لم يكن الانهيار الدراماتيكي والسريع للنظام السوري في ديسمبر 2024 مجرد نهاية فصل في حرب أهلية طويلة، بل كان حدثاً جيوسياسياً كاشفاً بامتياز. لقد عرّى هذا التحول المفاجئ الآليات المعقدة التي تعمل بها القوى الكبرى والإقليمية في إطار الرأسمالية المُعَوْلَمة لفرض إرادتها وتقسيم مناطق النفوذ. إن ما جرى في سوريا، وفقاً للتحليل العميق، لم يكن ثورة شعبية "نقية"، بل مزيجاً مُعَقَّداً من الانقلاب الداخلي والغزو الخارجي بالوكالة.
الهدف من هذا المقال التحليلي (المُقَسَّم على ثلاثة أجزاء) هو استخلاص الدروس المصيرية من هذه النار المشتعلة، بدءاً بدور الأدوات الناعمة والوكلاء المسلحين في خدمة الأجندة الإمبريالية.
المقدمة
لقد مثل هذا الانهيار نقطة انعطاف تاريخية في فهم آليات الصراع في الشرق الأوسط، حيث لم يعد بالإمكان تفسير ما يحدث من تحولات عسكرية وسياسية عبر الأطر التقليدية للصراع الداخلي أو الثورات الشعبية فحسب. بل بات واضحاً أن القوى الدولية توظّف حالة الهشاشة السياسية والاقتصادية في دولة ما لإعادة تشكيلها بما يتوافق مع توازنات القوى العالمية. في الحالة السورية، شكّل هذا الانهيار مثالاً صارخاً على كيفية استغلال انشغال الحلفاء، وتعدد الخصوم، والانقسامات الداخلية، لتحقيق اختراق استراتيجي كان يبدو مستحيلاً قبل سنوات قليلة فقط. إن هذه اللحظة ليست مجرد حدث، بل درس مركزي في كيفية صناعة الانهيارات في دول العالم الثالث والتحكم بمساراتها من الخارج.
وفي سياق العولمة العسكرية والاستخباراتية التي تعمل بلا توقف، لم يعد الانهيار نتيجة لضعف الدولة فحسب، بل لكونها جزءاً من منظومة أوسع تُصاغ من خارجها. فالدول الهشة لم تعد تسقط ببطء، بل تنهار دفعة واحدة حين تتكامل العوامل الداخلية والخارجية في لحظة فارقة.
لقد وفّر ديسمبر 2024 مثالاً على "الانهيار المُهندس" حيث تتزامن العمليات الإعلامية، والاستخباراتية، والعسكرية، والمالية، في بوتقة واحدة لإحداث انهيار صاعق. هذا النمط الجديد من الحروب الهجينة يجب دراسته بعمق، لأن تبسيط المشهد بوصفه "ثورة" أو "انقلاباً" يحجب الأبعاد الأكثر حساسية المتعلقة بالتحكم الدولي في مصائر الدول الضعيفة.
Ⅰ. آليات الهيمنة: تكييف الوعي والغزو بالوكالة
الإمبريالية الإعلامية والتوجيه الفكري
في ظل العولمة، لم تعد وسائل الإعلام الوطنية في "العالم الثالث" كيانات مستقلة. بل اندمجت ضمن شبكة عالمية متناسقة تخضع في نهاية المطاف لتوجيهات الإمبرياليات الغربية. هذا الخضوع ليس تقنياً فقط، بل هو خضوع فكري وسياسي يضمن انسجام السرديات حول القضايا الرئيسية. إن ما يُبث في واشنطن أو لندن، يتردد صداه فوراً في عواصم الجنوب، غالباً دون وعي كامل بالانخراط في عملية تضليل ممنهجة.
تكمن خطورة هذا الاندماج الإعلامي في أنه يُنتج ما يشبه «التوحيد القسري للوعي العالمي»، حيث تفقد المجتمعات القدرة على رؤية واقعها عبر أدوات تحليل مستقلة. فالإعلام المُوجّه لا يكتفي بنقل الأخبار، بل يعيد صياغة الإدراك الجمعي وفقاً لمعايير القوة المُهيمنة. إنه يحدد ما يجب أن يخشاه الجمهور، وما يجب أن يغضب منه، وأي "عدو" يجب أن يكرهه.
