الخميس 2 مايو 2024
ملفات الوطن الآن

فاعلون وجامعيون يقرأون انحطاط وتمييع الخطاب السياسي.. بنكيران يسجن السياسة والسياسيين في «بويا عمر»

فاعلون وجامعيون يقرأون انحطاط وتمييع الخطاب السياسي.. بنكيران يسجن السياسة والسياسيين في «بويا عمر»

من باب السماء فوقنا أن ساحة جامع الفنا بمراكش، مصنفة ضمن التراث الإنساني، نظرا لما تتوفر عليه من إرث شفهي متميز، يتوارثه الخلف عن السلف. وما دام التراث الشفهي ضمن التراث الإنساني، فإنه يحق للمنظمات المهتمة أن تصنف الخطاب السياسي في حكومة عبد الإله بنكيران ضمن هذا التراث الذي أصبحت أسهمه مرتفعة في سوق السياسة اليوم. فالخطاب السياسي، سواء للحكومة أو المعارضة، أصبح ينهل من قاموس حدائق الحيوانات والأسواق الأسبوعية والحلْقات، وأصبح رئيس الحكومة يتحدث في وصفه للمعارضة عن تماسيح وعفاريت، وبأن «في كرشهم العجينة»، وبأن «المعارضة مكتخلعوش».. حتى أضحى بنكيران ظاهرة صوتية بامتياز، مخالفا الصورة النمطية التي كان يتمثل بها الوزراء الأولين السابقين، ولم يعد يميز المتتبع بين بنكيران رئيس حكومة وبنكيران أمين عام حزب البيجيدي. بالمقابل تصاعد الخطاب المعارض للحكومة، حتى أصبح بنكيران في نظر بعض معارضيه «داعشيا» وعميلا للموساد، وعوض انتقاد الأوضاع الحكومية، أصبح اهتمام المعارضة منصبا حول «برتوش» الحكومة، وعرسان الحكومة، وشكلاط الحكومة، وروبي الحكومة..

والمفارقة أن هذه الاتهامات وردود الفعل المغلفة بخطاب سياسي «زنقوي»، يلقى نسبة مشاهدة كبيرة، كيف لا ورئيس حكومتهم يتحدث عن أسعار البطاطا والبانان.. وعوض التأسيس لخطاب سياسي رصين وبناء يعالج القضايا الرئيسية في البلاد، أصبح الخطاب فرجويا، وهو ما يقوي وصف الملك الراحل الحسن الثاني، عندما اعتبر جلسات الأربعاء أشبه بالسيرك. فلماذا هذا الانحطاط والتردي في الخطاب السياسي ببلادنا؟ وهل هناك نية مبيتة من أجل تمييع الحقل السياسي في بلادنا وتقديم الصراع السياسي بأنه غير مجدي وغير بناء؟ ألا يعطي مثل هذا الخطاب مصداقية للرافضين للعملية الديمقراطية؟ هل تردي الخطاب السياسي هو جزء من تردي الوضع العام ببلادنا، حزبيا وإعلاميا واجتماعيا وثقافيا؟ هل يشكل هذا التردي، جزء من منظومة حزبية، سقط فيها الصف الأمامي، وحل محله أمناء أحزاب، «هاذ الشي اللي عطا الله»؟ أليس من المفارقة ارتفاع نسبة الأطر في مجلس النواب، مقابل انحطاط الخطاب السياسي للنخبة؟ ألا يشكل هذا التنابز بالألقاب مسألة محمودة مقابل تجارب برلمانية يشهر فيها السلاح في وجه الحكومة أو المعارضة؟ أليس من مهام المعارضة هو رفع منسوب الكلام مقابل ارتفاع منسوب العمل للحكومة؟

هذه الأسئلة وغيرها طرحتها «الوطن الآن» على كتاب ومفكرين وباحثين

 

