لم يحدث أن غنت كوكب الشرق أم كلثوم لملحن من خارج مصر، باستثناء مرة واحدة. جرى ذلك بفعل الصدفة على أرض المغرب أثناء الزيارة التي قامت بها الفنانة الكبيرة لبلادنا سنة 1968. يتعلق الأمر بمشاركتها في الأداء الجماعي لأغنية «يا رسول الله خذ بيدي»، والتي لحنها الموسيقار المغربي
الكبير الراحل صالح الشرقي: أما التفاصيل فيرويها هذا الأخير بنفسه في حوار سبق أن أجرته معه جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 3 نونبر 2004: «الحكاية حدثت بالصدفة. في سنة 1968،
حلت أم كلثوم ضيفة على المغرب. وأقام الأمير الراحل مولاي عبد الله وحرمه السيدة لمياء الصلح حفل عشاء على شرفها في قصرهما، دعانا إليه نحن أعضاء الجوق الوطني لتنشيطه موسيقيا من خلال تقديم بعض الفقرات والموشحات. قبل بداية الحفل، سألنا الأمير الراحل عن محتويات البرنامج الفني، أخبره أحد الأعضاء، وهو الفنان ابراهيم القادري، بالعمل الموسيقي الغنائي الجديد، موشح «يا رسول الله خذ بيدي» الذي كنت قد انتهيت من تلحينه، تلبية لطلب جلالة الملك الحسن الثاني.
استحسن الأمير الراحل الفكرة، وشرعنا في تقديم الأنشودة، فاسترعى انتباهي أن أم كلثوم تنصت إلى الأغنية باهتمام شديد، ونادت على أحد أعضاء المجموعة الصوتية ليسمعها كلمات القصيدة. وفجأة وقفت من مكانها كالهرم، وتقدمت نحو الفرقة الموسيقية في لحظة مؤثرة بالنسبة لي، ارتبكت شخصيا خلالها، فقدت توازني، وغابت الأوتار عن عيوني، وأنا أرى وأسمع أم كلثوم بتاريخها الفني، وصوتها الساحر، تنشد معنا في اندماج غنائي «يا رسول الله خذ بيدي».
في التفاصيل كذلك أن أم كلثوم قد أدت هذه الأغنية مرة ثانية في حفل بمدينة مراكش خلال نفس الزيارة. ولولا مبادرة الشرقي بتسجيل الأغنية شخصيا لظل أرشيفنا الغنائي فقيرا في هذا المستوى، ذلك أنه هو من مد جهاز الإذاعة والتلفزة بالتسجيل الذي سمعه مغاربة نهاية ستينيات القرن الماضي، المتردد إلى حدود اليوم، والتي أثرت رصيدنا الغنائي الوطني المتعلق بالمستوى الديني، إلى جانب الأغاني الشهيرة: «من ضي بهاك» لمحمد الحياني، «يا محمد صاحب الشفاعة» لإسماعيل أحمد، «يا القاطعين الجبال» لعبد الهادي بلخياط، «الحرم يا رسول الله» لعبد الصادق شقارة ومحمد بوزوبع، «مزين مديحك» و«الله يا مولانا» لناس الغيوان، إلى غيرها من التحف المغربية الأصلية.
أما كلمات هذه الأغنية فتختلف المراجع بين من ينسبها إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، حيث يروى أنها إنتاجه اليتيم في هذا المجال، وبين من ينسبها إلى دفين بغداد رجل العلم والتصوف عبد القادر الجيلاني. والأغنية كما هو واضح من معجمها وأجوائها الروحانية عبارة عن شحنات عاطفية قوية يتوجه من خلالها الشاعر نحو التماس التضرع من بركات نبينا المصطفى.
وقد اختار الملحن صالح الشرقي قالب الأنشودة الدينية المتناغمة مع طابع الكلمات الابتهالي. وقد أسندها إلى «كورال» الجوق الوطني آنذاك، وقد منحتها الخامات العليا لصوت أم كلثوم ما يلزمها من مساحات صوتية عالية.
يشار بهذا الخصوص إلى أن أغنية «يا رسول الله خذ بيدي» تظل أشهر أغاني صالح الشرقي، مع أنه من كبار الموسيقيين المغاربة الذي رافق الجوق الوطني إلى حين تقاعده عازفا على آلة القانون الفريدة، وإلى جانب ذلك يسجل لهذا الفنان كتاباته الرصينة في مجال البحث في التراث الموسيقي المغربي
والعربي. وفي هذا الإطار أصدر الكتب التالية:
-القانون في الموسيقى المغربية
-المستظرف في قواعد الفن والموسيقى
-أضواء على الموسيقى المغربية
-الموسيقى المغربية
- الإيقاع والمقامات
-الثلاثي، الرباعي، الخماسي
-جل ترى المعاني
كما كانت له مبادرة تأسيس فرقة موسيقية بعنوان «الثلاثي الموصلي» خاصة بعيون الموسيقى العربية. وقد مثل المغرب من خلال هذه الفرقة في جل أنحاء العالم، وضمنها زيارته للهند التي كان يعتبرها دائما أفضل ذكرياتها الموسيقية على امتداد حياته.
لقد كان الشرقي رحمه الله مثالا نادرا لدماثة الأخلاق وأصالة بحثه الموسيقى. وقد كان له ذلك بفضل سعة اطلاعه وربطه بين العزف والتلحين والبحث في خزائن تراثنا الموسيقي المغربي والعربي.

كلمات الأغنية

يَا سيِّدي يا رســولَ الله خُذْ بيدِي/
ما لي سِواكَ ولا أَلْـــوي على أحدِ
فأنتَ نورُ الهدى في كلِّ مُنْسلَكٍ/
وأنتَ سرُّ الندى يا خيـــرَ معتمــدِ
وأنتَ حقًا غياثُ الخلقِ ســيِّدُهُمْ/
وأنتَ هادي الورى للهِ ذي السّــدَدِ
يا مــن يقومُ مقــامَ الحمــدِ منفردًا/
للواحـــــدِ الفردِ لـم يولــد ولـم يلــدِ

يا مــن تفجّرت الأنهـــارُ نابعةً/
من أصبعيهِ فروّى الجيــشَ بالمــددِ
إني إذا ســامني ضيمٌ يُروِّعُني/
أقولُ يا سـيدَ الســـاداتِ يا ســــندي
كُن لي شفيعًا منَ الرحمنِ من زللٍ/
وامنُنْ عليَّ بما لا كان في خَلَدي
وانظرْ بعينِ الرضا لي دائمًـا أبدًا/
واستُرْ بفضلكَ تقصيري إلى الأمدِ

واعطفْ عليَّ بعفوٍ منكَ يشملني/
فإنني عنــــكَ يـا مـــــولايَ لـم أحِـدِ
إني توسَّلتُ بالمختارِ أفضلِ من/
رقَى الســــمواتِ ســرِّ الواحدِ الأحدِ
ربُّ الجمــالِ تعالـى اللهُ خالقــهُ/
فمثلــهُ فـي جمــيعِ الخـــلقِ لــم أجِـــدِ
خيرُ الخلائقِ أعلى المرسلينَ ذُرًى/
ذخرُ الأنـامِ وهاديهمْ إلى الرشــدِ