في هذا السياق، تصبح الأحداث المحلية جزءاً من سردية دولية أكبر، تُخفي الحقائق وتُضخّم الوقائع المناسبة لتبرير السياسات الغربية. وهكذا، تتحول وسائل الإعلام الوطنية إلى صدى ضعيف لأجندة لا تنطلق من المصلحة المحلية بل من مصلحة القوى المسيطرة على النظام العالمي.
إضافةً إلى ذلك، فإن المؤسسات الإعلامية في دول الجنوب تجد نفسها مرتهنة لبنى التمويل الخارجي وللشركات الإعلانية والمراكز البحثية الغربية التي تملك القدرة على التأثير في الخط التحريري. وبدلاً من أن تمارس دورها الرقابي على السلطة، تتحول إلى أداة ترويج لسياسات خارجية تُفرض على الدولة والمجتمع تحت غطاء «الحداثة» أو «حقوق الإنسان». إن وجود مراسل دائم في العواصم الغربية بات أحد أهم مصادر «الشرعية الإعلامية»، رغم أنه مصدر مُشبع بالانحيازيات.
وبالتالي يفقد المواطن القدرة على تمييز الخطاب المحلي من الخطاب المُعلّب خارجياً، ويندمج في استهلاك روايات تُستخدم لاحقاً لتبرير الغزو أو التدخل أو إسقاط الأنظمة المقاومة للهيمنة.
تكييف العقول وتشويه المفاهيم
تتمثل المهمة المركزية لهذه الشبكة في "تكييف عقول" المواطنين، خاصة في الدول المُستهدفة. يتم ذلك عبر تكرار توصيفات سياسية مُعَيَّنة:
وصف العدو المقاوم بأنه "ديكتاتور" أو "إرهابي" لشرعنة التدخل ضده.
توصيف الفصائل العميلة بأنها "جيوش وطنية" أو "معارضة شرعية"، حتى لو كانت مُصنفة إرهابياً في سياقات أخرى.
إغفال السياق الجيوسياسي للصراع وتقديمه على أنه مجرد "صراع محلي" أو "ثورة عفوية".
النتيجة المباشرة لهذا التوجيه هي أن شرائح واسعة من المواطنين في الدول التابعة تبدأ في ترديد تقييمات سياسية خاطئة، بل ومدمرة، لمصالحهم الوطنية والشخصية، مساهمة بذلك في خدمة مصالح الإمبرياليات الغربية دون أن تعي دورها كـ"ببغاوات" تردد لغة السادة.
وتعتمد عملية تكييف العقول على آلية نفسية دقيقة تقوم على خلق ثنائيات زائفة: "خير/شر، حرية/استبداد، ديمقراطية/فوضى". هذه الثنائيات تحجب التعقيد الحقيقي للصراعات، وتُبسِّط المشاهد السياسية لتسهيل تمرير الأحكام الجاهزة. وهكذا، يصبح أي قائد يرفض الإملاءات الخارجية "طاغية"، وأي فصيل يعمل تحت عباءة القوة الإمبريالية "معتدلاً" أو "ثورياً"، بغض النظر عن سجله السياسي أو الأيديولوجي. إن هذا التلاعب بالمفاهيم يخلق شعوراً زائفاً بالأخلاقية لدى المستمع، ويجعله يظن أن تبني الرواية الغربية هو الخيار الإنساني والتحضري، بينما هو في الحقيقة انحياز إلى مراكز القوة ضد مصالح بلده.