عمر عباسي، الكاتب العام للشبيبة الاستقلالية

أزمة الخطاب السياسي مرتبطة برئيس الحكومة

شخصيا لا أتفق مع هذا التوصيف القائل بأن هناك انحطاطا وترديا في الخطاب السياسي السائد. فعلا هناك صراع سياسي في البلاد يؤطره خطاب رئيس الحكومة، نعتبره خطابا لا يساعد على تطوير التجربة الديمقراطية، ولا يتمثل رئيس الحكومة في خطاباته بصفته مسؤولا عن حكومة للجميع وليس لجماعته أو حزبه. وإذا كانت هناك أزمة خطاب سياسي فهي مرتبطة برئيس الحكومة. فعوض أن تنكب الحكومة على تنفيذ البرنامج الحكومي ووعودها للشعب، فإننا اليوم نلاحظ أن الشغل الشاغل لبعض أفراد الحكومة، بمن فيهم رئيسها، هو معارضة المعارضة وافتعال بعض المعارك الكلامية من أجل المراوغة في مواجهة السؤال العريض، ماذا حققت هذه الحكومة للشعب؟ لأنه لا معنى بأن يترك رئيس الحكومة أشغاله، ويتوجه للدشيرة من أجل سب المرأة المغربية وقذفها، أو يتوجه للراشيدية ويسب المعارضة. من يفتعل مثل هذه المعارك الكلامية؟ من يساهم في انحطاط الخطاب السياسي للحكومة؟ من صاحب مقولات «اللي فيه الفز كيقفز، أحزاب البلطجية، في كرشكم العجينة..» إنه بنكيران الذي لم يستوعب بعد كونه رئيس حكومة وليس مسؤول حزب سياسي..

وأخشى أن تكون هناك جهات إعلامية ومدنية وكذا بعض الفعاليات الجامعية، والذين لا يخرجون من محيط جامعاتهم، ويساهمون في تقديم صورة سلبية عن الأحزاب، وبعض هذه الجهات لا تكن الود للأحزاب السياسية، ويتم استغلال إثارة مثل هذه المواضيع من أجل شيطنة الفعل السياسي والمس بمصداقية الأحزاب السياسية، وهذه الجهات لاتريد أحزابا قوية في بلادنا.

مولاي بوبكر حمداني، فاعل سياسي

الحاجة إلى «بوديموس» مغربي

إن الخطاب السياسي الراهن الذي أصبح ينهل من اللغة الشعبوية الغارقة في الانحطاط والمس بالحياة الشخصية للقيادات الحزبية والتحريض والتزييف وإثارة النعرات في مجتمع شبه محافظ، وتفاعل هذه الحرب الكلامية لتشتعل حربًا في الإعلام، زاد من أعطاب المشهد السياسي المريض أصلا، وكرس من استعمال وسائل قذرة عمقت من مناخ الرداءة السائدة في الخطاب السياسي الراهن. ومن الطبيعي أن الخطاب الذي ينهل من كل ما هو سلبي في المجتمع وتخلي الأحزاب السياسية عن أدوارها الدستورية الأساسية في تأطير الموطنين وتوسيع المشاركة السياسية، وانخراطها في الصراع على المقاعد الوزارية بالارتكاز على ديمقراطية المحاصصة، الشيء الذي فرض عليها تهميش الأجيال الشابة من السياسيين وجعلها تراهن على الأعيان بدل النخب الفكرية والمثقفة بهدف كسب الاستحقاقات الانتخابية، كلها أمور لا يمكن إلا أن تغذّي حالات العزوف المهول واللاثقة في المشاركة الإيجابية والفعالة في الشأن السياسي. كما أن المستوى المنحدر للخطاب السياسي داخل الأحزاب نفسها، ناهيك عن بقية الاحزاب وطعن الفاعل السياسي في مسار وأخلاق رفيق دربه في النضال، سيصيب المتتبع قبل المهتم بالشأن الحزبي بالنفور والخوف من الانخراط في هذا المستنقع السياسي الذي لم يستطع سياسيو اليوم الخروج منه لأنهم هم أنفسهم لم يحترموا شروط التنافس السياسي الشريف ولم يضعوا ميثاقا رمزيا لقواعد اللعب النظيف. ومما لا شك فيها أن أي لعبة لا تحدد فيها قواعد مسبقة ستكون محلا للفوضى والارتجال، وهذا ما يجعلنا نترحم على الأخلاق السياسية التي كانت بفضلها الزعامات الحزبية في الماضي القريب تصارع من أجل الشعب ومن أجل القضايا المصيرية للوطن، وهو ما نتج عنه الزج ببعضها في غياهب السجون وجعل الأحكام الغيابية بالإعدام تصدر في حق بعضها الآخر. أما اليوم، فللأسف الشديد أضحت الساحة السياسية حلبة للاسترزاق والصراع على الكراسي، وتحولت من صراع حول القضايا والأفكار إلى صراع البلطجية والأوكار. ولعله من المطلوب اليوم في اعتقادي العودة إلى تعزيز دور المثقفين والإعلاميين المحايدين الذين تنازلوا عن دورهم النقدي لمصلحة السياسة، وصار هاجسهم هو دعم التوجه السياسي القائم وليس نقده، وإذا لم يتسن لهذا التيار النقدي بنفس تغييري التواجد وبقوة لصحيح الوضع القائم، فلن نخسر فقط السياسة والسياسيين بل سنخسر الوطن ونؤسس من جديد لمنطق التبعية وإملاءات الخارج. كما أظن أن الحاجة اليوم أضحت ملحة لتجمع يضمن الشخصيات السياسية المستقلة والنخب المدنية والنقابية والإعلامية الرافضة لهذا الواقع، للبحث عن بديل ديمقراطي يستجيب لطموحاتها في التغيير ويحدث عاصفة سياسية بتغيير حقيقي في لغة الخطاب السياسي، وليس ذلك بصعب خاصة ونحن نشهد النجاحات التي يحققها حزب «بوديموس» في أوروبا وهي التجربة التي يمكن أن تجد مثيلا لها في بلادنا.

