الأربعاء 1 مايو 2024
فن وثقافة

يوسف لهلالي يرصد نهاية المثقف الفرنسي في كتاب شلومو صاند

يوسف لهلالي يرصد نهاية المثقف الفرنسي في كتاب شلومو صاند

تم في نهاية الأسبوع طرد أكاديمي ومثقف فرنسي يدعى فينكيل كروت من طرف شباب غاضب من النقاشات الليلية التي تعرفها ساحة لاريبيبليك بباريس، وهي سابقة في تاريخ هذا البلد الذي كان شبابه يحتفي بالمثقفين ويدخلون إلى جميع الفضاءات حتى التي يسيطر عليها الفوضويون دون أن يمنعهم أحد من الكلام. اليوم صورة المثقف الفرنسي هي صورة فينكيل كروت، هو حاضر بجميع التلفزات ووسائل الإعلام الفرنسية الخاصة والعمومية، لكن يطرده الشباب من حلقة نقاش عمومية بشعارات "إذهب أيها الفاشي"،" إذهب أيها العنصري"... وهو عضو بالأكاديمية الفرنسية...

هل مازال هناك مثقفون بفرنسا؟ المؤرخ شلومو صاند في كتابه الجديد "نهاية المثقف الفرنسي، من زولا إلى هولبيك" يطرح هذا السؤال بحدة. كان المثقفون الفرنسيون في جميع المعارك من إجل مساندة كل المقهورين والمعذبين ببلدهم أو عبر العالم، كانوا دائما في صف الدفاع عن الأقليات الثقافية والدينية، اللاجئين، المهاجرين والطلبة والعمال ومن أجل المساواة في الحقوق بفرنسا وباقي العالم. كانت باريس ومثقفوها في الطليعة العالمية من أجل الدفاع عن عالم أفضل. وكانت باريس تستقطب المثقفين والفنانين من مختلف بقاع العالم من أجل هذه المعارك النبيلة، الجميع كان يحلم بباريس.

من فولتير إلى بودريو دون أن ننسى فيكتور هيغو وإيميل زولا، جون بول سارتر وفوكو، كانت كلها أسماء كثيرة ترمز لفرنسا وباريس على الخصوص، لكن ما يسمى اليوم بالمثقفين بفرنسا أصبحوا رجعيين، ومعادين للإسلام وعنصريين ويبررون الميز والعنصرية بفرنسا وبعضهم لا يخفي دعمه لليمين المتطرف والانطواء الهوياتي، وأهم هذه الأسماء يمكن تلخيصها في زمور، هيلبيك وفينكلكروت... وآخرين غير معروفين.

هذه الملاحظة الصادمة حول الوضع بفرنسا وصل إليها المؤرخ شلومو صاند في كتابه الجديد "نهاية المثقف الفرنسي، من زولا إلى هولبيك"، هذا الكتاب يلخص تراجع مثقفي فرنسا ومكانة باريس الثقافية عبر العالم والتي كانت تلعب دورا أساسيا في السابق في عالم الفن والأفكار وفي الدفاع عن التنوع والكونية. وهو ما بدأ مع عصر الأنوار "هذه الأنوار الفرنسية نشأت مع فلاسفة متميزين مثل فولتير، روسو وديدرو، وهو وجه جديد للمفكرين اللائكيين الذين لهم علاقة خاصة ونقدية مع السلطة... فيكتور هيغو ساروا على خطاهم".

المؤلف في كتابه قام بالعديد من الملاحظات منها أن المثقف الفرنسي يفضل اليوم أن يكون رجعيا على أن يكون في مسار المثقف الثوري. كما أشار إلى الدور المركزي جدا للعاصمة باريس في الحياة الثقافية الفرنسية.

صاند شلمون لاحظ أيضا أن النظرية الوجودية والبنيوية لم تنشأ بفرنسا، بل بمدينة باريس.. ويقارن هذه الوضعية بوضعية بلدان أخرى والتي عرفت حركات ثقافية لكن في مدن أخرى غير العاصمة، مثل مدرسة السوسيولوجيا بشيكاكو بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي المانيا المدرسة النقدية التي نشأت بفرانكفوت، وبأنجلترا حيث تتنافس عدد من المدن حول الصدارة في العديد من العلوم. ويتحدث الكاتب أيضا عن العلاقة الخاصة في باريس بين الكتاب والسلطة بغض النظر عن الانتماء الأيديولوجي.

