الأحد 5 مايو 2024
سياسة

هل تلتقط وزارة الأوقاف والمجالس العلمية "رسالة" محمد السادس بمراكش؟

هل تلتقط وزارة الأوقاف والمجالس العلمية "رسالة" محمد السادس بمراكش؟

لا يعني التنوير في سياق العالم الإسلاميّ، ومنه المغرب، سوى انتزاع الوصاية على الإسلام، كتراث روحيّ وأخلاقيّ، من أيدي كهنوت إسلاميّ نصّب نفسه شارحا ومؤولا للنص الديني، ومحتكرا له. ذلك أن التأويل المتنور للنص الديني (قرآنا وأحاديث) هو السبيل الوحيد لتجفيف خزان التشدد الذي تغذيه التنظيمات المتطرفة بأدبيات التقتيل والتدمير والتفجير الإرهابي والأحزمة الناسفة.

ولا يتحقق التنوير، طبعا، إلا بخريطة طريق تساعد الفرد، على تنمية تجربته الروحية الداخلية. ولن يتأتى ذلك إلا بوجود مستنيرين إسلاميين قادرين على تقديم رؤية عقلانية للإسلام تستحضر سياق العصر، وتقدر في نفس الوقت على إقناع الجماهير العريضة برؤيتها ونظرتها.

وفي التجربة المغربية، ورغم توفرنا على طاقات وموارد مؤهلة، وعلى تجارب فكرية متقدمة، فإن التنوير يعاني من حالة "انحصار" (بلوكاج)، لكون المؤسسات الرسمية (عدد من المجالس العلمية المحلية، وزارة الأوقاف، شعب الدراسات الإسلامية بكليات أصول الدين وكليات الآداب، مدارس التعليم العتيق.. إلخ) تم اختراقها من طرف أشخاص غالبيتهم تحمل فهما جامدا ومتكلسا للدين، كما أنها مخترقة من طرف أتباع الحركات الأصولية الذين يحاصرون الكفاءات ويدفعون بها إلى التهميش.

في هذا السياق قرأت "الوطن الآن" الرسالة- الحدث التي وجهها الملك محمد السادس إلى المشاركين في مؤتمر حول " حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية"، والذي احتضنته مراكش يوم 25 يناير2016. حيث أعطى أمير المؤمنين فهما مجددا ومتنورا للجهاد بالقول إن "الإسلام لم يشرع الجهاد إلا للدفاع عن النفس والحرمات عند الضرورة، ولم يجز، بأي حال من  الأحوال، أن يتخذ وسيلة لحمل الناس على الإسلام".

رسالة الملك هي بمثابة استحقاق يفرض على الأجهزة المعنية (من مؤسسات وزارية ومجالس علمية وكليات وغيرها) القيام بأجرأة معالمه وتصريفه في المجتمع.

وهي (الرسالة) استحقاق تأتي بعد استحقاق آخر ورد في خطاب العرش الأخير حين أكد الملك بأن المغرب ليس بحاجة لمن يأتيه من الخارج ليعلمه الدين. وهذا معناه أن المغاربة ليسوا بحاجة لا إلى وهابية السعودية، ولا إلى شيعية إيران، ولا إسلام التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بمصر ولا إلى "الأردوغانية التركية".

معنى هذا أن المغاربة يتطلعون إلى ما ستقوم به الأجهزة العمومية المذكورة لبلورة هذا التوجه وهذه الدينامية لتنزيل هذا الفهم التنويري في التعامل مع النص الديني. إذ السؤال هو: ما معنى إنتاج خطاب على أعلى مستوى في القرار السياسي والديني إذا لم يتحول إلى حافز لتحرير المغرب من التأويل الطاعن في الطلبنة والدعشنة التي يتعرض له فقهاء الظلام، بتشجيع لا غبار عليه (بالصمت أحيانا، وبالتصفيق أحيانا أخرى) من عدد من المسؤولين الموجودين في مختلف الطبقات الإدارية ؟ وهل هذه الوزارة والمجالس العلمية عاجزة عن مسايرة إيقاع الملك، أم أنها عاجزة عن التنكر لأهدافها المسطرة في ترحيل المغرب نحو القرون الوسطى؟

السؤال مشروع أمام الاختراق الأصولي الذي نلمسه على كافة مستويات إنتاج وصناعة "النخب الدينية" في مدارس التعليم العتيق وكليات أصول الدين والآداب فضلا عن الاختراق الذي عرفته مجالس علمية محلية بوجود عناصر تدين بالولاء السياسي للبلاد وترفض الولاء المذهبي، ربما تقية أو انتظارا.

إن الدولة الحديثــة  تلغــي التمييز بيـــن أغلبـية وأقليات على أساس ديني، حيث تبدو  الأديان كلها متساوية في نظر الدولة، رغم أن الإسلام هو الدين الرسمي. وهذا ما يرمي إليه التفسير المتنور لـ "الجهاد" الذي ورد في الرسالة الملكية، والذي لو تم تعميمه لكنا سننعم بالأمن داخيا وخارجيا، ولما رأينا داعش ولا عرفنا طالبان: "لم يشرع الإسلام الجهاد – يقول الملك محمد السادس في رسالته-  إلا للدفاع عن النفس والحرمات عند الضرورة، ولم يجز، بأي حال من الأحوال، أن يتخذ وسيلة لحمل الناس على الإسلام".