النقيب إبراهيم صادوق، هيأة المحامين مراكش

الخطاب السياسي نزل إلى درجة غير مسبوقة من التدني

أعتقد أن أغلب المواطنين متذمرون مما وصل إليه الخطاب السياسي من انحطاط. فبدل أن يهتم الفاعلون السياسيون، سواء من الأغلبية أو المعارضة، بالمواضيع التي تهم المواطن العادي من توسيع آفاق التنمية ومناقشة منهجياتها، وبناء تقاليد وتقوية أعراف ديمقراطية من شأنها الرقي ببلادنا إلى مستوى الديمقراطيات الحديثة، والاهتمام بإصلاح التعليم ومناهجه، وسيادة اللغة الرسمية للبلاد لغة التعليم، ومحاربة المتربصين بضرب لغة المغاربة في العمق خدمة لأغراض أجنبية، والوعي بآن المقصود بتلك المحاولات البئيسة لتشكيك المغاربة في لغتهم الوطنية، هو خلق فتنة في البلد على غرار ما نجح فيه الاستعمار الحديث من خلق الفتن الطائفية في المشرق والاهتمام بإصلاح منظومة العدالة على اعتبار أن العدل أساس الملك، أي أساس التنمية والاطمئنان للأشخاص والأموال، ومناقشة الظاهرة الخطيرة التي أخذت تتسرب إلى المغرب، والتي من شأنها ضرب الأمن الصحي للمغاربة في مقتل، وهي عدم خضوع إنتاج وتوزيع الأدوية لضوابط صارمة. فعلى الناس أن يعرفوا أن ترك الحبل على الغارب من شأنه تعريض صحة المغاربة لخطر محدق... إلى غير ذلك من القضايا الهامة التي ينتظر المواطنون حسم الحكومة والمعارضة فيها.. ولكن للأسف الشديد نلاحظ بأن أجوبة الحكومة في البرلمان تبني خطابها على الخيال وتبرر عجزها بوجود «تماسيح وعفاريت» في المشهد السياسي، وهذا لا يجوز موضوعيا في الخطاب الحداثي الذي يجب أن يبنى على الموضوعية والحقائق العلمية. والمؤسف أكثر أن رد المعارضة انحصر في الاهتمام بمسائل شخصية ومحاولة تضخيمها أكثر من اللازم. الشيء الذي يطرح السؤال حول مستوى خطاب المعارضة وإلى ما آلت اليه الأمور بعد أن كان خطابها أكثر موضوعية ومصداقية.

وسواء كان ذلك عن وعي أو غير مقصود، فإن من شأنه أن يعطي الانطباع بنزول الخطاب السياسي إلى درجة من التدني غير مسبوقة، ومن شأن ذلك تكريس معوقات لبناء ديمقراطية حديثة.

