الأحد 19 مايو 2024
منبر أنفاس

الأزهري اسماعيل: الجغرافية الصحية ورهانات المستقبل

 
 
الأزهري اسماعيل: الجغرافية الصحية ورهانات المستقبل بن سليمان الأزهري اسماعيل

تساهم الجغرافيا بمختلف مشاربها المعرفية البشرية والطبيعية منها في تمكيننا من مواكبة الديناميات الكونية بصفة مستمرة، بخاصة تلك التي تقع بين الغلاف الجوي وسطح الأرض؛ باعتمادها عدة مقاربات شكلية وموضوعية ذات أبعاد تطبيقية شاملة، باستمدادها التكاملي من العلوم الأخرى. وجغرافية الصحة كواحدة من دعائم الجغرافية البشرية، تشكل إحدى الرهانات المعاصرة لتخطيط متكامل للتنمية البشرية، بمراعاة الجوانب البيئية والأحياء التي ترافق الإنسان في محيطه على امتداد المجالات الجغرافية بتنوع نطاقاتها المناخية وظروفها الطبيعية وخصائصها المجالية.

فما هي إذن جغرافية الصحة؟ أين تتجلى أهميتها؟ كيف ظهرت؟ ما هي العوامل التي أغنتها وأدت إلى تطورها؟ ما هي ارتباطاتها بالأوبئة؟

 

مفهوم جغرافية الصحة

ــ تقودنا مفاهيم الجغرافيا إلى عدة تعريفات:

فنجدها عند (محمد أفلنوس) أنها تدرس توزيع المرضى وانتشار الأمراض في بيئات مختلفة،كما تهتم بالأنظمة الصحية من حيث توزيع الخدمات الصحية على امتداد المجال مع التركيز على خصوصيات التوزيع المكاني للأمراض بالمجتمعات النامية منها والمتقدمة.

أما (عبد الرحمان محمد الحسن) فيذهب إلى كونها تدرس العلاقة بين الجغرافيا وصحة الإنسان بالبحث عن التفسيرات الجغرافية لظهور الأمراض، وبذلك تمثل حلقة وصل بين الجغرافيا والطب يخدم كل واحد منهما الآخر دون أن يخرج أي منهما عن سياق تخصصه.

فالجغرافية الصحية إذن هي: نوع من التتبع والرصد الصحي لمختلف الأحياء بما في ذلك الإنسان إنطلاقا من محيطه الذي يعيش فيه، حيث يتمثل هذا الرصد في تفسير الظواهر المرضية وتوقعاتها بقياسات دقيقة زمانيا ومكانيا برقعة جغرافية معينة ما يتيح لنا إمكانية التدخل للحد من انتشارها ومعالجتها بالوسائل المتاحة.

 

 

أهمية جغرافية الصحة

إستمدت جغرافية الصحة قوة حضورها في العلوم الحيوية البحثية التطبيقية من المتغيرات الحاصلة على عدة مستويات سوسيو مجالية، تتجلى في التوسع العمراني بالمدن على حساب هوامشها وببروز مراكز قروية صاعدة مع نمو ديمغرافي متسارع يبعث على القلق في كثير من المجتمعات النامية، التي تعاني من نقص في جودة الخدمات الاجتماعية؛ منها الرعاية والتطبيب وسوء التغذية وضعف التوفر على ماء صالح للشرب. يتخلل هذا هجرات داخلية وخارجية بين مختلف دول العالم إضافة إلى دينامية اقتصادية تصاعدية وتغير في نمط العيش.

لقد أنتج هذا الأمر اختلالات بعدة مؤشرات على مستوى التنمية البشرية وعلى مستوى الفوارق الاجتماعية، صاحبه تطور للأمراض وتوطينها وانتشارها وتوزيعها بسطح الأرض. لذلك أصبح لزاما على الجغرافي أن يقوم بدوره المحوري في هذا السياق لتقديم تفسيرات وتحليلات تترصد هذه الظواهر وتقدم مجهودات علمية، تقربنا أكثر من تفاصيلها وتمنحنا توقعات عن المتطلبات الصحية في المستقبل بمقاربات تقنية علمية شاملة.

