الأحد 6 أكتوبر 2024
كتاب الرأي

عبد الوحيد خوجة: قطار الحمام

عبد الوحيد خوجة: قطار الحمام

يطير الحمام، يحط الحمام...

قد يذكر هذا بمنظر جنائزي رهيب، جثمان الشاعر الأبدي محمود درويش مسجى وسط حجرة في مقر السلطة الفلسطينية، وحوله ثلة من الأصدقاء والأقرباء، وحده مارسيل خليفة استجمع ما يكفي من الشجاعة كي يغني واحدة من أعز قصائد درويش إلى نفسه.

يطير الحمام، يحط الحمام..

فوق رصيف القطار بمحطة الرباط، يحفظ الحمام عن ظهر قلب تقلب نبرات صوت المكبر.

سيداتي سادتي، إن القطار القادم... يطير الحمام مفزوعا ويعود إلى أعشاشه.

سيداتي سادتي، انتباه من فضلكم... يعود الحمام إلى الرصيف ليحتل السكة متيقنا أن القطار لن يمر في وقته المعتاد.

على رصيف محطة القطار وجوه تارة ناظرة وأخرى نضرة، أنهت يومها في دهاليز الإدارة، التي تقتل في الناس كل ما هو جميل.

حمام يطير ثم يحط في تناغم سمفوني رائع.

يفتح القطار أبوابه المتعبة، يتسارع الراكبون، ليتشبثوا بالأبواب تشبث الغريق بمن جاء يحميه من الغرق، ثم صمت، فانتظار غير محدد المدة، لينطلق القطار في حركة متثاقلة.

سيدة "تدخل الأربعين بكامل شبشبها"، كل شيء فيها ينطق بثراء جديد، ساعة اليد، الحقيبة، النظارات، بجانبها يجلس شاب أنيق ينخرط معها في حديث سلس تتبعه السيدة بقهقهات يسمعها باقي الركاب.

يقف القطار بعد لحظة من جديد، هنا أكدال، تفتح الأبواب الصدئة من جديد ليصعد من تبقى من موظفي ومستخدمي الرباط، الذين تضطرهم ظروف العيش إلى البقاء في البيضاء.

البيضاء على بعد ساعة، هكذا تقول اللوحات المعلقة في الأرصفة، على بعد ساعة ونصف على الأقل، هذا ما يؤكده الواقع اليومي.

يجلس الناس في القطار، حسب ترتيب العادة، منهم من اختار رفيقة له، ومنهم من جالس نفسه حاشرا أنفه في جريدة أو مجلة، والقليلون منهم يفتحون كتابا، والآخرون ينخرطون في مكالمات هاتفية تقض مضجع الرضيع "انتظرني في المحطة سأكلمك بمجرد وصولي وسأعلمك بملامحي".. فهمت كما فهم من التقط الكلام أن السيدة ذاهبة إلى موعد محدد بواسطة الوسائل الحديثة للتواصل.

حضرني مشهد القطار في بلد أوروبي لا يستعمل أحد هاتفه، ظننت يومها أن القطار لا يتوفر على شبكة للهاتف المحمول، غير أنني فهمت، بغير تعب، أن الناس لا يستعملون الهاتف احتراما لغيرهم من الركاب.

يطلق الهاتف صوتا رخيما بنبرات شرقية مميزة، معلنا حلول وقت الصلاة، ولم يكن الوقت موعد صلاة، انخرط الراكب بجانبي، الذي ظل واجما منذ ركوبنا القطار، في ترديد الآذان مع الهاتف، قبل ذلك كان يترنح برأسه يمنة ويسرة، يغالب نوما يأتي بدون ميعاد.

تحرك قليلا إلى الأمام، بعد اعتداله في مقعده، بدأ يتمتم ويهمهم، فهمت من ذلك أنه يؤدي صلاته، في لحظة ما سمعته يقول "السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته"، أجيبه متذكرا نصيحة والدي: "من حياك بتحية رد بأحسن منها أو بمثلها"، قد يكون هذا حديثا نبويا فاتني اسم راويه، فقلت "وعليكم السلام ورحمة من الله تعالى وبركاته". رمقني بخبث واضح، تجنبت الإمعان في النظر إليه، وانخرطت في الاستماع إلى صخب صرير العجلات المقيت، ولم أجد لنفسي عزاء إلا الهروب إلى من يرافقني في الحل والترحال، آلة التسجيل كان ينبعث منها صوت الرائع محمود درويش "سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح".