كما تُستخدم صناعة الرموز البشرية لتثبيت الروايات المعلّبة؛ إذ يجري تقديم أفراد معدودين في الإعلام الغربي باعتبارهم النشطاء أو المعارضين الذين يمثلون الشعوب بأكملها، رغم أنهم غالباً يعيشون خارج بلدانهم ومرتبطون بمنظومات تمويل مشبوهة. ويُظهر التاريخ أن هذه الرموز تُستبدل بسرعة بمجرد انتهاء أدوارها في تعليب القضية. أما في الداخل، فيُخلق جيل كامل يرى العالم من خلال عدسات تلفزيونية غربية، فيتبنى خطاباً لا يخدم قضاياه الوطنية، ويُعاد إنتاج نفس أنماط التبعية الفكرية التي تمهد للتدخلات السياسية والعسكرية.
Ⅱ. الطبيعة المُعَقَّدة للصراع: انقلاب وغزو بالوكالة؟
انفجار الدولة من الداخل
مع اقتراب عام 2024، كان النظام السوري يعيش على أنفاسه الأخيرة. النفوذ الروسي تراجع لصالح أولويات أخرى، بينما القوى المحلية استشعرت قرب النهاية. هذه الفوضى أغرت أطرافاً داخل النظام بالتحرك ضد القيادة، طمعاً في وراثة السلطة قبل انهيارها. إلا أن هذا الانقلاب الداخلي لم يكن ليُكلل بالنجاح لولا الفراغ الأمني الهائل والتراجع الحاد في منظومة السيطرة.
لكن ما بدا «انقلاباً داخلياً» لم يكن في الحقيقة إلا نتيجة تراكمات بنيوية عميقة داخل الدولة السورية، إذ أدت سنوات الحرب الطويلة إلى تفكك هياكل الحكم التقليدية وصعود مراكز قوة موازية داخل الجيش والأمن والاقتصاد. ومع مرور الوقت، لم يعد النظام قادراً على احتواء التناقضات المتنامية بين شبكاته الداخلية، فبدأت الولاءات تتشقق، وتراجعت قدرة القيادة المركزية على فرض الانضباط. هذا التآكل الداخلي خلق مناخاً سمح لطامحين في السلطة بتقدير أن اللحظة المناسبة قد حانت لإزاحة القيادة، خصوصاً مع شعورهم بأن الحماية الروسية لم تعد مضمونة.
كما أن تأثير العقوبات الاقتصادية والضغوط الدولية لعب دوراً في تسريع الانقسامات، إذ تحولت أزمة الموارد إلى صراع مفتوح بين النخب على ما تبقى من النفوذ السياسي والاقتصادي. ومع غياب رؤية موحدة لمستقبل الدولة، بدأت الأجهزة الأمنية نفسها تتحول إلى جزر منفصلة، لكل منها ارتباطاتها الخارجية ومصالحها الخاصة. وهكذا يصبح الانقلاب ليس مجرد مؤامرة، بل نتيجة منطقية لتفكك الدولة العميقة حين تفقد قيادة واحدة تجمعها. إن هذه الديناميكية ليست فريدة لسوريا فقط، بل تتكرر في دول تعيش حروباً طويلة تستهلك قدرتها على إعادة إنتاج السلطة.
الوكلاء الإقليميون والغزو غير المباشر
لكن الانقلاب لم يكن سوى نصف القصة. النصف الآخر تمثل في الغزو غير المباشر الذي بدأته قوى إقليمية معادية لسوريا منذ 2012، وعلى رأسها إسرائيل وتركيا ودول أخرى. هذه القوى لم تُرسل جيوشها مباشرة، بل اعتمدت على وكلاء سوريين مسلحين، إضافة إلى المرتزقة والمدارس النيو-جهادية. الدعم شمل المال والسلاح والتقنيات العسكرية المتقدمة، والأهم: الغطاء الإعلامي والدبلوماسي.
وقد أتقنت هذه القوى الإقليمية استخدام ما يُسمى «الحرب الموكّلة»، حيث تتجنب الكلفة السياسية والاقتصادية للتدخل المباشر، وتُلقي عبء المواجهة على مجموعات محلية يتم تدريبها وتمويلها وتوجيهها ضمن استراتيجيات مدروسة. فتركيا مثلاً اعتمدت على فصائل ذات هوية براغماتية، بينما ركزت دول مجاورة على المنصات الإعلامية والسياسية، وكما سعت إلى دعم تيارات معينة لتحقيق توازن ضد النفوذ الإيراني. أما إسرائيل فمارست دور «المنسق السري» الذي يضمن استنزاف سوريا دون الانخراط في احتلال مباشر يثير ردود فعل دولية. هذا التوزيع للأدوار خلق مزيجاً قاتلاً من التهديدات المتداخلة.
