الاثنين 6 مايو 2024
فن وثقافة

محمد بهجاجي يطرح تساؤلات وجودية لممثلة كانت في حضرة الموت

محمد بهجاجي يطرح تساؤلات وجودية لممثلة كانت في حضرة الموت

"كاثارسيس"، نص مسرحي لمحمد بهجاجي، صادر عن مركز دراسات الفرجة، يختصر نفسه بخمس شخصيات: الممثلة، المؤلف، الطفلة الأرجوحة، أم أنوار، وحارس الضريح. وقد ولد العمل من خلال لقاء ليس بعابر بين خمسة أصدقاء، جمعهم المسرح في دمشق، وكانت بيروت على مرمى البصر، فقرروا السفر إليها لشرب فنجان شاي في شارع الحمراء، وتفقد حالتها ولا سيما أنها كانت خارجة للتو من العدوان الهمجي الذي شنته عليها إسرائيل في العام 2006.

العمل ليس لأرشفة الفواجع، وإنما هو تساؤلات وجودية لممثلة كانت في حضرة الموت، والبحث عن الكينونة التي كادت أن تتلاشى من فرط مرأى الجريمة، وبذاءتها، وقبحها، ورؤية الجراح العميقة التي لا تريد أن تلتئم. خمسة أشخاص قطعوا شوطا طويلا قبل أن يلتقوا، ويعبّروا في لقائهم عن عدم يقين ماض كامل من الذكريات الثقيلة. الانطباع الأول الذي يمكن أن نشعر به عند قراءة محمد بهجاجي للحوادث، أن كتابته متحركة، لا تتوقف ولا لحظة واحدة عن مساءلة صمت العالم الذي أدار ظهره للجرائم التي ارتكبت في حق أبرياء (الممثلة: لكني لم أرّ المقاومين؟! هل شاهدتهم أنت؟ الحارس: لا، طبعا! هم روح تعبر المكان. ولذلك انتقمت إسرائيل فقتلت الأبرياء). ترافق هذه الكتابة المتحركة نبضات الحوار المتأصل في لغة الاعتراف، التي تنطوي على قيمة علاجية عالية، "فلقد كنا في دمشق، وكان لبنان على مرمى البصر، قلت لماذا لا أبحث عن دور آخر، وأجرب الموت أو صداه على الأقل؟". يأخذ الأسلوب الدراماتورجي للمؤلف منعطفا حاسما، عندما يحرر اللغة الدرامية نفسها من جميع الإكراهات، ويترك المجال للشهود العيان، والتوقفات، والكتابة المتقطعة والمدغمة ما بين المؤلف والممثلة. وهكذا يخلق سيناريواً للعرض المسرحي يأخذ من الشعر هيكلا وجوهرا، وتتناوب فيه الأصوات. يعطي المونولوغ، حرية للمؤلف في إيجاد طريق، واشتغال خاص على اللغة، ولا سيما عندما يكون هناك حاجة ملحة للبوح. هذا السياق، يجعلنا نفكر بان الكلمات نفسها في حاجة للتحرر والخروج من الصدر بشكل عاجل، كما لو أن المؤلف يريد التخلص منها ومن شحناتها العاطفية، وكأن التطهير"الكاثارسيس" يمارسه على نفسه أولا، قبل أن يقودنا إليه عبر نصه.

يجعل المؤلف عملية استكشاف اللغة تتحقق من خلال الممثلة التي تأخذ على عاتقها تجسيد لغة النص والتجوال عبر أسفار درامية شعرية تستحضر فيها مناطق جغرافية مختلفة، وحقبا تاريخية متباينة، فتبدو مربكة وتائهة وحائرة، وهي تتنقل وسط هول حطام المدن، وأوجاع الزمن الجريح، وهذيان ما تبقى من سكان وهم يتدثرون في غبار الروح: "بلا سماء، أسافر لأقنع نفسي بأنني أستطيع أن أحيا عارية. السماء التي كنت أظنها دثارا أو شرفات أراها الآن سقفا ممعنا في الإرتباك. مؤلفي أقامني في العزلات التي ليست المجاز. (...) ربما تعب من نصب الخشبات في الأمكنة الهشة، فاحتمى بالصمت. ووحدي، الآن أسترد أنفاسي". تتحول خشبة المسرح في هذا النص، بفعل سحر الكتابة، إلى زمكان للاستماع، والشهادة، وبعث الرسائل، وذكريات الماضي، والذهاب والإياب السريع، بين الدمار المشترك للبنان، وبغداد، وغزة، ودمشق. إنها ليست بالمكان الذي يعتق فيه الفعل فقط، وإنما الفضاء المميز للتأمل والتفكير في الموضوع الذي يطمئن حوادث الماضي التي تحتاج إلى تجسيد ثان، وأرشفة حقيقية (الممثلة: ما يهمني هو أن أرى هاته الحرب وقد صارت حاضرا أسود، سيرة يومية للإمحاء أو للانبعاث، للبكاء المخضب، وللضحك إذ يصير نحيبا").

حاول المؤلف القبض على العلاقة الحميمية للكائنات البشرية، التي غالبا ما توضع على مسافة من المجتمع. فهو سمع، وشاهد، وعاش، وسجّل حواراتهم الخام، وأدرجها في نصه من أجل استعادة لغة الممثلين التي لا تشبه كل اللغات. حاول أن يكتب شكلا دراميا جديدا، استنادا إلى الوقائع المختلفة التي عاشها بالقرب من الخراب، ورائحة الموت الكريهة التي لا تزال طرية، سعيا لفهم الحقيقة التي كانت تحيط به من أجل تأطيرها. فبالإضافة إلى شخصية الممثلة والمؤلف، هناك شخصيات أخرى، كانت شاهدة على ما قبل الحوادث المريعة وما بعدها. استدعاها المؤلف وجعلها تتحدث في مسرح سردي شعري، لم يعد فيه مكان لما هو يومي.