 

الظهور والتطور

رأت جغرافية الصحة النور في كتابات طبية قديمة تعود إلى القرن الخامس ما قبل الميلاد مع الطبيب الإغريقي أبوقراط، ونجد أيضا علماء مسلمين في العصور الوسطى لاحظو العلاقة الكبيرة بين المناخ والصحة والمرض (البشري والبيوك 1991 م.1) حيث نجد بن حوقل حاول الربط بين المناخ والنشاط البشري، والمقدسي الذي كتب عن ماء عين بطبرية تشفي بعض الأمراض، وابن خلدون وما ذكره في أثر المناخ على أخلاق البشر والعلاقة بين المناخ وسلوك الإنسان (محمدين 1993: 203)، كما نجد كتاب المسعودي (كنز الذهب) الذي أشار فيه إلى العلاقة بين البيئة والصحة، وابن رشد وبن سينا والفارابي وغيرهم من الذين وضعو إسهامات مهمة في هذا الحقل المعرفي الخصب.

ولقد عرفت أوجها خلال الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن 20 الذي كان منعطفا مهما بعد اندلاع الحربين العالمية الأولى والثانية؛ لما خلفت من أثار بيئية نتيجة المواد الكميائية لمختلف الأسلحة التي تم استخدامها في تلك الحروب. وهنا تكمن المساهمة الفعالة لجغرافية الصحة بتتبع الأمراض التي تفشت بعد ذلك في العالم، من خلال رسم خرائط طبغرافية توضح المعالم السطحية وكيف تؤثر في انتقال الأوبئة وتوزيعها مجاليا، مع محاولة إحصاء المناطق الوبائية بعدد ضحاياها والاحتياجات الضرورية للتدخل فيها.

هذه التحولات كان أيضا نقطة تحول مهمة في شق الجغرافية الصحية التي ستأخذ طابعا الرسمية شيئا فشيئا بعد تأسيس الاتحاد الدولي للجغرافيا، وعقد عدة ندوات ومؤتمرات تخص التمدن والصحة والنمو الديمغرافي وتأثير الأمراض، وغيرها من العناوين التي جعلت جغرافية الصحة في صلب اهتماماتها.

مناهج الجغرافيا الصحية

تعتمد الجغرافيا الصحية على مناهج أساسية في العلوم الإجتماعية بشكل عام والحقل الجغرافي بشكل خاص منها :

ــ المنهج الاستنباطي

ــ المنهج الإستقرائي

ــ المنهج الوصفي

ــ المنهج التحليلي

تتخلل هذه المناهج عدة مقاربات أساسية منها :

ــ مقاربة إحصائية ديمغرافية: تركز على بنية السكان والنمو الديمغرافي والاحتياجات الصحية.

ــ مقاربة طبية وبائية: ترصد آليات التدخل وطبيعة الظاهرة المرضية واحتمالات التطور المتاحة مجاليا وظروف الانتشار.

وهذه المقاربات لا بد منها من الناحية الموضوعية لاشتغال جغرافية الصحة في دينامية مختلف المجالات الحضرية والقروية، ودراسة الفوارق المجالية التي تخلف تداعيات متباينة مجاليا في صفوف الضحايا والمصابين والآثار الجانبية الناتجة عن وباء ما، والاحتياجات الصحية للساكنة بدورها يطرأ عليها تغيير كما في بنية الهرم السكاني، الذي يخضع نفسه لتعديلات جوهرية نتيجة هذه الظروف الاستثنائية. فهذه المقاربات والمناهج تسمح لنا بتحديد نسب الضرر وحسابها. بل والإحاطة بالأدوات اللازمة وتحديد الإستراتيجيات الفعالة للحد من الظاهرة أو تقليصها، أو تفادي الوقوع فيها من البداية بوضع أرضية توسع عمراني تراعي الأبعاد الصحية بكافة تجلياتها.

كما يذكر في ذلك خلف حسين الدليمي في موضوعه تخطيط المدن (نظريات ـ أساليب ـ معايير ـ تقنيات).