كما أن الوكلاء المحليين، سواء كانوا تنظيمات جهادية أو فصائل ذات خطاب قومي أو أيديولوجي، لم يكونوا مجرد أدوات، بل تحولوا مع مرور الوقت إلى قوى سياسية واقتصادية تُنافس الدولة نفسها. هؤلاء الوكلاء لم ينفذوا أوامر مشغليهم حرفياً فحسب، بل طوروا شبكات مصالح خاصة جعلتهم يتصرفون كأمراء حرب مستقلين. وبذلك أصبح الغزو غير المباشر أكثر تعقيداً، إذ لم يعد تدخلاً خارجياً واضحاً، بل تشظياً داخلياً تغذيه العواصم الإقليمية، ويستحيل احتواؤه دون كلفة هائلة. هذه الديناميكية تُظهر كيف يتم تفكيك الدول المعادية عبر «تآكل داخلي» تديره قوى إقليمية تتجنب الظهور في الصورة.
لماذا تزامنا الانقلاب والغزو؟
قد يبدو الجمع بين الانقلاب والغزو غير المباشر تناقضاً، لكن في الواقع كلاهما يعمل وفق منطق واحد: إضعاف الدولة من الداخل لإسقاط السلطة المركزية. فعندما تضعف قبضة القيادة، يصبح الوكلاء المسلحون قادرين على تحقيق ضربات نوعية. وفي المقابل، عندما يحقق الوكلاء اختراقات كبرى، يتشجع الانقلابيون على التحرك. بهذا التفاعل الخبيث، اكتملت حلقة الانهيار السوري.
إن التزامن بين المسارين لم يكن صدفة، بل يعكس رؤية استراتيجية ترتكز على «التفكيك المُنَسَّق». فالقوى الخارجية تعلم أن إسقاط نظام قائم منذ عقود لا يتم إلا عبر ضربه من محورين: المحور الداخلي المتمثل في النخب المنقسمة، والمحور الخارجي الذي يفرض ضغطاً عسكرياً واقتصادياً وإعلامياً. ويؤدي هذا «الضغط المزدوج» إلى خلق حالة من الإرباك والشلل داخل مؤسسات الدولة، بحيث لا تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة أو الدفاع عن نفسها بفاعلية. ومع انهيار الثقة بين القيادة وقواعدها، يصبح الطريق ممهداً لأي قوة ترغب بتغيير النظام أو إعادة تشكيل الدولة بما يخدم مصالحها.
ومن منظور آخر، فإن الانقلابيين أنفسهم غالباً ما ينتظرون لحظة يُظهر فيها الوكلاء الخارجيون ضعف النظام، كي يبدوا هم وكأنهم «الخيار المحلي» الذي يمكن للعواصم الكبرى الاستثمار فيه. وهكذا يتحول الداخل والخارج إلى شريكين في عملية واحدة، تتوزع فيها الأدوار بدقة رغم عدم وجود تنسيق مباشر أحياناً. إن نجاح الوكلاء في السيطرة على مناطق استراتيجية، أو تنفيذ عمليات كبيرة، كان يشكل إشارة للمنشقين بأن النظام فقد المبادرة، وأن التحرك الآن أفضل من الاستمرار في الانتظار. وهذه الآلية — التي تتكرر في دول أخرى — تفسر كيف انهارت سوريا بسرعة بعد سنوات من الصمود.