عمر احرشان، أستاذ باحث

تدني الخطاب السياسي تعبير عن بؤس السياسة

تدني الخطاب السياسي ليس إلا تعبيرا واحدا، ضمن تعبيرات أخرى، عن بؤس السياسة والساسة في المغرب.. وهو نتيجة طبيعية للتجريف والتمييع وتجفيف المنابع، الذي استخدم لعقود من الزمن بغرض التنقيص من الفاعل السياسي وإبعاد المواطنين عن التفاعل المباشر مع كل ما يعنيهم. والفرق الوحيد الذي يميز فترة ما بعد 2011 عن غيرها أن وظيفة التمييع تقوم بها أحزاب ضد بعضها البعض، بينما كانت تقوم بها في السابق السلطة المخزنية ضد الأحزاب.. وهذا مؤشر خطير ينبئ بأن هذه السلطة نجحت في مهمتها وأن الأحزاب، مع استثناءات قليلة، سقطت في الفخ وصارت تشتغل بالوكالة لخدمة أهداف ستفضي إلى إضعافها في النهاية.

من تجليات انحطاط الخطاب السياسي في المغرب الابتعاد عن مناقشة الأفكار والبرامج والبدائل والإنجازات وتعويض ذلك بنقاش الأشخاص والتركيز على الشأن الخاص عوض العام وتصيد المناسبات لتصفية الحسابات دون مراعاة التأثيرات السلبية لذلك على المواطنين.

اليوم، يتضح أن الرقي بالممارسة السياسية والرفع من منسوب تجاوب المواطنين لن يتحقق بمجرد تعديل للنصوص القانونية والدستورية أو بمجرد رغبة، بل يلزم إعادة النظر في كل الأسس التي تقوم عليها هذه الممارسة مع التركيز، بالموازاة، على تمتيع القضاء بالاستقلالية والسرعة اللازمة للحسم في هذه القضايا، وكذا تسييج الممارسة الإعلامية بميثاق أخلاقي يحصنها عن نقل كل ما يروج بدون مراعاة تأثيراته السلبية مستقبلا على المواطنين.

نعيش في المغرب، شئنا أم كرهنا، نهاية مرحلة سياسية ويلزم الانتقال إلى مرحلة جديدة بأسس جديدة وفاعلين جدد ونظام علاقات جديد يتماشى مع التطورات التي يعرفها تدني الخطاب السياسي تعبير عن بؤس السياسة والساسة العالم والتي أصبحت تتيح للمغاربة نوافذ يطلون من خلالها على العالم ويقارنون بين مستوى العمل السياسي في المغرب وغيره فيتحسرون ويعزفون عن التجاوب.

محمد الساسي، أستاذ جامعي

بنكيران ظاهرة صوتية أكثر من الوزراء الأولين الذين سبقوه

يظهر انحطاط الخطاب السياسي في بلادنا وتدنيه، من خلال المصطلحات المستعملة وأنواع الهجوم بين الفرقاء السياسيين، طبعا الخطاب السياسي هو وسيلة من وسائل الأسلحة المستعملة في الحرب أو الصراع السياسي، ولا بد أن تشتد الحمية النظيفة أو القدرة بهذا الطرف أو ذاك، مما يتم معه تسجيل بعض التجاوزات في هذه المواجهات الكلامية، ومن الصعب أن نفرض على السياسيين في كل الأوقات والظروف أن يلتزموا بقواعد رفيعة في الخطاب ونبيلة في الفعل السياسي، فالتجاوزات لابد أن تقع، مهما حاولنا تحصين الصراع السياسي، لكن التردي الحاصل اليوم هو غير مسبوق، من حيث استعمال النعوت والمصطلحات، وهي تبقى مثيرة للمتتبع، ويمكن أن نردها لعدة عوامل:

