذا الفيض الشعري كانت قطرته الأولى قصيدة "الوباء" والتي كتبها الشاعر وهو ما يزال في حداثة سنه عندما انتقل وباء الكوليرا إلى مدينته ومسقط رأسه "رشيد" وبدأ ـ كما جاء في مقدمة القصيدة في الديوان ـ في ( حصد الأرواح ، فراع الشاعر الصغير ما رأى ، وأثار عاطفته الشعرية فقال هذه القصيدة ) .
وعليه ، فإن قصيدة "الوباء" التي أعلنت ميلاد الشاعر علي الجارم كانت استجابة إبداعية لانتشار وباء "الكوليرا" في مصر سنة 1895 . إذ كتبها الشاعر وعمره حوالي أربعة عشرة سنة ، إذا علمنا أنه من مواليد سنة 1881 . وتتألف القصيدة من 21 بيتا نظمها على الشكل التقليدي للقصيدة العربية حيث نظام الشطرين و وحدة الوزن و القافية و الروي .
افتتحها بمطلع يخاطب فيه الوباء قائلا :
أي هذا ( المكروب ) مهلا قليلا ********************** قد تجاوزت في سراك السبيلا
ليختتمها داعيا إياه "الوباء" بأن يرحل ويكف عن ترويع المصريين بالموت والقتل وإذلالهم ، لأن بمصر "وباء" آخر، ويعني به الاستعمار الإنجليزي الذي كان يحتل البلاد يومئذ :
يا قتيل ( الفينيك ) يكفيك قتلا ************************ ك فاغمد حسامك المسلولا
إن في مصر غير موتك موتا ************************ ترك الأروع الأعز ذليلا
فارتحل بارد الفؤاد قريرا ************************** مرويا من دم الفؤاد قريرا
وبين مطلع القصيدة وخاتمتها وقف الشاعر عند المآسي الناتجة عن انتشار وباء الكوليرا ( انتشار اليتم ..قلب الأفراح إلى أحزان.....) .
ونظرا لنفس وبناء القصيدة التقليدي فإنها تحضر في عيون النقد الحديث في مقارنتها بقصيدة نازك الملائكة "الكوليرا"، على أساس أنها أقل منها شاعرية إذ ـ و بحسب إلياس خوري ـ فإن قصيدة علي الجارم ( تفتقد إلى التجربة الإنسانية) ، لأنها في نظره فقط " تعظ و ترثي " . ورغم أننا ليس بصدد تقييم قصيدة "الوباء" إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن المقارنة بين القصيدتين لا تستقيم على الأقل لسببين:
الأول : قصيدة "الكوليرا" كتبتها الملائكة بعد منجز شعري نشر في ديوان "عاشقة الليل" سنة 1947، وبعد تحصيل معرفي و اطلاع على تجارب شعرية عربية و غربية، إذ كانت وقتئذ قد تخرجت من دار المعلمين العليا ، في حين أن علي الجارم كتب قصيدة "الوباء" وهو مازال غرا سواء من حيث التجربة في الحياة ، أو الإطلاع على التجارب الشعرية .
الثاني : وهو نتيجة للسبب الأول و يتعلق باختلاف التجربتين الشعريتين سواء على مستوى مفهوم الشعر، أو على مستوى الرؤيا . فعلي الجارم شاعر ذو مرجعية شعرية كلاسيكية ، في حين أن الملائكة مرجعيتها تمتح من تجربتين عربية كلاسيكية و غربية حديثة .
ويبدو أن شعر علي الجارم لم يكن محظوظا مع عيون النقد الحديث ، إذ أنه قرأ، وبالتالي اعتبر من تركات العهد البائد بعد ثورة يوليو 1952 في مصر، ففرضت الرقابة العسكرية طمسه من سجل الشعر المصري، ومنعت تداوله وإعادة طبعه لمدة ثلاث عقود، إذ لم ينل اعتباره مرة أخرى إلا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حيث تم طبعه و توزيعه من جديد مع باقي إنتاجاته الأخرى وهي متنوعة تتوزع بين الرواية التاريخية، وعلوم اللغة...
عود على بدء :
إنه، علي الجارم : كانت شهادة ميلاده شاعرا قصيدة "الوباء"، و ترعرع في مراتع الشعر الخصبة مخلفا ديوانا من أربعة أجزاء . شاءت الثورة أن تئده ، فأعيد إحياؤه من جديد مع بداية الثمانينيات . شاعر فتح عينيه على الشعر، و أغمضهما و هو ينصت إليه، إذ أدركته الوفاة إثر سكتة قلبية سنة 1949 ، و هو يتابع الاستماع إلى قصيدته التي كان يلقيها بالنيابة عنه ابنه في حفل تأبين محمود فهمي النقراشي .