الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

د. رشدي رضوان: بعد كورونا.. استشراف عقد جديد عالمي للسلم

د. رشدي رضوان: بعد كورونا.. استشراف عقد جديد عالمي للسلم د. رشدي رضوان

مع اشتداد المآسي التي لحقت الإنسانية ابتداء من استعباد قارة أفريقية، واستئصال لون أحمر، وتحريك الأساطيل العسكرية للوصول إلى الثروات ونهبها إمبرياليا مع استعمار لأراضي شاسعة، وجعل أصحابها تبعا للغالب المستعمر سلطة واقتصادا... ومع هذا الركض المحموم للقوي ماديا واستئساده على دول ضعيفة فضلا عن تنافسه الشرس على الهيمنة والتملك، مما كان سببا في نشوب حربين عالميتين أزهقت ملايينا من الناس... ومع تلك الأنانية في التعامل مع ثروات الأرض وضخ الغازات السامة وتهديد كيان الإنسان الصحي... لينذر كله حقيقة بتوالي مسببات الفناء الكلي للإنسان.

 

هذا الإنسان الذي تواردت في الحفاظ عليه وجودا وعدما تعاليم الأنبياء وتصورات الفلاسفة، ما باله اليوم غدا مستصغرا مشيأ مع اجتياح دواليب الإنتاج وضرورات السوق. وهو خلاف ما عجَّت به مصنفات فلاسفة الأنوار التي أعلت من قيمة الإنسان وحريته، وجعلت الدولة تدور في فلك إسعاده وصون كرامته ابتداء مما بث في العقد الاجتماعي، وكيف أن التنازل عن الحرية الذاتية للإنسان هو تنازل عن ذات الإنسان الحقيقية وحقوقه الإنسانية عند (روسو)، ثم إن العقل عند (جون لوك) يعلم البشر جميعا لو استشاروه أنهم جميعا متساوون وأحرار، فينبغي ألا يوقع أحد منهم ضررا بحياة صاحبه أو صحته أو حريته أو ممتلكاته لأن خالق البشر كافة صانع واحد قدير على كل شيء لا تحد حكمته وهم عبيد لرب واحد عظيم بثهم في الأرض بإرادته لكي يقوموا على شؤونه لا شؤونهم، بل إن "هوكر" قد اعتبر أن هذه المساواة بين البشر من الأمور البديهية التي لا يتطرق إليها شك. ولذلك يجعلها الأساس الذي تقوم عليه فريضة التحاب بين البشر، وهي فريضة تبنى عليها واجبات الواحد منهم نحو الآخر ويستنبط منها قواعد العدالة والمحبة الكبرى.

 

والسؤال الذي يطرح ها هنا، هو لم انزاحت الإنسانية أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين وهذا القرن نحو الرؤية الطبيعية الشرسة المباينة للتمدن والتحضر الذي يجب أن يكون مؤسسا على تصورات مفكرين معتبرين؟

 

إن هذا السقوط المدوي للإنسانية في نظري إنما كان مؤسسا على الإعلاء من الرؤى الغرائزية للإنسان التي ترى أن الطبيعة تنتقي الأقوى والأجود جينيا مع توالي التثقيف المستمر لعنصرها ودرء الضعيف واستبعاده. والمآل التصفوي للأجناس لا يكون إلا بالبقاء للأقوى، وهذه القاعدة يمكن أن تسري على الأجناس البشرية والدول بزعمهم، بل إن الإله إنما مات برحمته، وليس باقتداره وقوته كما تكلم في ذلك (زراديشت)، ثم إن جوهر اللذة حقيقة إنما هي اللذة الغرائزية المحددة للسلوك الإنساني في ما فوق اللذة عند (فرويد).

وحيث إننا نعلم أن التصور الفلسفي المستحكم في ذات المعتقد له تأثير كبير على التجسيد الفعلي الواقعي، فإن قوة الدفع عند الأقوى ماديا ستتساوق مع تلك الرؤية الغرائزية التي تُفَيِّء الجنس البشري وتستصغر الضعيف فيه ليكون محلا للضعة والاستعباد والحط من كرامته ونهب خيراته...

وحين تم التغاضي عن جوهر العلية، فقد فُسح المجال رحبا نحو التعامل مع الطبيعة كشيء خال من الحكمة من وراء خلقته، ومن ثم فالقوة الاقتصادية إنما هي التي تبنى عن طريق التجريف البشع والاستنزاف القوي للخيرات دون رادع، مما أطال يد الاستغلال البشع للموارد وإبادتها وكأنه ليس هناك أجيال قادمة آتية ستنعم بتلكم الخيرات مستقبلا...

