الثلاثاء 30 إبريل 2024
ملفات الوطن الآن

بنكيران يدكُّ «دولة الدستور» لبناء دولة «الإخوان العميقة»

بنكيران يدكُّ «دولة الدستور» لبناء دولة «الإخوان العميقة»

منذ توليه مسؤولية التدبير الحكومي إثر الانتخابات التشريعية لسنة 2011، وحزب العدالة والتنمية يردد، بموازاة سلوكه السياسي، خطابا جديدا من أجل التغطية على مواقف العجز والتردد التي تطبع عمل الأغلبية الحكومية. في هذا السياق يتحدث رئيس الحكومة دائما عن «الدولة العميقة»، وادعاء مسؤوليتها في إفشال برنامجه الحكومي، وعملها على ما يعتبره العدالة والتنمية سعيا شرسا من أجل مواصلة التحكم الفعلي في دواليب الدولة والمجتمع. الأمر الذي يطرح السؤال الحقيقي عن خلفيات الإصرار على تبني هذا الخطاب في سياق تجاذبات العمل السياسي، وعن طبيعة مرجعياته؟ وما هي «الدولة العميقة» التي تسعى فعليا إلى ابتلاع الأمة المغربية؟

تختلف حكومة بنكيران عن مثيلاتها السابقات بانبثاقها عن مخاض سياسي غير مسبوق عبر عنه دستور 2011، باعتباره تمثل حاجة المجتمع المغربي إلى التحول الحقيقي، على ضوء الانتفاضات التي هزت أركان الحكم، خاصة في تونس ومصر ضمن ما يسمى تفاعلات «الربيع العربي». وبهذا المعنى ينظر إلى ذلك الدستور على أنه سما بدرجات التعاقد بين الفاعلين السياسيين، وعبر عن نضج جماعي من أجل التجاوب مع ضرورات التغيير والإصلاح، وبذلك صار هذا الدستور أرفع وثيقة قياسا إلى تاريخ الممارسة الدستورية المغربية، لا فقط لغنى الزخم السياسي المصاحب لها وللرهانات المعقودة عليه، ولكن للصلاحيات المقررة ضمنه، ومن بينها تطور وضعية وصلاحيات المسؤول الحكومي الأول إلى ما أصبح مؤسسة رئاسة الحكومة.

وباعتبار هذه الوضعية وهذه الصلاحيات، فلم يعد ممكنا البحث عن مشاجب لتعليق الفشل الحكومي، سواء في المستويات القطاعية، أو في المستوى الحكومي الشامل، وإلصاقها بمواقع أو اعتبارات كما كان يحدث سابقا حين كانت بعض الأطياف السياسية تنحت بعض المفاهيم لترسم حقيقة العمل الحكومي، وتبين موارد التحكم وهشاشة مشروع الانتقال الديموقراطي. نذكر في هذا الإطار كيف كان يتحدث القيادي الاتحادي محمد اليازغي عما كان يعتبر بمثابة «الحزب السري» الذي كان يعمل على إعاقة مسار النمو الطبيعي لمسلسل دمقرطة الدولة والمجتمع. وكان يقصد أجهزة وزارة الداخلية «المزروعة والمنتشرة في كل المؤسسات» على حد تعبيره، وذلك لوصف آليات التزوير والغش التي شابت انتخابات 1993. وفي نفس السياق أبدع القيادي الاستقلالي أحمد بوستة تعبير الانتخابات «المخدومة» لوصف نفس المرامي. تماما كما نذكر حديث الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول الأسبق عن «جيوب مقاومة التغيير»، كناية عمن كان يعتبرهم يشكلون «مركبا مصالحيا وسياسيا» يسير في غير خط الإصلاح، ويعمل على تعميق الهوة بين المؤسسة الملكية ومكونات الحقل السياسي الوطني التي كانت تسعى إلى بلورة تعاقد سياسي جديد.