من جهة هناك خطاب رئيس الحكومة الحالي، عبد الإله بنكيران، فهو يتميز بإنتاج وفير للخطاب لدرجة التضخم في إنتاجه، تصريحات، حوارات، لقاءات.. هل يتعلق الأمر بخصاص في الأفعال يقابله تضخم أو فائض في الأقوال؟ لا أدري.. هل يتعلق الأمر بطبيعة الشخص المعني بالأمر، أم بطبيعة المدرسة السياسية التي ينتمي إليها؟ لا أستطيع أن أجزم، لكن لدى بنكيران، سمتان في استعمال سلاح الخطاب، من حيث حضوره الكلامي القوي في اللقاءات العامة والخاصة، رغم أنه يغيب أحيانا لكنه يعود بقوة خطابية هجومية، ومقارنة مع سابقيه من الوزراء الأولين فهو ظاهرة صوتية أكثر منهم.. السمة الثانية في خطاب بنكيران هو هجومه الشديد على المعارضة، والأصل أن هذه الأخيرة هي التي يكون لها كثافة في الخطاب، من منطلق أنها ليست في مطبخ الشأن العام، لكن عندنا في المغرب، الآية مقلوبة، رئيس الحكومة يتحدث أكثر من المعارضة، وخطابه حاد النبرة اتجاه المعارضة، هذه النبرة الهجومية، تخلق مشاكل للمعارضة التي توجد أصلا في وضعية ضعف، وليست ناجمة عن حدة خطاب رئيس الحكومة، وهو ما يفسر رد الفعل القوي على الفعل الحاد، اتهامات المعارضة بالفساد يقابله اتهام بنكيران بالانتماء للموساد أو داعش، وقس على ذلك.. وكان أولى برئيس الحكومة قبل أن يتهم خصومه بالفساد أن يتحمل مسؤوليته في تحريك المتابعة والمساطر عبر الحكومة.. والملاحظ أن الخطاب السياسي لبنكيران ينفعه ولا يضره، وهو ما يفسر المد التصاعدي في هذا النوع من الخطاب لرئيس الحكومة، مما يجعله يمعن في سياسة الهجوم الخطابي، بل وحتى عندما يقوم بالسخرية والقفشات، يسجل بها أهدافا في مرمى خصومه، مما يعطيه ثقة في النفس، مقابل تعرضه الدائم للتجاوزات التي تسقطه في التناقضات..

بالنسبة للآخرين، يعود تردي خطابهم لردود فعلهم تجاه رئيس الحكومة، وهي أحيانا غير ذات مسؤولية، ولا مجال لاستعراض محطات السب والقذف المجاني للحكومة، ومن بين أسباب ذلك:

- انحطاط خطاب المعارضة يعبر عن وجود أزمة، وهذا معروف، دون أن نبرئ بنكيران نفسه من كونه يعيش أزمة في تدبير الشأن العام، في ظل وضع مركب ومعقد، يعبر فيه أحيانا عن رأي يناقض خلفياته السياسية، لكن المعارضة في أزمة أشد، لأن الخطاب المنحط لايلجأ له إلا بعد أن يفشل الخطاب الراقي في تحقيق أهدافه السياسية، طبعا هناك ايضا عجز في مصداقية المعارضة، لأنه أصلا، وجود بنكيران في الحكومة هو دليل على عجز معارضيه في تولي الشأن العام.

- طبيعة الأشخاص المتصدين للمعارضة، تلعب دورا في تشخيص خطاباتهم، من هم؟ كيف تولوا مناصب متقدمة في أحزابهم؟ كيف خاضوا المنافسة على المسؤولية الحزبية؟ هل يستغلون ضعفهم التأطيري في الهجوم على الحكومة؟ فهم يعكسون تصورا معينا للعمل السياسي، وهو ما ينعكس على طبيعة الخطاب المستعمل.

- تردي الخطاب السياسي هو نتيجة تردي الوضع السياسي العام، وكانت أكثر من وسيلة للدفع نحو هذا التردي، بدء من انحطاط الوسائل الانتخابية المستعملة، انحطاط العلاقة بين الفرقاء من داخل البيت الحزبي الواحد، وانحطاط التعاقدات التنظيمية، وقد يصل التوتر إلى استعمال العنف بين أعضاء الحزب والبلطجة الداخلية، أضف إلى ذلك لا منطقية التحالفات، فكل التحالفات ممكنة في ظل تحالفات غير ممكنة، فماذا تنتظر من خطاب هكذا تجاه الآخر؟ فانحطاط الخطاب السياسي الخارجي هو استمرار لتردي الخطاب الداخلي..