بالنسبة للمؤلف فإن مكانة باريس بالغرب كفضاء لثقافة والمثقفين قد انتهت "باريس فقدت هيمنتها، كانت على المستوى الثقافي تلعب دور أثينا العصرية، اليوم تتراجع أثينا.. لتترك مكانها لروما، الولايات المتحدة، ما وراء الأطلنتيك التي استحوذت على هذه المكانة الثقافية والفكرية التي تعرف جامعاتها فكرا نقديا أكثر من باريس". بالنسبة لصاند باريس لم تعد لها المكانة التي كانت في السابق لدى المثقفين العالميين. "سارتر وفوكو ثقلهما الحقيقي هو في الأعمال الفكرية ومؤلفاتهم، وهما غير مدينين بأي شيء لوسائل الإعلام وظهورهم على الشاشة الصغيرة جاء بعد أن أصبحا معروفين على الساحة الثقافية. وهما يرمزان إلى قمة التقاليد الفرنسية للفكر النقدي". اليوم التلفزة بفرنسا، حسب الكاتب، هي التي تحدد المثقف من غيره. ويعطي بذلك الكاتب بيرنار هنري ليفي "في اعتقادي كتبه ليست لها أية قيمة، لكن يتم التوجه إليه باحترام، لماذا لا يتم استجواب المختصين الحقيقيين؟ لماذا لا يعبرون عن مواقفهم؟"

مؤاخذة الكاتب في مؤلفه "نهاية المثقف الفرنسي، من زولا إلى هولبيك" على المثقفين الرجعيين بفرنسا اليوم احتلالهم الكامل لوسائل الاعلام. وهم لا يغادرون مختلف شاشات التلفزة الفرنسية ليرددون اندحار فرنسا. وهو خطاب أيديولوجي محبط، في السابق كانوا ضد العنصرية اليوم أصبحوا في خانة المعادين للإسلام".

في هذا الكتاب يواجه المؤلف كل أشكال الإسلاموفوبيا، ويقارن ما تعرضت له الأقلية اليهودية بفرنسا لما تتعرض له الأقلية المسلمة اليوم، وهو ما كان يسمى معاداة اليهودية لدى المثقفين الفرنسيين في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات  من القرن الماضي. ما يقع اليوم يمكن مقارنته بالماضي، ويعطي مثلا كتاب "الخضوع" رواية ميشيل ويلبيك الذي كان بإمكانه أن يحدث الاستنكار لو تم تعويض المسلم باليهودي. ولم ينس التطرق إلى شارلي إيبدو لفيليب فال الذي كان يتهكم على الإسلام كما كانت تقوم بذلك الجرائد الفرنسية المعادية لسامية ما بين الحربين ضد اليهودية. والكاتب في تحليله ذهب بعيدا عندما قارن شعار "أنا شارلي" الذي كان يخفي طريقة غير أخوية  للقول "أنا فرنسي" عضو بـ "أوروبا البيضاء"، بالنسبة للكاتب فان معاداة الإسلام هي التي دفعت بالملايين الى التظاهر.

اعتبار الإسلام عدوا بفرنسا هي نتيجة تراجع الفكر النقدي بباريس "فينكيلكروت لا يتردد في القول إن الإسلام يشكل خطرا على الثقافة الفرنسية... إنها كارثة أن نهاجم الأكثر ضعفا في مجتمعنا، إن المسلمين يوجدون في أسفل السلم الاجتماعي. وهذه هي الحقيقة التي لا يريد أن يراها المثقفون الباريسيون".

في هذا الكتاب يطارد صوند مختلف المثقفين الفرنسيين المعادين للإسلام، وذلك تحث يافطة اللائكية وهي نفس الممارسات التي تمت ضد الأقلية اليهودية، بالنسبة للكاتب التاريخ يعيد نفسه.

الصحافة الفرنسية في استقبالها لكتاب "نهاية المثقف الفرنسي، من زولا إلى هولبيك" لصاند لم تكن ودية واعتبرته كتابا يبحث عن إثارة الجدل أكثر من بحثه عن التحليل، واعتبرت أن مقارنته لوضعية الأقلية اليهودية ما بين الحربين لما تعانيه الأقلية المسلمة اليوم هو مبالغة، لأنه يذكر بالماضي الأسود لفرنسا ما بين الحربين. ما يزعج بعض الصحف في صاند شلومو هو أنه إسرائيلي ويدافع عن القضية الفلسطينية، ويقارن ما يقع للمسلمين بفرنسا لما وقع لليهود بين الحربين وكل ما فيه لا يعجب هذا الإعلام، يهودي، وينتقد المثقفين الرجعيين ووسائل الاعلام الفرنسية التي تتيح لهم مساحة جد كبيرة لتعبير دون أن تفتح الباب لمثقفين اخرين.

طبعا كتاب "نهاية المثقف الفرنسي، من زولا إلى هولبيك" ينتقد هذه المنابر الإعلامية التي تفتح أبوابها لمثقفين معادين للإسلام ورجعيين وتبرزهم أكثر من حجمهم إلى الرأي العام. بعضهم يتوفر على منابر لرأي وبرامج أسبوعية وهو ما يساهم في نشر الإحباط في الحقل الثقافي الفرنسي وتمجيد الماضي بين الحربين وحتى فترة الاحتلال النازي.. النظام الإعلامي بفرنسا الذي لم يعد يعطي مساحة للمثقفين مثل سارتر، فوكو وبورديو.. وأصبحنا نتساءل هل يوجد مثقفون مثلهم بباريس. والمثقفون من طينتهم لا تفتح لهم وسائل الإعلام الفرنسية الفرصة للتعبير. ونرى بمختلف وسائل الاعلام الفرنسية نفس الأصوات التي تكرر نفس الخطاب المحبط الذي يبكي ماضي مفترض لفرنسا...