إذا كان لمثل هذا الخطاب ما يبرره موضوعيا في مرحلة سابقة، فإن الحديث عن «الدولة العميقة» لا يستقيم، اليوم، في وضع دستوري وسياسي ومجتمعي مختلف. وإذن فالإصرار على تبني هذا الإطار المفهومي «الدولة العميقة»، وما يرافقها من تعبيرات ملتبسة (التماسيح والعفاريت...) يعني أولا التغطية عن فشل التدبير الحكومي، خاصة في القطاعات التي تمس المعيش اليومي للمواطنين، والبحث عن متهمين آخرين ليعلقهم في الحملات الانتخابية القادمة. وبذلك يحتمي بهذا الإطار المرجعي، كما برز في سياقات دولية مختلفة، خاصة في تركيا ومصر وتونس على سبيل المثال، على أن المشترك بين هذه السياقات هو الجذر الإخواني للفاعل السياسي الرئيسي في كل هذه الأقطار.

إنه جذر تنظيمي - إيديولوجي يشترك فيه حزب العدالة والتنمية مع نظرائه في العالم، لا فقط كفرع أصولي يعمل وفق مقتضيات التنظيم الدولي الإخواني سلوكا وخطابا، ولكن كامتداد يتمثل ويطبق فلسفة ذلك التنظيم الذي يتحول إلى شبكات متقاطعة ومتداخلة، حيث تسعى الأذرع الدعوية (الإصلاح والتوحيد)، والطلابية (فصيل التجديد الطلابي)، والاقتصادية (جمعية أمل للمقاولات)، والجمعوية (استغلال شبكة الجمعيات العديدة بالجماعات المحلية)، إضافة إلى التمطط السرطاني في مجالات الإعلام المكتوب والإلكتروني، من أجل الابتلاع الأخطبوطي للقطاعات العمومية والخاصة، وللجامعات ولمؤسسات المجتمع المدني، وإلى التحكم في السياسة والثقافة والمجتمع، وإلى اختطاف الأمة المغربية.

وإذن فخطاب «الدولة العميقة» لا يبحث فقط عن تغطية الفشل، ولكن عن تغطية نيات التحكم وآلياته.

إن زعيم حزب «العدالة والتنمية»، إذ يستعير مثل هذه المفاهيم، فلأنه مقبل على سرقة دولة ومجتمع، وعلى الالتفاف على التاريخ السياسي للمغاربة، وعلى نضالهم التاريخي من أجل إنجاح مشروع الدمقرطة والتحديث.

ولذلك ينهج «العدالة والتنمية» السياسة والدين بأقنعة مختلفة، كما كنا نوضح ذلك دائما في ملفاتنا، ويعمل (عبر توزيع الأدوار بين قيادييه) على اللعب كل الحبال واعتناق شعار: «شي كوي و شي يبخ»، فهو مع إمارة المؤمنين وضدها، مع المؤسسات وضدها، مع الديمقراطية وضدها، مع المغرب وضده، وذلك لتأسيس دولته العميقة ولتوطيد امتدادها الشبكي، ومن أجل الوصول إلى ذلك لا يجد حرجا في عمل وقول أي شيء، إنه المنتصر والمظلوم، الحاكم والمحكوم، وكل شيء جائز ومبرر للالتفاف على موروث المغاربة.

إنه المظهر الجديد لأعطاب السياسة في بلادنا.

محمد المرابط، باحث

مشروع «ميجي» مغرب الغد و«الدولة العميقة» لبنكيران

وقفت في مقالي الأسبوع الماضي، «الدولة والمشروع، من المهدي بن تومرت إلى محمد بن الحسن»، على تعبير المرحوم محمد عابد الجابري سنة 2003 عن «أمل المغاربة جميعا في أن يكون هذا الملك الشاب هو ميجي مغرب الغد. وهذا دوره التاريخي». وهذا التعبير وبهذه الحدوس في الملك الشاب، يحيلنا على فراسة سيدي عبد الله بن علي بن طاهر الشريف الحسني السجلماسي قبل أربعة قرون، في «مولانا الشريف» لما كان صبيا لم يدرك الحُلم، حين جاء في جملة أشراف سجلماسة لزيارته، فضمه إليه بعد أن سأل عنه، «ونظر إليه نظرة ربانية أمده فيها بسر الخصوصية الإلهية وأودع فيه بسببها نور الخلافة، وقال مرحبا بولد سيد الشرفاء، ولم يزده على هذه الكلمة. ومن يومئذ لمح الناس مولاي الشريف بالخصوصية التي أودع الله فيه، بسبب نظرة هذا الولي المبارك إليه، فظهر ذلك في عقبه الكرام نفعنا الله بهم آمين».