إننا على سبيل المثال لسنا بحاجة إلى خطباء مثل خطيب مسجد سلا الذي فسر الزلزال بخرافات (زراعة المخدرات) لا توجد إلا في رأسه، ومثله كثيرون يطلقون العنان لأنفسهم وينتجون أمام المصلين أفكارا تغذي الكراهية والعنف، وتمعن في إنتاج التخلف. والوزارة والمجالس العلمية هي التي تتحمل المسؤولية، لأنها أسندت لمثل هؤلاء مسؤولية إلقاء الخطب وإعطاء الدروس في المساجد في انتهاك صريح للفصل 23 من الدستور الذي ينص على منع كل تحريض على العنف والعنصرية والكراهية.

فكيف يمكن الوصول إلى إسلام العقلانية والتنوير بعقول تعيش فيه العناكب؟ ولهذا لا ينبغي أن نرتكن لرسم صورتنا خارجيا والتي تؤكد أن المغرب نجح في ترسيم إسلام معتدل، وأنه نجح في إعادة ترتيب الحقل الديني، وأنه نموذج يحتذى. ولكن علينا الانتباه أيضا إلى  فقهاء الظلام الذين مازالوا طلقاء اللسان بيننا (أبو النعيم، النهاري، يحي المدغري...).

إن المغاربة بحاجة إلى  تنوير غير مؤجل، وإلى تأويل للدين غير معطل للتقدم ومنسجم مع روح العصر. فالوزير التوفيق، تحدث عن السياق ، وهنا يحق لنا أن نسائله عن السياق في التعليم العتيق الذي ما زال يحشر رؤوس المتلقين بتأويلات متكلسة للنصوص الدينية ترتبط بالقرون الوسطى. ولهذا فالسؤال المطروح على الوزير، بعيدا عن طلاوة الحديث وحلاوة الخطاب، هو: أين هو السياق في المدارس والمعاهد والجامعات؟ أين هو السياق في المدارس العتيقة، علما أن التعليم العتيق هو أحد الروافد التي تغذي الحقل الديني بالخطباء والأئمة والوعاظ والأساتذة؟

ولهذا، فالتنوير كي يظهر وينتشر في الجامعات والمدارس وفي البيئات المثقفة، ينبغي أولا أن يهم منتجي الخطاب المتشدد، أي هذه الحركة الأصولية المتجذرة في مفاصل الدولة، والتي تقصي العلماء المتنورين والمجددين بدعوة شبهة "هذاعلماني" وذاك "شيعي".. إلخ. فالخوف كل الخوف أن يحول فراخ الوهابية والإخوانية، الذين اخترقوا صفوفنا ومؤسساتنا التعليمية والإدارية والعلمية، بلادنا إلى مزرعة مفتوحة للمتشددين، وللجهاديين العابرين للقارات والأزمنة، وإلى معترك حربي لا لغة فيه إلا لغة السيف والحزام الناسف والسيارات المفخخة والكلاشنكوف واللباس الأفغاني والتشادور والبرقع. ولهذا علينا أن لا نكتفي بربح رهان الخارج (تسويق الإسلام المعتدل) بل علينا الاشتغال على الذات، والانكباب على صناعة الانسان المتنور، عبر تشغيل الإعلام الرسمي والخاص، وإطلاق برامج تعليمية تحتفي بالعقل والتسامح والحوار والحريات.

إن معضلة التشدد التي اخترقت حقلنا الديني ليست عصية على الحل في كافة الأحوال. ولا بد من الإسراع في مستقبل الأيام بمواجهة التنميط وعزل الطاقة عن الحركة الأصولية المشجعة على إنتاج التطرف، كما لا بد من الإسراع بفسح المجال أمام المفكرين المتنورين والفقهاء المجددين الذين يعون جيدا ما معنى الجهاد الفكري، ويميزون بين الفكر والسيف.

فليس صدفة أن الأصوليين (بشقيهما السلفي والإخواني) اختاروا السيف كشعار لهم مع ما يرمز له  السيف من نحر وقتل ودم، في حين استقر اختيار المغاربة على شعار النجمة الخماسية التي ترمز لأركان الإسلام الخمسة، مع ما يحمله الفهم الصحيح للإسلام كدين يعلي من حب الحياة وحب العمل وحب التعايش مع الآخر.

إن محمد الخامس استعمل مصطلح "الجهاد الأكبر" لحشد الطاقات في دولة فتية، خارجة للتو من الاستعمار، تنشد قوة البنيان. واليوم يغرف حفيده محمد السادس من نفس المعين لتقعيد أسس التأويل المتنورللنص الديني فصد تجفيف منابت التشدد والتطرف.

فهل ستلتقط الوزارة والمجالس العلمية المحلية الرسالة؟

تفاصيل أوفى تطلعون عليها في عدد أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد حاليا في الأكشاك