تسكت سيدة الأربعين، تغرق في نوم ينم عن تعب شديد، يبطئ القطار سيره عندما يمر بمحطات صغيرة إلى أن يصل إلى المحمدية. يتوقف للحظات ليفرغ بعضا من ركابه، ثم ينطلق ببطء، الهمهمات نفسها والكلام نفسه لا يقطعه إلا صياح سيدة الأربعين، بشكل هستيري، تعلن أن حقيبتها سرقت.

انتبهنا جميعا إلى أن الشاب الوسيم الذي كان يجلس بجانبها قد غاب عن الأنظار، فهمنا حينها أنه هو صاحب الفعلة، سألها أحدهم: "كيف غفلت عن حقيبتك"، قالت: "إنها حقيبة كل أسراري ومتاعي، ولم أكن أظن إطلاقا أن الشاب الوسيم يمكن أن يفكر لحظة في سحبها بتلك التقنية". ضحك الجميع بشكل متستر.

عدت إلى صمتي الداخلي، صمت عبودي، أضع من جديد سماعة الآلة في أذني، تنسيني عذوبة صوت جاهدة وهبة: "كتبتك بالمطارات التي نسيت أبجدية بواباتها" قلت في سريرة ذاتي "كتبتك بالقطارات التي نسيت مواعيد إقلاعها".

صوت ارتطام القطار بشيء ما توقظ الغافلين والنائمين، لم يتوقف القطار، قال أحد المسافرين "الحمد لله أن الحجارة لم تصب الزجاج، يحدث هذا غالبا"، صرحت مسافرة بصوت سمعه الجميع أن صبية يقطنون بجانب السكة يرمون القطار بالحجارة دون أن يتحرك المسؤولون لإيقاف هذه الحركات التي تنفر الناس من القطار.

تذكرت في لحظة ما وأنا أرمق عنوان جريدة في يد مسافر محطة البيضاء، كانت مجرد غابة تملأها السباع، يقول بعض الرواة: "وحده رجل يحمل علامة التصوف يدخلها"، تلتف حوله السباع فيحضنها ويقبلها واحدة واحدة، فسماه الناس أبو الليوث، أحب المكان وحيواناته فاختاروه مرقدا له بعد وفاته، فسماه السكان بسيدي بليوط.

عين السبع تذكرت سيدي بليوط أو أبو الليوث، وتساءلت عما علاقة هذا بذاك، وتصورت السباع تغادر مكانها جنب محطة القطار لتروي ظمأها في هذه العين.

متثاقلا يتحرك القطار بعد وقفته، وبعد لحظات بدا البحر هائجا صاخبا يلفظ كل شيء، يبتلع كل شيء، إنها البيضاء، التي أغرت سيدي علال القيرواني للاستقرار بها بعد أن أغرق البحر قاربه وهو متوجه إلى الأقاليم الجنوبية.

أنقذه بعض البحارة فاستوطن الشاطئ ليمارس به تجارته وعبادته، ويبني داره البيضاء ليجعلها البحارة بعد ذلك مرشدا ومنارا لهم. ويجعل منها أهل البيضاء ضريحا يهربون إليه تخفيفا لآلامهم وتحقيقا لآمالهم.

محطة القطار بالبيضاء هنا لا حمام، تقيأني القطار، وضعت قدمي فوق رصيف تتجاذبه أرجل القادمين والمغادرين، إعلان الرباط لا مكان له في البيضاء ولا حمامه، وحده طائر بنّي قد يكون جاء مع سيدي علال القيرواني في قاربه، فلما نجيا معا قص جناحيه مانعا إياه من الرحيل.

استوطن الطائر البيضاء، واستطاب العيش فيها، وكتب وصيته لمن يجيء بعده أن لا يهاجروا أو يرحلوا، وأن يجعلوا منها مقاما أبديا، أغرته البيضاء كما أغوتني، فاستطاب كما استطبت العيش بها.

خارج المحطة، صراخ شديد يذكر بمظاهرات الثمانينات، يقف رجل أوروبي يستجدي سائق سيارة أجرة عله يوصله إلى فندقه، والسائق واثق يفهمه أنه لن ينقله وحده، بل عليه أن ينتظر راكبين قد يجود أو لا يجود الزمن بهما.

جاءني من جديد ما علق في ذاكرتي المهترئة من شعر درويش: "ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين".

إنه القطار، كل يوم ملهاة، أو تراجيديا، أو هما معا.