تاريخيّاً قاد الاتحاد الاشتراكي، وهو امتداد للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مسيرة الجماهير الواعية التي أطّرها المثقفون الثوريون والمناضلون النقابيون والمقاومون وأعضاء جيش التحرير والمناضلات الاتحاديات. وكان الاتحاد أول حزب واجه الحكم المُطْلق وطالب بالديمقراطية وطرحَ شعار "الحل الوحيد هو إعطاء الكلمة للشعب". وتحت ضغط المظاهرات الشعبية والإضرابات العمالية والحملات الصحافية بواسطة جريدتي "التحرير" اليومية و"الطليعة" الأسبوعية، اضطر النظام إلى القبول بإجراء الانتخابات في بعض القطاعات.
وفي ماي 1960 شارك الاتحاد في انتخابات الغرف التجارية والصناعية وفاز بأغلبية المقاعد. وفي نفس الشهر حقق فوزا آخر في انتخابات المجالس البلدية.
سبّبتْ تلك الانتصارات صُداعاً حاداً في رأس النظام، وأزعجه التجاوب الشعبي الواسع الذي يحظى به الحزب الوليد (تأسس الاتحاد يوم 6-9-1959)، فشن حملة دعائية عشواء ضد المعارضة الاتحادية عن طريق الإذاعة والصحف المأجورة، وجنّد فُقهاءَ البُهتان الذين قاموا بالتضليل الديني لتشويه سُمعة المناضلين التقدميين واتهموهم بالزندقة والإلحاد. وكان الاتحاد الوطني يضمّ في صفوفه وُجوهاً بارزة من المكافحين الذين تلقوا تعليماً دينياً في جامعة القرويين بفاس وكلية بن يوسف بمراكش و تفتّح فكرُهم على العلوم الحديثة والثقافات العالمية. وكان في مقدّمتهم مولاي عبد الله إبراهيم الذي تابع دراسته في جامعة السوربون بباريس، والفقيه محمد البصري، وعبد السلام الجبلي، ومحمد بن سعيد آيت يدّر، والحبيب الفرقاني وعبد النبي بن العادل، ومحمد الحبيب مُحي، وعمر الساحلي، ومحمد الوديع الأسفي ومحمد بوراس الفيكيكي، ومحمد عابد الجابري وغيرهم .
نظّم المناضلون المسلّحون بالفكر المستنير تجمعات جماهيرية في مختلف المدن، وأعلنوا أن الصراع ليس بين المؤمنين والملحدين بل هو بين اللصوص الذين سرقوا ثمرة الكفاح الشعبي وبين المُطالبين بالتوزيع العادل لخيرات الوطن. وشنّ التقدميون حملةً مضادة ضد الفقهاء الرجعيين وسفًهوا أفكارَهم الظلامية وقارعوهم بسلاح الدين، الدين الثوري التحرري، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى الشورى والعدل وتؤكد على اختيار الإنسان لأفعاله. ولا أزال أتذكر شعارا كان يتردّد في التجمعات الجماهيرية "هذي ألف سنة وانا مسلم وانت يا الرجعي كذاب ما تحشم". ولقي الفكر الديني المستنير تجاوبا عظيما من طرف الجماهير وكان ذلك مَدخلاً لنشر الوعي الصحيح في أوساط الشباب وإبعادهم عن الفكر الغيبي ألظلامي.
كان التأطير الإيديولوجي يتجنّب الاصطدام بالمُعتقدات الدينية ويرتكز على إبراز ما أنجزه العقل الإنساني من اكتشافات علمية وصناعية وتقنية، ويفضح الفقهاءَ الرجعيين الذين ينشرون الخُرافات والاتّكالية وأساطير الماضي ويحاربون الاجتهاد والإبداع ويُعطّلون عقل المسلم. كانت هذه اللغة جديدة وبسيطة ومفهومة عند المُتلقّي. وازداد الإقبال على الانخراط في صفوف الاتحاد.
