كان هدف زيارة "أنفاس بريس" لأقدم مصطاف يربط بين قبائل الشياضمة رتنانة وعبدة، هو اكتشاف ما تزخر به المنطقة البحرية برمال شاطئها الذهبية وأشجارها المنتجة ونباتاتها العطرية من مؤهلات طبيعية وسياحية مهمشة ومنسية، من عند نقطة مصب واد تانسيفت جنوبا ومسح عيني للحصن البرتغالي شمالا، مرورا بزاوية الولي الصالح سيدي حساين الرجراجي، بالإضافة إلى الوقوف على أوضاع قصبة القايد حميدوش ومآثرها التاريخية الممتدة على مساحة أكثر من 40 هكتار، والشاهدة على عظمة الحضارة المغربية، علاوة على استكشاف ما تبقى من معمار وآثار عمرانية لقصبة القائد حجي التي تبهر الزائر بأبوابها وأقواسها ونقوشها وفسيفسائها ورونق أروقتها.
فعبر الطريق الساحلية رقم 301 "المتهالكة والمتآكلة" الرابطة بين مدينة آسفي ومصطاف الصويرية القديمة (30 كلم)، تستقبلك مشاريع ملكية استثمارية ضخمة بالقرب من جماعة أولاد سلمان (الميناء المعدني المحطة الحرارية)، وتستطيع عين الزائر أن ترسم بمشاعرها صورا ممتعة لجمالية المكان وطبيعته الخلابة، ينطقها حزام أخضر لأشجار شكلت غابة تعزف أوراق أغصانها سمفونية الهدوء والسكينة والطمأنينة في تناغم مع زخات المطر الباردة وهي تداعب الأمواج الثائرة صباح يوم السبت 27 فبراير 2016 على امتداد طول شاطئ يعانق مصب نهر تانسيفت جنوبا.
ومن أعلى هضبة "قصر النملة"، التي تطل على سكنيات جميلة بهندستها المعمارية المطلية باللونين الأبيض والأزرق والتي فضل مالكوها إغلاق أبوابها ونوافذها إلى فترة الاصطياف لتعيد لها حرارة الشمس ورمال شاطئ الصويرية حركيتها السياحية والتجارية والتواصلية، وترمق العين فضاء مدخل "لمريسة" التي احتضنت قوارب صيد السمك المستعدة في كل حين لاستنطاق ثروتنا السمكية الخاضعة لمزاج المحتكرين وأباطرة البحر.
كانت المنطقة مرفئ بحريا لمدينة أغمات:
كانت لحظات ممتعة لاسترجاع زمن ذاكرة عظمة الإبداع الإنساني، بسحرها وعبق نفحات التاريخ والجغرافيا التي تفاعلت معها عبقرية الإنسان الذي خلد أروع الصور الممتعة ليحكي سبب استقراره هنا ذات فترة تاريخية بَصَمتْ المنطقة بجمالها مبدعة لوحة تشكيلية بانسياب مياه واد تانسيفت التي تعانق أمواج البحر وتغازل أشجار الغابة.. وقد كانت هذه المنطقة، وفق تصريح الأستاذ حمزة مصطفى، قبل بناء مدينة مراكش، تشكل مرفئ بحريا لمدينة أغمات.. "اختيار المكان لم يكن اعتباطيا، بل خضع لشروط الاستقرار البشري الذي فطن لمجال جغرافي تتوفر فيه المناطق الثلاثية"، يقول أحد المهتمين بالبحث التاريخي والثقافة البيئية. وأضاف شارحا هذا الاختيار الذي يعود لأهمية المنطقة عبر التاريخ "إن التقاء مكون الواد والبحر، وغنى المنطقة بالمجال الغابوي يعتبر ثلاثية أساسية تشجع على الاستقرار البشري". فالواد رافد للحياة ويوفر كل سبل العيش والتنقل بين الضفتين واستغلال كل ما يجود به من خيرات وإمكانيات على المستوى الفلاحي والزراعي، أما البحر فهو واجهة للملاحة والصيد والتجارة وبوابة انفتاح على الآخر، والغابة مجال بيئي ضامن لشروط الاستقرار على جميع المستويات الحياتية.. هي ثلاثية اعتمد عليها الإنسان بمنطقة كانت تعتبر طريقا للقوافل اقتصاديا وتجاريا وجهاديا ودينيا للفاتحين والمستكشفين.