لعل هذا الارتقاء من الصبا إلى الشباب، ومن من منشأ الدولة إلى استمراريتها وبهذه الفراسة والحدوس، وبلغة الإشارة وباقتضاب، يطرح مسؤوليات مشتركة ليعم النفع بهذه «المناقب»؛ فهذه الفراسة في صبي لم يبلغ الحلم من المشرب الشاذلي، في قيام دولة الأشراف العلويين، تطرح من باب الوفاء اليوم، ما قاله سيدي عبد الله الغزواني: «كل وارث لا يرث إلا مشرب إمامه». وهذه الحدوس في شاب من المشرب الوطني الديمقراطي، في استمرارية الدولة من موقع قيادة الإصلاح، تطرح من باب الوفاء، الانتصار للانشغالات الجوهرية من قبيل تساؤل الأستاذ الجابري: «هل يمكن القيام بإصلاح بغير مصلحين؟ هل يمكن القيام بنهضة بغير عقل ناهض؟ وهل يمكن إقامة الديمقراطية بدون ديمقراطيين؟»، ومن قبيل الجواب الحاسم لعاهل البلاد: «لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين».

هذا الربط بين الماضي والحاضر ضروري للإمساك ببوصلة التاريخ، فشهادة الجابري (الملك الشاب هو ميجي مغرب الغد) وقد منحها مسحة الأمل (أمل المغاربة جميعا)، كما منحها سمو التجريد الفكري (هذا دوره التاريخي)، تطرح مهام تحصين هذه الشهادة، وهي منبثقة من وجدان مفكر وطني علق آمالا كبرى، بأبحاثه العديدة على نهضة بلاده، وجسد هذه الآمال في النهاية -لله دره- في شخص عاهل البلاد. ولم يتأثر المرحوم الجابري في هذه الشهادة بمسألة الخروج عن «المنهجية الديمقراطية». ولم يتأثر حتى حزب «القوات الشعبية» بهذا الخروج، وهو يعقد مؤتمره السابع تحت شعار: «معا مع جلالة الملك من أجل بناء مغرب حديث». ولعل في هذا النهج الوطني الواضح درسا لمن لا يعرف اليوم، في «امتهان» السياسة إلا الابتزاز.

وينتصب في أولى مهام تحصين شهادة المرحوم الجابري، ما قاله الأخ الأستاذ سي محمد الساسي في حواره/ الحدث، في «الاتحاد الاشتراكي» 7/8/1999 (كان قد أجراه الزميل عبد الرحيم أريري حول فكرة يجملها التساؤل التالي: «من سيقوم بتحديث من؟ هل اليسار المغربي هو الذي سيقوم بتحديث المؤسسة الملكية؟ أم على العكس انقلبت الأدوار وأصبحت الملكية مؤهلة أكثر لتحديث اليسار؟»)؛ حيث جاء فيه: «إن من يحب ملكه عليه أن يقول له الحقيقة كاملة». ويندرج في قول الحقيقة أو الإخلاص في النصيحة، جملة أمور في طليعتها، تغليب الرؤية الاستراتيجية في بناء منطق الدولة الحديثة. لذلك نستشعر مخاطر المساس بمصداقية التزامات الملك المعلنة، وفي صدارتها «المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي»، لأن من شأن هذا المساس أن يعيدنا إلى الوراء. لذلك نقدم دعوة جماعية لتأمل أدائنا الجمعي، حفاظا على زخم بدأنا نحس بتراجع منسوبه في الذاكرة والأوصال، والبادئ أكرم.

لقد تعرض المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، لمناهضة ممنهجة، استُحضر فيها تلازم استهداف التحديث المؤسساتي والتجديد الديني، وتمت هذه المناهضة من داخل النسق الرسمي، سياسيا ودينيا،وبتحالفات خارج هذا النسق. سنقتصر اليوم على المدخل السياسي في هذه المناهضة،على أن نعود لاحقا للمدخل الديني في ذلك، لاستكمال عناصر الرؤية الشمولية في هذا الباب.