 

ارتباط جغرافية الصحة بالأوبئة

بنيت العلاقة بين جغرافية الصحة والأوبئة على الحاجة الإنسانية في معرفة الظواهر الخارجة عن ما اعتاده من استقرار طبيعي للمناخ وما يجده في محيطه من انقلابات فصلية اعتيادية إلا أن هذه الطبيعة السائدة غالبا ما كانت تطبعها بعض الإختلالات المغايرة للسلوك الطبيعي في مجال جغرافي ما ولعل هذا برزف في توالي المجاعات التي خلفت ورائها الكثير من الأمراض المتنقلة خلفت الكثير من الضحايا وغيرت كثيرا من ملامح خرائط التوزيع الديمغرافي والنمو السكاني بمختلف القارات

ولعل هذا ما عزز حضور أساسي لجغرافية الصحة، على اعتبار أنها الحل الأمثل لتقديم تقارير تحتوي على معطيات وجيزة ترصد مكان وزمن انتشار المرض، وتتبع أثره في مناطق الوباء. وبتكاملها مع العلوم الطبية الحيوية ساهمت بشكل كبير في فهم هذه الظواهر ومتغيراتها، مما بوأها مكانة حاسمة في البحث العلمي الجغرافي بشكل عام وبالعلوم الطبية والدراسات الوبائية بشكل خاص.

ويفسر أكثر هذا الإرتباط ما أصبح يعرف اليوم بالتغيرات المناخية التي تخلف أثار سلبية على الصحة البيئة بالأرض ومستقبل الأحياء على ظهرها بشكل خاص.

ــ التغيرات المناخية وآثارها على الصحة: أجمع الباحثون منذ أول مؤتمر للمناخ في برلين الألمانية سنة 1995م على التأثير الكبير لهذا الأخير على مستوى سطح الأرض، حيث يؤدي الإحتباس الحراري إلى العبث بالنظام الجوي الطبيعي نتيجة للانبعاثات الغازية الدفيئة السامة؛ كأحادي أكسيد الكربون وأحادي الأزوت التي تنتشر في سطح الأرض وتؤدي إلى إحداث ثقب في طبقة الأوزون، باعتبارها (طبقة الأوزون) آلة جوية تحدث فيها معظم الانقلابات الفصلية والظواهر المناخية؛ وهو غلاف غازي يحمي الأرض من الأشعة الشمسية ما دون الحمراء والفوق بنفسجية بلفظها خارجه. لكن قدرته على هذه الحماية تتضاعف مع توالي السنوات، نتيجة الأنشطة الصناعية التي يمارسها الإنسان والحرائق المتوالية في أقطار العالم.

وقد بات الخطر المحدق بالحياة على الأرض التغير المناخي والإحتباس الحراري، هذان المصطلحان اللذان أصبحا أساسيان في معجم الدول الأعضاء بمؤتمرات المناخ التي تضع نصب عينها النتائج الوخيمة التي ستحصل في حال استمرار احتراق الغازات الأحفورية والأنشطة الصناعية الغير مقننة، وكذا الحرائق الغابوية الكبيرة. كالذي حدثت العام الماضي بأستراليا أدت إلى خسائر كبيرة في صفوف الأحياء الغابوية التي كانت هناك.

إن علاقة هذا الأمر بالصحة يتجلى في ارتفاع معدل الكوارث الطبيعية وانتشار الأوبئة وانتقالها في التغذية اليومية؛ من خلال المنتوجات الفلاحية والصناعية. كما يغير خريطة التوزيع البشري، بحيث أصبحت بعض الدول تعاني مشكلة في القدرة على تعويض الأجيال، بينما تعاني أخرى من نقص حاد في التغذية والماء الصالح للشرب، وهو ما ينذر البشرية بمزيد من الانتشار للأوبئة وتطورها على مستوى العالم.