Ⅲ. الدروس الاستراتيجية من الانهيار السوري
حدود التحالفات في زمن الإمبراطورية
أول درس هو أن التحالفات مع القوى الكبرى ليست ضمانة بحد ذاتها. فروسيا، رغم حضورها العسكري، لم تكن مستعدة لخوض حرب واسعة دفاعاً عن نظام سقطت فعلياً بنيته الداخلية. الإمبرياليات لا تدافع عن الأنظمة، بل عن مصالحها. وعندما تتعارض هذه المصالح مع بقاء النظام، تتخلى عنه بكل بساطة.
إن قراءة تاريخ العلاقات الدولية تُظهر أن القوى العظمى تتعامل مع حلفائها بمنطق «القيمة الاستراتيجية المؤقتة»، لا بمنطق الالتزام الأخلاقي أو الدفاع المطلق. فحين تتغير أولوياتها الجيوسياسية، يتغير حجم الدعم ومضمونه، وقد يتحول الحليف إلى عبء يجب التخلص منه أو إعادة هيكلته. وفي الحالة السورية، دخلت روسيا في مرحلة إعادة تموضع عالمي، وجدت خلالها أن مواردها العسكرية والسياسية يجب أن تُوجَّه إلى ساحات أخرى أكثر أهمية. هذا التحول جعل النظام السوري ينتقل من خانة «الحليف القابل للاستثمار» إلى خانة «الحليف المكلف». وبالتالي، فإن توقع بقاء الدعم الروسي إلى ما لا نهاية كان وهماً مبنياً على قراءة مثالية للعلاقات الدولية.
كما يكشف هذا الانهيار حدود التحالفات غير المتكافئة، حيث لا تكون الدولة الضعيفة أكثر من تابع يعتمد على قرار سياسي في موسكو أو واشنطن أو غيرهما. فحين يتم رسم خطط كبرى لإعادة تشكيل الإقليم، تصبح الدول الصغيرة مجرد عناصر يمكن التضحية بها. وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن لأي دولة أن تربط مصيرها كلياً بقوة خارجية؟ التجربة السورية تُقدم جواباً قاسياً: التحالفات ليست مظلة أمان، بل علاقة تقوم على «من يخدم مصالح من». وعندما تتغير المصالح، تسقط المظلة، ويُترك النظام ليواجه مصيره.
خطورة التفكك الداخلي
الدرس الثاني هو أن أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة ما ليس الغزو الخارجي، بل الانقسام الداخلي. ففي الحالة السورية، لم يسقط النظام لأن خصومه كانوا أقوى منه، بل لأنه فقد وحدته الداخلية في لحظة حاسمة. وهذا الانقسام – بين أجهزة الأمن والجيش والنخب الاقتصادية – جعل إسقاطه مسألة وقت فقط.
فالانهيار الداخلي يبدأ عادةً بشكل بطيء وغير محسوس، عبر تراكم سلوكيات الانفصال بين مؤسسات الدولة، وعبر تحوّل المنظومة الحاكمة من هيكل مركزي إلى جزر سلطوية غير متجانسة. ومع مرور الزمن، تتحول هذه الجزر إلى كيانات تمتلك ولاءاتها ومواردها وارتباطاتها الخارجية، ما يؤدي إلى موت «الدولة بالمعنى المؤسسي» حتى قبل سقوط النظام السياسي. هذه الظاهرة ليست فريدة، بل هي سمة مشتركة لدى الأنظمة التي تعتمد على أمن مركزي متضخم ولا تملك جذوراً سياسية عريضة داخل المجتمع.
كما أن الانقسام الداخلي يجعل أي تدخل خارجي أكثر فاعلية، لأنه يجد أرضاً رخوة ويمكنه توظيف الانشقاقات لصالحه. فقد تحولت القوى الخارجية في الحالة السورية إلى طرف يسلّح بعض الفصائل، ويغذي خلافات ضمن الأجهزة، ويوفر بديلاً سياسياً يطرح نفسه على أنه «الضامن» للفصائل المنشقة. بهذا الشكل، يصبح الضعف الداخلي جزءاً من منظومة الانهيار التي تعمل كدوّامة: كل انشقاق يفتح الباب لتدخل أعمق، وكل تدخل يزيد الانشقاق. إن الدرس هنا واضح: الدول لا تُهزم إلا من داخلها أولاً.