 

نعم، لقد بين الواقع العالمي أن الركض الطبيعي نحو المصالح الذاتية ورفاه الشعوب المقتدرة القوية،  كيف أنه أدخل الإنسانية في صراع الاستنزاف الهمجي للثروات وتسارع حثيث لوتيرة الاحتراب مع ابتكار وسائل الإخضاع المذل للشعوب والدول الضعيفة... وكل ذلك كان إيذانا بظهور أوبئة تجتاح العالم سواء على صعيد الصراع الجرثومي المحموم بين الدول العظمى، أو نتيجة التدمير المستمر للبيئة وثرواتها، بل إن الإنسانية قد تتوقع الأسوأ مستقبلا إذا سارت على المنهج المادي المدمر للكيان البشري.

 

لكل ذلك فإننا نأمل بعد مضي أزمة كورونا أن يقف مفكرو العالم لتستعيد الإنسانية إنسانيتها بالإعلاء من فكرة السلم التي حمل لواءَها فلاسفة قدماء كالرواقيين الذين قعدوا للسلم منذ القرن الثالث قبل الميلاد وذلك بالتحرر من الفروق المصطنعة التي تكون سببا للصراع، فضلا عن الفارابي في "آراء أهل المدينة الفاضلة" وكذا الفيلسوف الألماني (كانط)  الذي وضع اصطلاح عصبة الأمم لعنايته الأكيدة بمسألة السلم في كتيبه مشروع للسلام الدائم. ولم تكن التوجيهات الدينية بمعزل عن هذا الإطار، حيث إننا نجد نصوصا قرآنية متضافرة على الحفاظ على السلم وحق حياة الإنسان.

 

من أسس السلم التي نعتقد أنها يجب أن تسود بعد الجائحة:

1- سيادة المذهب الإنساني الذي تكون فيه البحوث العلمية والقدرات التصنيعية والرفاه الاقتصادي في خدمة الإنسان أولا وأخيرا، مع الابتعاد الكلي عن النزعة التسلطية على ثروات الشعوب المختلفة، لاسيما وإن الثروات المبثوثة في الكون إذا خضعت للتعامل الاقتصادي الموضوعي فإن تجويع الشعوب سينحسم، ونظرة يسيرة إلى أفريقيا الغنية بمواردها تكفينا لنستخلص أن الفقر أو التفقير إنما هي مسألة مصطنعة بهيمنة المستعمر الغالب.

2- سيادة الدولة الديمقراطية المحايدة التي تستوعب التوجهات الفكرية الفلسفية العديدة وتستطيع لأن تكون محلا لتنزل البرامج السياسية المختلفة، مع ابتعاد كلي عن الدولة العقائدية المؤسسة على فكرة وعقيدة معينة. وقد أثبتت التجارب أن الدول العقائدية استبدادية في ذاتها لأنها لا تؤمن بنسبية أفكارها ولا تستوعب المخالف لها، وكم من واحد يعيش فيها حين لا ترقه أفكارها يتعرض لكثير من القهر بسبب هيمنة الفكر الواحد والإيديولوجية الواحدة، وطبيب يوهان (لي وينليانغ) نموذج ساطع في ذلك.

3- إبعاد الاعتداد بالذات الدينية في أي صراع بين الدول، واستحداث تعاهد بين أفراد الديانات السماوية خاصة على نفي عن أي شكل من أشكال احتكارية الخلاص فيما بينهم، أو الميلان نحو تأجيج الحروب الدينية، وقد مررت على آيتين قرآنيتين تؤكدان بوضوح على استيعاب الخلاص الأخروي لجميع التصورات الدينية شرط الإيمان بالله واليوم الآخر. ( البقرة 62، المائدة 69).

4- التركيز على الإنسان دراسة وقيما وإسعادا بحيث تكون المناهج الدراسية مؤكدة على نفاسته وقوته المعرفية والوجدانية مما يؤهله لتحقيق سيادته في الوجود، ومن ثم فأي حرب وأي وسيلة تفضي إلى إفناء النوع البشري كليا أو جزئيا هي محضورة قطعا، بحيث إنه يجب أن تتحالف جميع القوى الإنسانية على صد جميع محاولات الاحتراب والصراع المسلح أو الترويج السياسوي للسلاح ونشره.

5- جعل التصورات الفلسفية التي تبوئ الإنسان مكانة سامقة في الوجود راجحة على التصورات الفلسفية الاقتصادية التي ترى في الإنسان موردا أو أداة للإنتاج أو وسيلة للقوة الاقتصادية، وكأنه قد آن الأوان لكوبرنيكية الإنسان وجعل كل شيء يدور في فلكه هو دون غيره من عالم الأشياء الآفل.

 

- د. رشدي رضوان، رئيس مركز ابن رشد للدراسات والبحوث الإنسانية