حسناء أبو زيد، برلمانية، الاتحاد الاشتراكي

المداخل الأربعة لتردي الخطاب السياسي

لا يمكن الحديث عن الخطاب السياسي بمعزل عن الممارسة والمشهد السياسيين، اعتباراً لكون الخطاب السياسي هو تجسيد وترجمة لدينامية ومضمون سياسي. ويمكن أن ندرج بعض الملاحظات:

- أولاً؛ عندما نتطرق لموضوع الخطاب السياسي فلا يمكن أن نحصره على مستوى الفاعلين السياسيين التقليديين، ولكن يشمل أيضاً الخطاب الصحفي والمقاربة الإعلامية، والمتلقي ارتباطاً باختيارات وميولات يعبر عنها عبر مستوى الانتباه والتتبع ونوعية الأحداث التي تسترعي انتباهه أكثر من غيرها. فيكفي أن نقارن نسبة تتبع ومشاهدة حالات انحراف الخطاب والممارسة السياسية مقارنة بنِسب تتبع الالتزام والرقي في الخطاب.

- ثانيا: إن واقع الخطاب السياسي يعكس إخفاقات متعددة، ربما أولها على مستوى التنخيب، على كافة الواجهات، في السياسة والإعلام والمجتمع المدني والإدارة.. والذي لا يمكن عزله عن الصراعات التي عاشها المغرب بين النخبة الواعية والدولة، مما أثر دون شك على اختيارات هذه الأخيرة بالنسبة للسياسة التعليمية، وعلى المنظومة المجتمعية ارتباطاً بتدبير الإختلاف وطبعاً الإعلام.

- ثالثا: تكمن الخطورة في كون هذا الخطاب السياسي المتدهور يتمتع بشعبية ويحظى بجماهيرية وبتتبع أكبر إعلامياً وعلى مستوى مواقع التواصل الإجتماعي، كما أنه يسجل بعض الأهداف الصغيرة في النزال السياسي، إذ مازال رفع الصوت دليلا على القوة في مجتمعنا السياسي والمدني، وتقريع المخاطب دليل على التفوق، وقذف الآخرين بالتوصيفات السلبية تَمَيز حسب البعض، لذلك فمعالجة الخطاب السياسي يجب أن تنطلق من تحديد فاعليه المؤثرين أسباب تدنيه واستدماج كل ممكنات الرقي بِه.

- رابعا: يتحمل الإعلام وأساسا الصحف والإذاعات الخاصة -خاصة- جزءاً كبيراً من المسؤولية في توسيع جمهور الخطاب السياسي السلبي، وذلك بتسليط كل الضوء عليه وتتبعه وجمهرة الإنتباه حوله، واستعماله للإثارة، لذلك يمكن اعتبار تأهيل الرافعة الإعلامية مدخلاً سالكاً لتطوير الخطاب بشكل عام.

سعيد خمري أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق المحمدية

قاموس الحيوانات

أعتقد أن تدني مستوى الخطاب السياسي لدى الفاعل الحزبي بالمغرب، مرده بالأساس تراجع مكانة البنية الحزبية في حد ذاتها، كنسق فرعي للنسق السياسي العام. وأسباب هذا التراجع معروفة لدى الملاحظين والمحللين السياسيين: منها ما هو موضوعي، مرتبط بطبيعة النسق السياسي المغربي ومسلسل الصراع السياسي منذ الاستقلال إلى حدود تسعينيات القرن الماضي، وأيضا تراجع دور الأحزاب كهيئات وسيطة أمام تنامي دور وسائل الإعلام وتطور التكنولوجيات الحديثة في الاتصال... ومنها ما هو ذاتي، مرتبط بطبيعة البنيات الحزبية بالمغرب، وغياب الديمقراطية داخل عدد كبير منها، وعدم شفافية القرار، فضلا عن تهميش الشباب والنساء، مقابل قيادات شائخة متحكمة في قرارات وأجهزة الحزب. مما أدى إلى تراجع قيمة وصدى الخطاب الحزبي عموما، لاسيما بعد فتح جل الأحزاب أبوابها أمام أعيان الانتخابات (أصحاب الشكارة)، الذين تغلغلوا داخل أجهزتها، ويكادون يسيطرون على القرار فيها. في حين تم إقصاء أو انسحاب المناضلين المؤمنين بفكرة الحزب ودوره في التغيير، الشيء الذي أدى إلى خدش صورة المناضل، المضحي، المتطوع، المعبئ، الخطيب أيضا. لتحل محلها صورة العضو الحزبي (حتى لا نقول مناضل) الانتهازي، المتسلق، الاستغلالي، والمهرج. وبذلك فقد العمل الحزبي معناه النبيل الذي حملت مشعله قيادات نموذجية مثل علال الفاسي، والمهدي بنبركة، وعبد الرحيم بوعبيد، وامحمد بوستة، وعبد الرحمان اليوسفي... أمام هذا الوضع لا عجب في أن يوظف زعيم حزبي في خطابه قاموس الحيوانات أو يواجه برلمانية بخطاب فيه إيحاءات جنسية، أو يتبادل برلمانيون اللكمات مباشرة بعد خطاب ملكي يحث على العمل السياسي بمعناه النبيل.