يستوجب منطق استحضار السياق العام، لمقاربة هذا المدخل، التذكير بأن المرجعية السياسية للمغرب المعاصر يمثلها ميثاق «ثورة الملك والشعب»، والتي عبرنا عن الأمل في العهد الجديد بأن تبقى هذه الثورة متجددة. فهذا الميثاق يعني «الشراكة السياسية» في الحكم. لكن نزوع الاستبداد سيلغي هذه المرجعية من خلال انقلاب ماي 1960، على حكومة المرحوم عبد الله إبراهيم، فدخل المغرب سنوات الرصاص، حتى كاد أن يصاب بالسكتة القلبية.

حوار سي محمد الساسي المشار إليه آنفا جدير بقراءة سياقه وما ترتب عنه. لكن ما هو في حكم المؤكد أن اتجاها في الحكم وبقياسات مغلوطة، ارتأى وبخطأ في التقدير السياسي، «التخلص» ممن قد يمثل عرقلة في العهد الجديد، قياسا على الإزعاج الذي مثله في العهد السابق، فكان الخروج عن «المنهجية الديمقراطية» عقب الاستحقاقات التشريعية لسنة 2002، بإبعاد الأستاذ المجاهد سي عبد الرحمان اليوسفي من قيادة مرحلة «التناوب»، بعد تجربة «التناوب التوافقي». فشكل هذا الخروج عن هذه المنهجية، أولى الضربات للمشروع الإصلاحي لميجي مغرب الغد، لتتوالى الضربات لهذا المشروع -حتى من قبل هذا الخروج، كتداعيات رسمية لحوار الأستاذ الساسي- وقد تم ضرب أكبر نقابة وأكبر حزب، شكلا إسمنتا للنسيج الاجتماعي والسياسي المنتج في البلاد.

هذا الفراغ بفعل المساس بتماسك الجبهة الداخلية، وحق الحلم في الإصلاح المتدرج، حتى صار «البغاث بأرضنا يستنسر»، فتسللت أصوات ومواقف النكوص في الداخل وأصبح لها كامل العز والصولة. كما غذى مطالب الغرب لفرض أجندته الخارجية على المغرب، إذ تم الضغط على المغرب لحمل ما أسميه بـ «أصولية المخزن» إلى الحكم سنة 2007، لكن صناديق الاقتراع واجهت هذه الضغوط، لتصنع الهندسة الأمريكية بعد ذلك ،ما سمي بـ«الربيع العربي»، الذي سيوصل الأصوليات إلى حكم صناديق الاقتراع وحتى مقام الخلافة كيفما اتفق، في سياق رسم خريطة لشرق أوسطي جديد معمد بالدم.

في مساق هذه الهندسة جاءت «أصولية المخزن» إلى الحكم سنة2011، لتنقلب عليه برفع شعار مواجهة «الدولة العميقة»، بعد المساس بعبق مفهوم التداول السياسي للحكم، والذي لا يخرج في وعي السيد رئيس الحكومة عن حقه في «التبوريدة» على المغاربة وممثليهم، لإنتاج دورة أخرى من الاستبداد السياسي، بما في ذلك التدخل/التحكم في الحياة الداخلية للمنظمات السياسية، والحال أن المغاربة قدموا تضحيات كبرى لعلهم ينعمون بفضائل التداول السياسي للحكم، لكن حتى الانكسارات في المسار الديمقراطي التي تنبثق من صناديق الاقتراع، يعالجها حتما نفس التفويض الشعبي، وهذا من مبعث الاطمئنان على المستقبل.

إن حديث إخوان الأستاذ بنكيران عن «الدولة العميقة»، وهو مفهوم لا يمكن حمله على «عفاريت» كبيرهم، ولا على الوعي الشقي لجاهليته الكبرى، بل يمثل في العمق تعبيرا عن نوايا استهداف الدولة المغربية بثوابتها المذهبية، ومشروعها المجتمعي الحداثي الديمقراطي. كيف ذلك؟

لقد استنسخ «إخوان» المغرب مفهوم «الدولة العميقة» من إخوان تونس. وهؤلاء استنسخوه من إخوان تركيا، وباستعمال خارج دلالته في الأدبيات السياسية، لتصطف خلفه نوايا اجتثاث علمانية أتاتورك وبورقيبة، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول دواعي إسقاطه على الحالة المغربية، بالرغم من خصوصياتها الدينية والسياسية.

