الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الرحمان العمراني: في ذكرى السي محمد جسوس الاتحادي الأصيل والسوسيولوجي المبدع 

عبد الرحمان العمراني: في ذكرى السي محمد جسوس الاتحادي الأصيل والسوسيولوجي المبدع  عبد الرحمان العمراني

كلما مررت أمام المدخل الرئيسي لمدرسة الإدارة العمومية بالرباط، عند مدخلها بشارع النصر، تذكرت الأستاذ الكبير المناضل الفذ وابن فاس النبيل والمثقف الغرامشي بامتياز السي محمد جسوس رحمه الله.

أذكر أننا  كنا نستعجل مقدم  يوم الثلاثاء مساء يوم درس السوسيولوجيا السياسية للأستاذ جسوس، برسم السنة الثانية من دبلوم الدراسات العليا سنة 1977. كانت الساعتان المخصصتان للحصة بين السادسة والثامنة مساء تمران كأنها بضع دقائق.

أذكر أن الصديق كريمي علي كان يطرق باب منزلي ابتداء من الخامسة، ويقول لي مازحا: هيء نفسك لحصة السوسيولوجيا، هيء نفسك لإزالة كل الغمة الفكرية والسياسية التي تراكمت خلال الأسبوع وتجديد بطارياتك الفكرية .

على يده توسعت بشكل مضاعف آفاقنا في التحصيل المعرفي السوسيولوجي بانفتاحنا على الإنتاج الأنجلوساكسوني والألماني والإيطالي، مع  تالكوت بارسونز وورايت مايلز وهازارسفيلد وماكس فيبر وألفريدو باريتو وآخرون، بعد أن كانت هذه المعرفة قد توقفت عند كورفيتش وسان سيمون مع المرحوم رشدي فكار، أربع سنوات قبل ذلك، في إطار درس المدخل للسوسيولوجيا في السنة الأولى حقوق .

كان السي محمد جسوس رحمه الله يحث على ضرورة أن ينفتح التكوين الحقوقي على إسهامات العلوم الإنسانية. أذكر أنه قال لنا مرة إنه لا يمكن تفسير القانون الدستوري بالقانون الدستوري.. لا بد من أدوات فهم وتحليل أخرى للبحث فيما وراء الفصول.

وبينما انشغلنا نحن ببعض المفاهيم نستقيها من الأدبيات العالمية في توصيف بورجوازيتنا من قبيل: مفهوم البرجوازية التابعة أو الكمبرادورية، أبدع السي محمد جسوس مفهوم "البرجوازية الهمزوية" المتحينة للفرص والمنتهزة للهموز أساسا لثراوتها وتراكمها الرأسمالي .

كان لسي محمد جسوس موهبة خاصة، ودربة لا يضاهيه فيها أحد في المزج بين أرقى الطروحات والمقاربات السوسيولوجية العالمية، وبينها ما يختزنه الموروث الشعبى المغربي من أمثال، كان يحفظ جسوس عددا هائلا منها، ويعتبرها خزانا حقيقيا لمعرفة سوسيولوجية عميقة لا ينقصها سوى الطلاء المفاهيمي.

من الأمثال التي ما زلت أذكرها، والتي كان يرددها مفسرا بها أوضاعا وسياقات مجتمعية: "القرع بفلوسو أرا داك الرأس نبوسو"، "ماكلة السبوعا ولا تمرميدت الكلاب"، "قليل ومداوم ولا كتير ومقطوع"... وعشرات من أمثالها.

وفي المجال السياسي الحزبي التأطيري، الذي شغل النصف الثاني من حياته، كان المثل وكانت الدعابة تلاحقان السي محمد جسوس كظله.

أذكر في تجمع جماهيري حاشد في الانتخابات البلدية لسنة 1976 بساحة السوق الصغير بالعرائش، وهو يحث الناس على الجهر بالحقيقة وعدم الاختباء عند قولها "باراكا ما تعطيوا الصباع من تحت الجلابة".

كان السي محمد جسوس يعيش مبادئه.. لم يتوان فعلا عن قول الحقيقة ساطعة واضحة. ناضل بشموخ وإباء في الحقل المعرفي، كما السياسي، مرددا دائما" أن السياسة بدون ثقافة عرجاء، والثقافة بدون سياسة عمياء".

في سنواته الأخيرة كان السي محمد جسوس يفتتح تجمعاته الخطابية بالآية الكريمة، وهو يشير إلى صور شهداء حزب القوات الشعبية (يوم كان كذلك مع رجالاته المعروفين): "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"، صدق الله العظيم.

نم قرير العين السي محمد جسوس، سليل فاس القرويين والمدرسة الاتحادية في زمانها الأصلي الأصيل. لقد كنت من أولئك الذين "لم يبدلوا تبديلا"، ولذلك استحقيت كل تقدير شرفاء هذا الوطن في الحقل السياسي، كما في الحقل الجامعي الأكاديمي.

لترقد روحك في سلام.