كان تنظيم الخلايا الحزبية يتمّ على أساس المهنة، طلبة، عمال، فلاحون، صنّاع تقليديون. فلكل قطاع مشاكله الخاصة ومصالحه، وحتى اللغة التي يتكلم بها المُسيّر مع الطلبة ليست هي اللغة التي يتحدث بها مع العمال أو الصنّاع التقليديين. كان التنظيم الحزبي يرتكز في الأحياء والمقاطعات بجميع المدن وحتى في البوادي التي يسودها القمع. ففي الدار البيضاء مثلا كان كل مسيّر يُشرف على جماعتين أو ثلاثة في أسبوع واحد يوجّهها سياسيا وإعلاميا وفكريا وتتم اللقاءات مسَاءً. وأتذكر من بين هؤلاء المناضلين المتفانين في خدمة قضايا الجماهير: عمر بن جلون ، محمد باهي، امحمد بن الظاهر، محمد الحداوي البارودي، احمد صبري، علي الهواري، أحمد الخراص، وغيرهم من المناضلين والمناضلات الذين غابت عني أسماؤهم .
وقام الحُكم المُطْلق بمحاولة أخرى لوقف تدفّق الجماهير المدِينيّة على صفوف الاتحاد، فكلّف مستشارَه رضا كديرة بتأسيس حزب "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية" التي جمعت يوم 23- 3 - 1963 خليطا من الموظفين والمثقفين الانتهازيين وعملاء الاستعمار الحاقدين على المقاومة وأذناب السلطة. وبعد مرور شهرين فقط تم الإعلان عن فوز (حزب الملك) بالانتخابات البرلمانية ليوم 19-5-1963 .
ففي البوادي كان أعوان السلطة يسوقون قبائل بأكملها، نساءً ورجالاً، ليقطعوا مسافات طويلة على الأقدام قبل الوصول إلى مركز "القيادة" ويضعوا الأوراق التي تُعطاهم في صندوق الاقتراع أمام كاميرات التلفزيون الرسمي. وبالمدن الصغرى والأحياء الفقيرة كانت أكياس الدقيق وقنينات الزيت والسكر هي ثمن التصويت لفائدة الحزب المصنوع .
أما في المدن الكبرى التي كان فيها الوعيُ نسبيّاً مُتقدّماً والتنظيم الحزبي راسخاً، فقد نظم الاتحاديون مُراقبة حازمة في مكاتب التصويت وتتبّعوا بيقظة مراحل الاقتراع وفرز الأصوات، وكانت النتائج صاعقة بالنسبة للنظام. لقد تمكنت الجماهير الواعية من إلحاق هزيمة مُدوّيّة برموز (حزب الملك) وأسقطت ستة من وزراء حكومته، وهم: المحجوبي أحرضان، عبد الهادي بوطالب، أحمد العلوي، محمد بنهيمة، إدريس السلاوي، يوسف بلعباس .
كان لابد من التذكير بتلك اللحظات التاريخية التي اعتنقت فيها الجماهير أفكار اليسار التقدمي الذي كان مُلتصقاً بالطبقات الفقيرة، يذهب عندها ويبحث مشاكلها ويتقاسم همومها ويدافع عن قضاياها. فأين هو اليوم اليسار الثوري (الاتحاد الاشتراكي، منظمة إلى الأمام، 23 مارس) الذي كتب ملاحم بطولية في الكفاح ضد الحكم الاستبدادي وقدّم خلالها المئآتُ من أحسن شباب المغرب أرواحَهم دفاعا عن حقوق المقهورين والمستضعفين؟
إن نهاية الاتحاد الاشتراكي كانت مأساوية. لقد نحره المُرتدّون والانتهازيون قرباناَ لمعبد الاستبداد مقابل الجلوس على كراسي (حكومة التناوب) ونتج عن الانحراف المُشين والتنكر للمبادئ الثورية أن غطسَ عدد من أطره في مرحاض الفضائح المالية وشوّهوا سُمعة حزب المقاومة والتضحية في الأوساط الشعبية. ولم يعد حاملا لأية رسالة فكرية أو نضالية ولا لأي مشروع اجتماعي، وأدى ذلك إلى انسحاب المناضلين الجادّين، وابتعدت عنه الجماهير الواعية التي كانت تمثل قوته، وانفجرت الصراعات بداخله وانقسم إلى عدة أجزاء وتطايرت شظاياه في كل اتجاه .
لقد أكدت تجربة الكفاح الثوري أن جميع الذين ركبوا سفينة "المخزن" بدون شروط، نزلوا منها عُراة مُجرّدين من الكرامة والشهامة.