إخوان الأستاذ بنكيران يمثلون وبالتواضع المطلوب -تفاديا للمزايدات- «أصولية المخزن»، والأصولية عموما تكرس حسب تعبير الأستاذ سي محمد الساسي «الاستبداد والتخلف». وبهذا المعنى فهم يمثلون الدولة العميقة التي ينبغي إصلاحها. فعوض ممارسة فضيلة النقد الذاتي، أو استلهام «عارضة الأحوذي، في النهج المحمدي» للحد من جموح إخوانه، أو بعبارة أكثر نحتا، لتبصيرهم بحقائق المغرب وحقائق التطلعات المشروعة في ظل المشروعية، وهذا دوره المرعي، وجدناه يغض الطرف عمن هو متعلق بجناح الهوس، بلعبة عوالم المفاهيم الملتبسة، بغاية استهداف الدولة المغربية بمرجعيتها الدينية والسياسية. بعبارة واحدة، إن «الدولة العميقة» في وعي حزب رئيس الحكومة، تأخذ في حسبانها اجتثاث مشروع ميجي مغرب الغد.

لذلك فاستعمال إخوان بنكيران لهذا المفهوم، لا يخرج في النهاية عن نهج الابتزاز بغاية مزيد السيطرة الدينية والسياسية والإدارية والاقتصادية، لضرب استمرارية إرادة الدولة في الإصلاح كما دشن الالتزام بذلك المرحوم الحسن الثاني من خلال التناوب التوافقي، لربط الآصرة بعهد أب الأمة، بعد قطيعة سنوات الرصاص. فـ «الإنصاف والمصالحة» له رمزيته بمطلب التناوب الحقيقي، والذي يتجاوز فيها حدود جبر الضرر الفردي.

إن ما يحصل من تراجعات دينية وسياسية هو نتيجة طبيعية للخروج عن «المنهجية الديمقراطية»، وما تركه هذا الخروج من فراغ وإحباط. وهو ما أوصل الدولة -من زاوية تقديري الشخصي للأشياء- إلى حالة من الضعف تكاد تكون غير مسبوقة، تمردت فيه حتى المؤسسة الدينية، وقد أصبحت حاضنة رسمية حتى للطموح السياسي لإخوان الأستاذ بنكيران، فأضحت الدولة في وضع المستجدي لأي شيء يمكن أن يضفي عليها المشروعية الدينية، وهو ما زاد من أعباء الأجهزة الأمنية والإدارة الترابية لحماية استقرار البلاد وأمنها الروحي. كما زاد من جهة أخرى من حجم الآمال على رص الصفوف، وعلى رمز البلاد ليتدارك هذه الأمة قبل فوات الأوان. فالمؤسسة الدينية وهي الأم الحاضنة للخوارج، منشغلة بجعل الرضاعة من الوهابية والإخوان المسلمين رضاعة طبيعية. وهذا التطبيع الشامل مع هؤلاء الخوارج ضدا على ثوابت البلاد وتاريخها يمثل ما تبقى من إجهاض وظيفة إمارة المؤمنين، في انتظار الآتي!

لسائل أن يسأل بعد هذا: من يخزي حدوس الفيلسوف الجابري في ميجي مغرب الغد؟

الجواب: إنها الدولة العميقة للأستاذ بنكيران!

خديجة الرويسي، عضو المكتب السياسي لحزب «البام»

هدف بنكيران هو تقويض المؤسسات من خلال تقمص دور «البهلوان»

أعتقد أن توظيف مصطلحات الدولة العميقة والتماسيح والعفاريت من قبل بنكيران وقيادة حزبه في غير محله، فالهدف منها هو تقويض الدولة والمؤسسات. فلما يصرح بنكيران «خليوني نفشل بخاطري» أو «أنا غي رئيس الحكومة»، «حنا طلعنا الشعب المغربي»، وهي عبارات لها دلالة كبيرة. فعبارة «أنا غي..» تعني أن القرار ليس بيديه. ثم لما يدخل المؤسسة التشريعية ويستعمل عبارات لا تليق بمقام هذه المؤسسة والقهقهات.. هدف بنكيران هو تقويض المؤسسات من خلال تقمص دور «البهلوان»، وهو يدرك تماما أين يتجه والأهداف المرسومة، وكل هذا بحثا عن تواصل أفضل. فرغم وجود ما يكفي من الذكاء في صفوف الشعب المغربي، فهناك أيضا ما نعانيه من أمية وجهل ومن نشر الفكر الوهابي والفكر الإخواني، إضافة إلى تعامل بنكيران مع أحزاب أغلبيته كتابعين وليس كحلفاء..