فوزية الأبيض، برلمانية الاتحاد الدستوري

رئيس الحكومة ينهل من قاموس الشعبوية

يتنوع الخطاب في الحقل السياسي اليوم بين ما هو أكاديمي كمرجع علمي ينهل من القانون وفلسفة العلوم السياسية، يتم تداوله في المنابر الإعلامية، في الجامعات، في الصالونات والمنتديات. لكن خاصية خطاب الممارسين في الميدان متنوع بين ما هو دعائي وعدائي تجاه الآخر. فطبيعة الحقل السياسي هي المنافسة والتجاذب وصراع المواقع واستمالة الناخبين، لذلك فالكل يبحث عن شيطنة الآخر وقدفه بجميع العلل في مواقع نفوذه سواء في التجمعات الخطابية، في المؤتمرات الجهوية أو الاقليمية للأحزاب، وهو مانشهده بين شباط كمكون للمعارضة وبن كيران كقائد للأغلبية الحكومية.

فحدة الصراع تبرز في الخرجات الإعلامية المثيرة أحيانا والتي تخلق الحدث «البوز» Buzz وغالبا ما تكون على شكل فقاعات هوائية تلهي الرأي العام عن القضايا المصيرية وعن اختلالات الشأن العام، وتحقق لإحدى أطراف الصراع السياسي انتصارا رمزيا مؤقتا قد يكون سببا في ارتفاع نسبة المشاهدة، كما يكون من مسببات شعور المتلقي بالتقزز وبابتذال الطبقة السياسية وبالتالي السبب في العزوف.

لكل حزب استراتيجيته التواصلية لذلك فالتصريحات على اختلاف مستوياتها، تعهد في إطار المناولة، إلى أشخاص بعينهم، حسب خاصية كل مرحلة والتي تتسم بإرسال رسائل مشفرة بنبرة الدهاء وتنهل من قاموس الشعوبية كإطار عام هيمن في ولاية هاته الحكومة في شخص رئيسها، خاصة عند إجابته عن محاور المساءلة الشهرية في الغرفتين.

عموما مستوى الخطاب يرتفع تارة وأخرى يتردى لدرجة ضرب الخصوم تحت الحزام ورشقهم بجميع نعوت الفساد دون تحريك النيابة العامة، وهذا يدل على مجانية القذف، والتشكيك في الوعود واستغلال للموروث الثقافي المشترك. حتى أننا أصبحنا نرى نفس المسؤول السياسي، في إطار تنقله عبر ربوع المملكة، يبكي هنا، دون معرفة مدى صدقية دموعه، ويرقص مع أحواش هناك لأعطاء صورة حداثية وشعبية، أو يحكي نكت يهتز لها الحاضرون واصفا خصومه بكل النعوت، أو في موقف يريده أن يكون فيضا إنسانيا يعبر فيه عن تعاطفه اللامشروط مع أوضاع إجتماعية خاصة. بل يتم استغلال حتى الأموات، ولبس نبرة تهديدية لكشف المستور وإشهار الملفات حيث توزع فيها التهم هنا وهناك.