فللشهادة في هذا النوع من المسرحة قوة خاصة، طالما أن الشخصيات فيها لا تفعل شيئا سوى أنها تروي قصصا عما عاشته من رعب (الممثلة: لكن كيف عشت الحرب؟ الحارس: مثل راوٍ أزلي. ولذلك دونت التفاصيل في هذا الكتاب وحملت الصور على هذا القرص. ومنحته للعابرين). أليس هذا هو الغرض من كتابة هذا النص؟ لجأ محمد بهجاجي إلى السرد الشعري وليس الفعل، وجعلنا من خلال موضوعه نتابع الوقائع المروية بطريقة ليست بالضرورة متسلسلة كما في باقي النصوص الكلاسيكية، وكان الرابط بينها أسفار الممثلة التي لا تعرف من أين تبدأ قلقها الوجودي وسط هذا الحطام المريع! لذا قسم المؤلف حكايته أجزاء، وشكل ذلك قلب النص، الذي كان الهدف من ورائه باعتقادنا، إكماله بشكل أفضل، من قبل الجمهور والمخرج في ما بعد، لأن نص "كاثارسيس"، بقدر ما هو ذو قيمة أدبية شعرية عالية، هو نص كتب من أجل أن يلعب فوق خشبة المسرح. إنه في المقام الأول، تصوير أدائي، وحدث للعب، ولعبة الحدث. تكمن خصوصيته، في تفاعله الجمالي، والإجتماعي الذي يستكشف خطر اللعب نفسه من خلال مبدأ الظهور في سياق الحدث في الحاضر. إنه وهو في مواجهة القتل الجماعي، ينتج بشكل منهجي، عملية ظهور للكل أمام الكل. إنه معدّ لإنتاج الأحكام المتعددة التي تكشف عن الذاكرة والقضاء، وعن الحاجة إلى التماسك الإجتماعي، وعن تلك التي تزعزعه، أو تسائله، في المكان المسرحي.

إن كلام أم أنوار، على سبيل المثل، يتدفق بسرعة ملحوظة، كاشفا عن تفاصيل لا يمكن معرفتها إلا من كان شاهدا عليها: "إن ما يخلع قلبي عني هو الصمت، وليس الدمار. ما يرعبني، حقيقة، هو أن أرى امتداد أدغال الصمت في قلبي والعالم. (...). ولذلك أيضا تستغربين إذ تجدينني أعتلي هذا الركام. لا. ليس ركاما. إنه دمي، ذاكرتي، أحلامي، حياتي الأخرى حين تنتهي حياتي. إنك لا تستطيعين فهم ما أقصد، لأنك لم تكوني في غزة وبغداد وفي صور... قبل أسبوعين. ما ترينه ركاما كان خيمات فرح". تطلب هذا النص كتابة شعرية خاصة، اعتمدت على الكلام الذي فيه الإيقاع والأصوات بمثابة مزيج من العناصر اللغوية الملموسة، التي تصبح فيه الكلمة فعلا وحدثا في آن واحد. كل مقطع لا يقول بكل بساطة شيئا ما، بقدر ما يفعل شيئا يؤثر في الحدث نفسه. هكذا يصبح الخطاب المسرحي ماديا، ومرئيا من خلال الأصوات المتكلمة للشخصيات التي جعلها المؤلف تتحدث لغة ثانية. فالكلام في هذه المسرحية، يشكل المادة الخام الأولى، التي ولدت منها الجمالية الشعرية للخطاب المسرحي.

يحتاج هذا النوع من الكتابة المسرحية، إلى ممثل منتبه، قادر على إعطاء الكلام قيمته، من خلال الإلقاء، وإسماع النص، أكثر من التركيز على اللعب الراسخ بشكل جيد على الخشبة. إن الجانب الشعري الذي تعامل معه بهجاجي، يذكّرنا بجملة مارغريت دوراس، "إن الممثل ممر للكلمات". لذلك يجب أن يحسب، هذا الأخير، حساب للإيقاع، والشكل، والمادة، وليس فقط أن يلقي هذا الذي قد كتب، وإنما أن يروي نوع المسرحية، والنوع الذي تم تناوله. يبدو أن هذه هي مفاتيح لعب مسرحية "كاثارسيس". إنه نص يمرر الخطاب، والكلمات على الخشبة، حيث يتدفق الكلام فوقها مثل حنفية نفتحها في كل مرة يتكلم فيها الممثل.

إنه مسرح الكلام الذي لا يريد أن ينتهي بين المؤلف والممثلة، وبين محمد بهجاجي وثريا جبران. لقد كتب النص لها أو بالأحرى استكتبت نصها فيه أو من خلاله. لقد طلبت منه ذلك، سواء بالإشارة أو الكلام أو الصمت، أو التمني، بعدما شاهدا معا معنى الخراب، وعاشا معا لا معقولية الحياة، و"انتقام المحبطين" الذي لا يقوى إلا على قتل الأبرياء. عندما نقرأ النص، لا نرى إلا غيرهما في هذه المحنة العصيبة التي تسمى الحرب، الدمار، الموت، البكاء، وشواهد الميتين التي تملأ المزارع والحقول والهضاب وسفوح الجبال، وشوارع بغداد، وغزة. كل هذه الخرائط المتشابهة التي يتناولها النص بشكل مجازي وسريع، تصبح جغرافيا للموت وتاريخا حديثا للجريمة.

عن "النهار" اللبنانية