إذن هذا المشروع له أركان، وإذا لاحظتم فلديهم علاقات بأكبر شركات الاتصال في المغرب.. وإذا كان بنكيران يتحدث عن الشفافية والحق في الولوج إلى المعلومة فليكشف لنا عن الميزانية المخصصة للاتصال داخل حزبه.. إنها ميزانية ضخمة تكشف عن أهداف مبطنة، لكننا واعون بخطورتها. فلما يخرج الريسوني بتصريح «قتال داعش حرام» يخدم من في هذه الحالة؟

إذن خطاب أن «المسؤولية ما عندوش» خطاب لا محل له. فالمصداقية المعنوية إن كان يتوفر عليها تفرض عليه الانسحاب من الحكومة. وأنا أقول إن المغاربة قدموا من التضحيات ما يكفي، فقد وقفنا في هيئة الإنصاف والمصالحة على مآسي الماضي، وأعتقد أن المآسي مع «هؤلاء» ستكون أكبر من مآسي الماضي، إذا لم يتم التحلي بيقظة حقيقية.

إذا افترضنا وجود ما تسميه قيادة حزب العدالة والتنمية «دولة عميقة» وفساد، ومادام حزب العدالة والتنمية قد قرر الصعود إلى حكم البلاد من خلال صناديق الاقتراع التي منحتهم المرتبة الأولى فلا يمكن نفي جهلهم بهذه الأمور قبل صعودهم إلى الحكم. وبالتالي فالبرنامج الذي وضعوه في الإطار كان يستهدف التصدي لها. بعد ثلاث سنوات يبدو أن هناك فشلا ذريعا، فهم مازالوا يرددون نفس الخطاب مثل الببغاء، في الوقت الذين كان من المفترض أن يعلنوا بكل جرأة فشلهم في تسيير مقاليد الحكم بسبب افتقادهم للكفاءة أو التصريح بكونهم «ليسوا هم من يحكمون»، وفي هذه الحالة ينبغي عليهم تقديم استقالتهم حفاظا على نزاهتهم المعنوية.

الاحتمال الثاني: في كل مجتمعات العالم نجد لوبيات إما اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، ومسؤولية الدولة هي إدارة هذه المصالح، من خلال القضاء على الرشوة والفساد وإقرار الحكامة الجيدة التي لا يمكن أن تتحقق فقط من خلال الملصقات التي وضعوها في الشارع «واياك من الرشوة»، كما لو أن المواطن هو المسؤول عن تفشي الرشوة. وماذا عن إصلاح الوظيفة العمومية؟ فمنذ خمس سنوات وأنا أطالب بإصلاح المدرسة الوطنية للإدارة باعتبارها أولوية الأولويات، كما أنها استراتيجية في إصلاح الدولة. وكم رفضت الحكومة الحالية من ميزانيات لفائدة المدرسة الوطنية للإدارة العمومية إما بسبب الجهل أو انعدام الكفاءة أو بسبب التورط في استمرار الفساد. فالإدارات العمومية هي واجهة الدولة ابتداء من الجماعة إلى المقاطعة، فالولاية ثم القضاء، الصحة.. يعني إدارة قوية تضمن استمرارية الدولة.

