الخميس 28 مارس 2024
خارج الحدود

كيف نتعلم سيكولوجيا الكوارث من سيراليون؟

كيف نتعلم سيكولوجيا الكوارث من سيراليون؟ عندما اجتاحت إيبولا سيراليون (أرشيف)

لا شك أن غالبيتنا لا يزالون يتذكرون الذعر والهلع الذي أحدثه تفشي وباء إيبولا الخطير في أجزاء من غرب إفريقيا عام 2014، فقد أدى إلى وفاة عدة آلاف من الناس، إضافة إلى ما خلفه لديهم من آثار نفسية. لقد توجس السكان القرويون من نوايا العاملين في مجال الصحة ومنعوهم من إنجاز مهامهم واتهموهم بالعمل على نشر المرض، وقد تعرض بعضهم للقتل بسبب بدلاتهم الغريبة، التي تشبه لباس رواد الفضاء أو مخلوقات غريبة قادمة من عالم أخر لكي تنشر الوباء بينهم وتحتل أرضهم.

 

لقد ساهمت الثقافة المحلية لسكان القرى وأنماط السلوك في تفشي هذا الفيروس القاتل بينهم؛ حيث أن طقوس السكان "الغريبة" في دفن الموتى، كانت تقوم على الاحتفاظ بالشخص الميت عدة أيام والاتصال به وارتداء ملابسه.

 

وكان أهم دور مناط بالأخصائيين النفسانيين هو العمل على إقناع القرويين بتغيير تصوراتهم حول المهام التي كان يقوم بها العاملون في مجال الصحة من جهة، وتكييف طقوس الدفن كي لا تساهم في نشر الوباء. وتهييء الأرضية السيكولوجية في وجدان السكان من خلال دعم الأشخاص الذين عانوا من الاضطرابات التالية للصدمة التي خلفتها الحروب الأهلية وكذا الوفيات الناتجة عن الوباء.

 

عملت جمعية "الالتزام والعمل" الألمانية على افتتاح أول عيادة للصحة النفسية في "بوBo " بسيراليون عام 2009. واعتمدت فيها كتقنية علاجية بما يعرف بالموجة الثالثة من العلاجات المعرفية السلوكية: "العلاج بالتقبل وبالالتزام"La Thérapie d’Acceptation et d’Engagement (ACT)  بعد أن علمت "بيتي إبيرت" Beate Ebert، رئيسة الجمعية بألمانيا بالمجازر الوحشية التي ارتكبت بسبب الحرب الأهلية وآثارها النفسية الفظيعة التي خلفتها في حياة الناس.

 

أدى هذا التدخل إلى جعل السكان المحليين أكثر التزاما ومبادرة في التصدي لانتشار وباء إيبولا وتأثيراته على الجانب النفسي، كما اكتسبوا المرونة والمناعة لمواجهة الأزمات في المستقبل.

 

أشرفت الأخصائية النفسانية "بيتي" على تدريب المستشارين المحليين على تقنية علاجية معرفية سلوكية شهيرة عرفت باسم: "العلاج بالتقبل وبالالتزام" من أجل مساعدة أولئك الذين عانوا من الصدمات النفسية جراء الحروب الأهلية. وكان لهذه التقنية العلاجية المدعومة بالأدلة أثرا بالغا على تحسين حياة الناس، حيث تم تكييفها مع جميع أنواع المشكلات ومع الثقافة المحلية.

 

لم يكن أحد من سكان القرى النائية لسيراليون يعرف ماهية علم النفس أو حتى سمع به، لكنهم كانوا سعداء جدا بمجيء غرباء ليستمعوا إلى قصصهم وإلى معاناتهم (أيادي مبتورة من قبل الثوار، اعتداءات جنسية على النساء، خطف للأطفال وتدريبهم على القتل بلا شفقة...). لقد ساعدتهم جمعية "الالتزام والعمل" على استعادة الثقة في النفس مرة أخرى وتخطي الأفكار السلبية والمشاعر المؤلمة، وإيجاد معنى للحياة.

 

عادت "بيتي" من جديد إلى سيراليون مع مجموعة مهمة من الأخصائيين النفسانيين الكبار: طوماس سزابو، أنا بوكاري، كارولينا جافيريا، جينيفر ناردوزي وبمساعدة "ستيفان هايز" Steven C. Hayes واحد من أكبر مؤسسي العلاج بالتقبل وبالالتزام. وقد ساعدت السكان المحليين هذه المرة لتجاوز الآثار النفسية المترتبة عن اجتياح وبال إيبولا الفتاك للمنطقة.

 

ولقد مكن "العلاج بالتقبل وبالالتزام" ACT من التصدي للشائعات التي تدعي عدم وجود فيروس "إيبولا" وتنشر الهواجس من الحكومة بأنها تعمد إلى قتل معارضيها السياسيين. لقد ساهم التثقيف النفسي في منطقة "بوBo " بسيراليون إلى تناقص عدد الإصابات بين الناس بشكل جوهري مقارنة مع المناطق والقرى التي لم يشملها التدخل، وكان للأخصائيين النفسانيين المتطوعين دور أساسي في ذلك. كما استمر تدريب المساعدين النفسانيين والاجتماعيين على كيفية تقديم المساعدة النفسية للمجتمع، كي يكونوا متأهبين للتصدي لتفشي أي وباء جديد في المنطقة. واكتسب السكان الأمل والسعادة من جديد بعد انفراج سماء بلادهم من الحروب الأهلية وتفشي الوباء.

 

نجحت السيكولوجيا في سيراليون في إيقاف تفشي وباء إيبولا وعلاج ضحايا الحروب الأهلية من الصدمات النفسية واسترجاع الأمل في الحياة بين السكان. ولم يكن ذلك كله ممكنا دون تضافر الجهود والشراكة الحقيقة البناءة بين جمعية "الالتزام والعمل" الألمانية والقرويين والحكومة والجمعيات الأهلية المحلية رغم الإمكانيات والموارد المتواضعة.

 

لقد كان للبحث-التدخلي Recherche-Action الذي قادته "بيتي" وفريقها هو الأسلوب النموذجي لتنزيل المقاربة العلاجية بالتقبل والالتزام. لقد أتبث البحث التدخلي في مختلف بقاع العالم فعاليته في إنجاز تدخلات إجرائية بحيث يمكن اعتباره أسلوبا لا غنى عنه للممارسين في علم النفس الذين يرغبون في إحداث أثر إيجابي بشكل فعال. حيث تقوم فكرته على التطوير التشاركي للمهارات الاجتماعية الإيجابية Pro-social skills لدى المجتمع المحلي، الذي من مخرجاته: تحقيق الصحة النفسية والرفاهية ورهانات المجتمع؛ من خلال تعزيز روح التضامن والالتزام والعمل.

 

- د. حسن بودساموت، أخصائي نفسي وباحث