دور الإعلام في صناعة الهزيمة
الدرس الثالث هو أن الإعلام، حين يتحول إلى أداة تابعة لقوى خارجية، قادر على تحويل الهزائم الصغيرة إلى "نهايات حتمية". لقد ساهم الإعلام المعولم في خلق صورة عن نظام ينهار، حتى قبل أن ينهار فعلاً. هذه الصورة ساهمت في تآكل الروح المعنوية داخل النظام نفسه.
فالإعلام لا ينقل الواقع فقط؛ بل يصنع «بيئة إدراكية» تؤثر على سلوك الفاعلين السياسيين والعسكريين. وعندما تسيطر القوى الخارجية على السردية، فإنها تُعيد تشكيل فهم الداخل للوضع، فتخلق جواً من الإحباط وفقدان الثقة يجعل أي تراجع ميداني يبدو كأنه هزيمة شاملة. وهذا ما حدث في سوريا: فالتقارير اليومية عن انهيار وشيك، والمقابلات المصنوعة بعناية مع «منشقين»، والتحليلات التي تُضخّم أقل حادث، كلها صنعت حالة نفسية تجعل الدفاع عن النظام عبئاً نفسياً قبل أن يكون عبئاً عسكرياً.
والأخطر أن هذه السرديات الإعلامية لا تستهدف الجمهور العام فقط، بل النخب أيضاً. فحين يشاهد قائدو الأجهزة الأمنية والسياسية أن النظام يُقدَّم في الخارج على أنه «منتهي الصلاحية»، يبدأ بعضهم في البحث عن مخارج شخصية أو ترتيبات بديلة، مما يعجّل في الانهيار. إن الإعلام هنا يتحول إلى «سلاح نفسي» يُضعف البنية السياسية من الداخل. وبذلك يصبح الانهيار نتيجةَ شبكة سرديات سبقت الوقائع الميدانية، لا نتيجةَ الهزيمة العسكرية وحدها.
الدرس الأخير: غياب المشروع الوطني
أخيراً، يُظهر الانهيار السوري أن الدول التي تفتقر إلى مشروع وطني جامع لا يمكنها الصمود طويلاً أمام الضغوط الخارجية. الأنظمة التي تبني شرعيتها على الأمن فقط تنهار بمجرد تراجع هذا الأمن. أما الدول التي تمتلك عقداً اجتماعياً حقيقياً، فتجد في شعوبها مصدر صمود واستمرار.
فالمشروع الوطني ليس شعارات رسمية، بل منظومة قيم ومؤسسات ومصالح مشتركة تجعل الناس مستعدين للدفاع عن الدولة حتى في أصعب الظروف. وحين ينعدم هذا المشروع، تصبح الدولة جسداً بلا روح، يعتمد فقط على الأجهزة الأمنية. وهذا النموذج ثبت فشله في بلدان عدة، حيث تؤدي الأزمات الاقتصادية أو الانقسامات الطائفية أو الضغوط الخارجية إلى انهيار مفاجئ لأن المجتمع نفسه غير متماسك ولا يرى نفسه شريكاً في مستقبل الدولة.
كما أن غياب المشروع الوطني يجعل المجتمع عرضة لاستقطابات خارجية، حيث يجد كل مكوّن محلي نفسه يبحث عن «حليف» خارجي يحمي مصالحه ضد المكونات الأخرى، مما يفتح الباب أمام تفكك الدولة وانهيارها. وفي سوريا، أدت عقود من غياب رؤية وطنية شاملة إلى خلق فراغ هائل، سرعان ما مُلئ بالهويات الفرعية والتحالفات الخارجية المتنافسة. إن الدرس الأكبر هنا هو أن الدولة لا تستطيع الصمود بالقوة وحدها، بل تحتاج إلى شرعية اجتماعية تجعلها جزءاً من الناس، لا مجرد سلطة فوقهم.
الدكتور عبدالواحد غيات،أستاذ باحث في العلوم السياسية