حسناء أبو زيد، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

بنكيران يعاني من عقدة المنشأ من رحم الإدارة

اسمح لي أن أقف قليلا عند كون معارضة اليسار عموما والاتحاد الاشتراكي لم تشكك في مفهوم الدولة، وأن أذكر أنها كانت دائماً متهمة من طرف النظام آنذاك وأذرعه الإعلامية ومن طرف الخصوم السياسيين بما فيهم حزب العدالة والتنمية المحترم بالعمالة إلى الخارج، وظلت هذه ورقة حمراء ترفع في وجه تقدمية المطالَب المشروعة المتعلقة بتوازن السلط وببناء دولة المؤسسات والحريات وبمطلب الملكية البرلمانية، وشهدت حكومة التناوب التوافقي أشكالا متعددة من المقاومات باستعمال ورقة الأجندات والولاءات الخارجية وأحيانا المشاريع الصهيونية والاستخباراتية الدولية. ويذكر الرأي العام مضمون الاتهامات الموجهة لهذه الحكومة من مختلف أطياف المعارضة السياسية والإدارية أيضاً، كما يذكر كيف اصطبر الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي وكيف استل مفهوم جيوب المقاومة بوطنية عالية، بشكل يعبر عن واقع التعنت ضد الإصلاح ويحافظ على مفهوم الدولة كمرجعية، وهدف للإصلاح ويحمي الاستقرار وثقة الشعب في بلاده.

أعتقد أن لجوء حزب العدالة والتنمية إلى استيراد مفهوم الدولة العميقة من النموذج التركي لا يرجع فقط إلى تأثره بنجاح هذه التجربة سابقا، ولكن يرجع في اعتقادي أساساً إلى عقدة المنشأ من رحم الادارة عبر حزب المرحوم عبد الكريم الخطيب، رجل النظام، في إطار تشذيب الحركة الإسلامية وضرب اليسار من جهة والتحكم في خيوط التناوب التوافقي المرتقب آنذاك، لذلك لم يقدم هذا الحزب المحترم في تاريخه منذ تأسيسه مذكرة أو تصوراً للإصلاح الدستوري قبل 2011 وتجنب دائماً الخوض في صلاحيات الملك أو في تعريف النظام السياسي القائم. وبعد حركة 20 فبراير وموقف القيادات ضد المشاركة الحزبية فيها، والانزلاق في تخوينها والتحذير منها وأحيانا التهديد بها، خصوصا من طرف الأمين العام آنذاك عكس بعض القيادات والمناضلين، سيقتبس الحزب من شعارات الحركة محاربة الفساد والاستبداد، وسيبحث عن عدو مستتر غير مكلف في مواجهته، فضفاض في تعريفه، وقابل لتلوينه أحيانا في شخص المعارضة المؤسساتية من أسرة سياسية وأحيانا أخرى في رجال الدوائر المقربة وأحيانا أخرى في المجتمع المدني والصحافة. وبعيدا عن مفردات الإصلاح الذي يلمح به الدستور الجديد من إصلاح للدولة وربط المسؤولية بالمحاسبة والخيار الديمقراطي، وهذا ما يتيحه بأريحية مفهوم الدولة العميقة، حيث تشبع الجرأة في الخطاب المدغدغ الحماسي الذي بعثته من جديد حركة 20 فبراير، وكذلك حماس مناضلات ومناضلي حزب العدالة والتنمية المحترم، وفي الآن نفسه يحمي متبنيه من المواجهة المباشرة المترتبة عن استعمال المفردات الحقيقية لأزمة الديمقراطية في المغرب والمتمثلة في تداخل سلطة القرار وصعوبة تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهوس الفاعل السياسي بفكرة التقرب من الملك بتخوين المنافس السياسي، وبشيطنته، وهذا ما يحدث اليوم بين أطراف هذا الاقتتال، غير آبهين بالخطوات الواثقة في اتجاه تحديث نظام الحكم بإرادة ملكية عبر عنها خطاب 9 مارس، وإلا أن خطورتها تكمن بالأساس في عدم انسجامها مع النموذج المغربي، والأثر السيء الذي تتركه في أفئدة الشعب المغربي الذي اقتنع دائما بأن الدولة هي الحق والقانون والمؤسسات التي يطمح إليها، وعرف مساوئ التدبير في «المخزن»، ناهيك عن الصورة السيئة في الخارج وعلى القضايا الكبرى للمغرب. هذا الخارج الذي سيسقط النموذج التركي كاملا، من جيش وشرطة وإعلام وحركات مسلحة وأحزاب توصف بالإرهابية على نموذج مغربي مختلف تماما.