وفي هذا السياق دعى مؤتمر لجنة الإتحاد الجغرافي الدولي المنعقد بجامعة يولين بمقاطعة شنشى الصينية في غشت من العام 2017م، إلى ضرورة ما أسماها بالخطة الريفية الدوليةالتي تعنى أساسا بتطوير النظم الزراعية والهندسية؛ وفق بيئة سليمة مستدامة تواجه اكتساح المدن للمجالات حولها وتواكب التطور السكاني وحاجياتهم اليومية دون الإضرار بالبيئة.

 

النظم المعلوماتية الجغرافية في رصد التطور الوبائي بالعالم

لقد استفادت الجغرافيا الصحية من تطور الأنظمة المعلوماتية المكانية (GIS بتوظيفها في رصد وتتبع انتشار الأوبئة، وذلك من خلال اعتماد البرامج الخرائطية المتطورة مثل (ArcGIS Online) والطائرات بدون طيار وغيرها من الوسائل الرقمية السريعة، التي تساعد على رصد انتشار الوباء في بقعة جغرافية زمانيا ومكانيا بتطوره اللحظي، وتقدم معطيات دقيقة تفسر الأسباب الكامنة وراء ذلك.

ويساعد هذا النظام المكاني (GIS) في تتبع وتوفير المؤشرات التالية :

ــ رسم خرائط الصحة العمومية

ــ ترصد الأمراض

ــ الوبائيات

ــ الإمداد بالماء وتوفيره

ــ تتبع مؤشر الفقر

ــ الطوارئ والكوارث

ــ الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية

ــ الوضع العالمي والإقليمي لرسم الخرائط الصحية المناسبة

ــ المبادرات العالمية لرسم الخرائط

ــ أنشطة رسم الخرائط على الصعيد الإقليمي

وكمثال عن هذا الرصد الصحي المتقدم باستخدام أحدث الوسائل التقنية المتوفرة، ندرج الفيروس المستجد كوفيد19 الذي اجتاح العالم في غضون أسابيع من ظهوره باول بلد.

 

 

الخريطة رقم (1) صورة تبين رصد انتشار فيروس كوفيد19 بالصين ملتقطة بتاريخ 16 فبراير 2020

 

في الصورة أعلاه تظهر الخريطة تطور انتشار الفيروس من بؤرته بوهان في باقي المقاطعات الصينية بشكل دوري حيث يتم تحديث البيانات في كل 15 دقيقة بشكل يومي لتوفير معطيات دقيقة جدا لتوصيف الحالة الوبائية ومدى سرعة انتشارها وإمكانية التحكم في ذلك عن طريق هذا التتبع الرقمي اللحظي ويساهم هذا في إحصاء عدد الحالات المصابة والمتعافية ويظهر المناطق الجغرافية التي لم تتأذى بعد بهذا الفيروس التاجي covid19)).

كما تساعد هذه الأنظمة المعلوماتية في توقع كوارث طبيعية بمناطق مختلفة بالعالم، ورصد الزلازل والتقلبات المناخية ومختلف اضطراباتها ومحيط الأحياء البرية والبحرية، وتتبع المنشات الزراعية والفلاحية ومختلف الخدمات وتوطينها بخرائط حيوية دقيقة.

 

خاتمة

جعلت الجغرافيا الصحية من نفسها قوة اقتراحية كبيرة من خلال قدرتها الإستباقية على فهم معظم الظواهر الصحية بشكل أفقي وعمودي على امتداد مجالات جغرافية شاسعة بكافة مكوناتها، وما تحمله من تطبيقات علمية دقيقة لأكثر الظواهر الطبيعية تطورا والمحيرة للعالم.

إن سرعة التقدم الرقمي والطلب المتزايد على المعلومة والضغط المهول على مختلف الأنماط الإستهلاكية اليومية، واكبه من جهة أخرى تطور انتشار الأمراض والأوبة وطريقة توزيعها وتغيير كبير في الشبكة الديمغرافية العالمية والديناميات الإقتصادية الكبرى. الأمر الذي يتطلب دائما قوة حقل علمي له القدرة على مجاراة هذه التحديات، تماشيا وتكاملا مع العلوم الحيوية والاجتماعية والإنسانية الأخرى.