قصبة بن حميدوش الضائعة:
ونحن نسير على ضفة نهر تانسيفت جنوبا، حجبت أشعة شمس ذاك الصباح، غيوم ملبدة فوق سماء قصبة بن حميدوش، وتعطلت رائحة نبض الحياة بين أسوارها ولم تبددها سوى حركة سريعة لسنجاب جميل يحرس أقواسها وفضائها بخفة حركاته ونظراته التي رحبت بنا عند مدخل القصبة التي زينتها فضاءات نباتية بمختلف فصائل الأشجار والأعشاب الموحشة التي تستقطب أنواع مختلفة من الوحيش ليل نهار (خنزير بري، أرانب، حجل، وثعابين...).
جولة "أنفاس بريس" مكنتنا من استكشاف قصبة سميت بقلعة بن حميدوش نسبة لأحد القادة الذي كان مسئولا على إدارتها اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا.. شيدت لتحصين منطقة دكالة وعبدة وبهدف حراسة الموقع، تقف منتصبة شامخة بمعمارها الأصيل الشاهد على عبقرية الإنسان المغربي وعراقة المكان وموقعه الذي اعتمد على هندسة رائعة في البناء والجهد العضلي تجسدت في شكلها الهندسي المستطيل والذي تطوقه ثلاثة أحصنه منيعة، منها سور خارجي عال وسميك البنيان شيدت فوقه ثمانية أبراج للحراسة العسكرية والمراقبة المجالية بشكل محكم ودقيق، وتتوسطه، حسب شروحات "مرافقنا"، آثار بناية إقامة دار الحاكم التي كان يستوطن بها أولاد بن حميدوش عمال الشياضمة.
وقد أكد لنا الأستاذ الباحث المصطفى حمزة أن هذه الدار كانت تضم مسجدا ومنارا هدما بعد سنة 1912 إضافة إلى مخازن وأهرية ومطامير خاصة بتخزين المحاصيل الزراعية، وإسطبلات خاصة بالمواشي وخيول الفرسان وإبل لنقل الحمولات للمناطق المجاورة الخاضعة لحماية وأمن أولاد بن حميدوش، فضلا عن أنها كانت تضم مشور سكن الحاكم ومسجدا ومقرات للحامية العسكرية. ولم يفت الباحث مصطفى حمزة أن يؤكد على وجود فضاء حديقة كانت تحتوي على الكثير من الأغراس والأشجار الوارفة والمتمرة لا تزال معالمها وطرق سقيها بارزة.. هذا فضلا عن سور ثان داخلي، والذي يحصن القصبة تحصينا كليا من الهجمات والضربات المباغتة، ويضمن الأمن والحماية الكلية لقصبة بن حميدوش، لتنتهي عبقرية الهندسة العسكرية بوضع تحصين عبارة عن ممر مائي عبر خندق يحف القصبة ويؤمن موقع مشور الحاكم ويعزز صلابته دفاعيا، ويتم تزويده بالماء من مصب واد تانسيفت كحاجز وقائي للقصبة عبر تقنية قنوات أبدعت اختراعاتها عبقرية الإنسان.
قلعة بن حميدوش شاهدة على عصر، تستغيث:
الأستاذ حمزة مصطفى يؤكد أن قصبة بن حميدوش يرجع تاريخ تأسيسها، حسب مصادره التاريخية، إلى فترة المولى إسماعيل خلال بداية القرن 18، ويعتبرها النموذج الحضاري للفن المعماري المغربي الأصيل بالعالم القروي من حيث الشكل الهندسي ومواد البناء.. ويصر على أن معالمها ومآثرها قادرة على أن تقدم كذلك معطيات جد هامة للمهتمين والباحثين والدارسين لمثل هذا النوع من القصبات، بل إن الزائر للمكان تمكنه معالمه من استنتاج مشاهد بانورامية تجمع بين سحر وجمالية المكان وعلاقته بالواد والبحر وفضاء الغابة.
قصبة بن حميدوش بمنطقة الشياضمة الرائعة الشاهدة على العصر، تعتبر ذاكرة وموروثا ثقافيا وإنسانيا وجب تحصينه، وتستحق أن تتحول لفضاء ومرفق سياحي يستقطب كل شرائح المجتمع المغربي للوقوف على عظمة تاريخنا ورجالاته، وتدعو مؤسساتنا للقيام بأدوارها في أفق تثمينها ورعايتها والاهتمام بها من طرف وزارة الثقافة والسياحة وكل المتدخلين لحمايتها من النهب والسلب والتدمير الوحشي الذي تتعرض له من طرف صعاليك زمن التنقيب والبحث عن الكنوز.. فأكثر من 30 حفرة تشهد على مرور لصوص ذخائر التاريخ المغربي في غياب السطات المعنية لترجمة أهمية الموقع سياحيا وإيكولوجيا وحضاريا.