بل هناك من يركب المناورة ويصرح أنه مستعد «للموت في سبيل الله» أي الشهادة وتقديم نفسه قربانا لإعلاء كلمة الحق، وهذا نوع من التغليط، لأن المسؤول السياسي دوره هو تنزيل برنامج وتقديم حصيلة أدائه. جميل أن يكون السياسي مزيج من اللوحات الروحانية والوجدانية التي تغازل العواطف الهشة، لكن الذي ليس بجميل هو التوظيف السياسي لملفات وهمية، كما يوظف المعطى الأخلاقي والديني عند البعض لقضاء مآرب أخرى.

منعم وحتي، عضو الكتابة الوطنية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي

إنتاج زعامات من «البانضية» لا ينتج إلا خطابا سوقيا

أكيد أن سؤال تردي خطاب «قادة» المشهد السياسي المغربي، وأضع ألف قوس على كلمة «قادة»، أحرى أن نفككه أولا من خلال علم التواصل و تحليل الخطاب قبل السياسة. فبالرجوع للأصول الاجتماعية لبعض هؤلاء «الزعماء»، نجد أن خطابهم وقاموسهم يتغذى من الألفاظ السوقية للحواري، وفتوات الأزقة وقطاع الطرق، ويقطع حتى مع تقنيات الخطابة عند بعض الزعامات السالفة في هذه التنظيمات، إذن فالرصيد اللغوي المستعمل يعكس المنحدرات المتدنية لهذه «القيادات» فأصول التربية الأسرية عامل محدد في إنتاج النخب.

بالضرورة كان لتدخل أجنحة المخزن في توجيه وتسيير هذه الأحزاب لما أصبح يسمى أغلبية ومعارضة «صاحب الجلالة»، الدور الأساسي في إنتاج هذا النوع من النخبة المعاقة، لأن فقدان هذه الأحزاب لبوصلة استقلالها، فرض إفراز نوع هجين من الأطر المفبركة، والتي خٌطط لمهامها بالتغطية على عورات استبداد وفساد الدولة، فمن الطبيعي إذن أن تجد على رأس هرم هاته الأحزاب مجموعة من «البانضية»، فلن يأخذنا العجب من طبيعة الخطاب الذي سوف تنتج، فالمشهد السياسي مفبرك بشكل يعكس خطابا مفبركا، سوقيا، و منحطا، إن المخزن يحصد ما زرعه وأنتجه ولسنين من التحكم في الحقل السياسي والتضييق وتصفية معارضيه الحقيقيين، إن الوطن يمكن أن يٌبْنَى خارج جلباب المخزن، والذي ألفت هاته الكائنات المصنوعة توجيهاته السامية خارج الدينامية الحزبية المستقلة: مؤتمرات مصنوعة، أجهزة مصنوعة، قرارات مصنوعة، إنه السؤال المؤرق للاستقلالية.

فليرجعوا لخٌطَب المهدي بن بركة وسط آلاف الناس، بل فليستعيدوا حتى ثقافة علال الفاسي وهم يدعون استمراره حزبيا، بل حتى الأدوات التنفيذية شبه الحاكمة «بأمر الله» و خطابها أشبه بتنابز الحمامات وهلوسات المشعودين، فلترجع إلى مطالعة نهج البلاغة، أم أن اللحية تقية لقضاء المآرب والاستناد للنصوص الدينية لبيع الوهم للناس.

يصعب الحديث إذن بلغة علم السياسة، ولم نتجاوز بعد الآليات الأولية لتقنيات الخطاب، وأتذكر أن بعض شباب حركة 20 فبراير، كان أكثر حنكة في تقنيات الخطابة والتأثير في الجماهير ولم يكن يمتلك إلا مكبر صوت مهترئ، لكن قوة الخطابة وعدالة القضية أيضا كان له فعل مدوي في كل الأوساط، نفس الشيء بالنسبة لشباب الحركة الطلابية والتنظيمات اليسارية خارج البرلمان، لكن الفيتو المخزني يقصيهم من الإعلام الرسمي، وبالمقابل يٌسوق هاته الوجوه الزعماتية زورا في كل البلاطوهات، لذا فليست السياسة من يجب أن تجيب عن حالة التردي هاته بل علم النفس الاجتماعي لدراسة كيف أٌنْتِجت هاته النخب الضحلة، وكيف ساهمت السطوة المخزنية التحكمية في قرار هاته الأحزاب في تنميط «زعامات» تبعية لنهجه.