بالنسبة للمعارضة الاتحادية، الأمر لا يمكن أن ينسلخ عن قناعات وأدبيات قائمة استمسك بها حزب الاتحاد الإشتراكي في السراء والضراء، كحزب وطني عاش مراحل متعددة في بناء الدولة على أسس الديمقراطية، ودبر تجربة التناوب الوحيد التي شهده المغرب، لذلك لا يمكن القبول بزرع هذا المفهوم المرفوض في الجسد المغربي. ولكن أيضا في المقابل لا يمكن القبول بمواجهته بما يضاهيه خطورة، وهو ما نسمعه من اتهام حزب العدالة والتنمية بالانتماء إلى ما يطلقون عليه المخطط الإخواني العالمي، وجملة من الاتهامات المسيئة للمشهد المغربي ولهيبته واستقلاله ولنظامه وحكومته ولرئيس حكومته وللمعارضة وأحزابها ومناضليها، وللأسرة السياسية وللتجربة المغربية عموماً. فنحن معارضة وأغلبية مستقلون عن الخارج، ولنا التزامات وأهداف وطنية، هذا لا ينفي انخراطنا في تقاطعات دولية أردنا دائما من خلالها خدمة قضايانا الوطنية، غير ذلك لا يمكن أن يتم الحديث عنه بهذه الشعبوية التي سطحت العمل السياسي والمدني بشكل خطير وصعب الاستدراك، وإلا وجب فتح تحقيقات على مستويات رفيعة بشأن اتهام رئيس الحكومة بالعلاقة مع داعش وتنظيم الإخوان المسلمين من طرف بعض أطياف المعارضة، كما وجب فتح تحقيق بشأن الاتهامات التي قدمها قيادي حزب العدالة والتنمية عن لوبيات السلاح والمخدرات في المغرب في لقاءات جماهيرية أفقدت المواطنين ثقتهم في الغد.

عبد الرحمن العمراني، أستاذ جامعي

ملاحظات أولية حول التوظيف السياسوي لمفهوم «الدولة العميقة» هل «الدولة العميقة»

شيئا غامضا أو أطباقا طائرة تحلق في السماء؟

هذا السؤال يجيب عنه الأستاذ عبد الرحمان العمراني باستحضار نماذج من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي تتحدث فيه الطبقة السياسية الناضجة هناك عن الأمور بأسمائها الحقيقية وليس بالشكل السياسوي المستعمل عندنا بالمغرب من طرف الحزب الحاكم

الطبقات السياسية العادية، الممتلكة لناصية ثقافة ديموقراطية عادية، والمتوفرة على برامج اصلاح واضحة، مستقاة من مانفستوات انتخابية منسجمة وواضحة، حينما تصل إلى مواقع تسيير الشأن العام في مستوياته الحكومية، لا تستغرق وقتها وتفكيرها ولا تستنزف جهدها في التساؤل حول ما إذا كانت هناك دولة عميقة تقاسمها او تزاحمها القرار والتوجيه، وهي لا تتيه بحثا عن اماكن تواجد عناصر او بنيات هذه الدولة العميقة، كمن يبحث عن خيط قماش اسود رقيق في غرفة مظلمة.

إن مثل هذه الطبقات السياسية، الديمقراطية الطبع والتكوين، التي يعكس ظاهر خطابها وممارساتها باطن نواياها تنصرف في العادة، بإرادة وتصميم عند الوصول إلى مواقع التسيير إلى معالجة مشاكل المجتمع بسياسات عمومية من تخطيط اطرها وأولويات محددة ورزمانات زمنية تلائم تلك الأولويات وآليات ومؤسسات تواصل موحدة في أدائها توضح للناس ما يتم إنجازه على الارض، مؤسسات تواصل لا تتوزع فيها الأدوار بين فرقاء الصف الواحد من الحزب الحاكم ولا تنقلب في سياقها المواقع إلى هذه الدرجة السخيفة التي يصبح فيها من هم في موقع التسيير ومن موقع الحزب الاغلبي حتى، معارضون شرسون مرات متعددة في اليوم الواحد، كما يحدث عندنا بما يزيد في الخلط والتعويم ويزيد في منسوب اللامعقول في المشهد السياسي.

الطبقات السياسية العادية، الديمقراطية التوجه والهوية، كيفما كان لونها الأيديولوجي تدرك كامل الإدراك ان السياسة هي بالتعريف صراع مرجعيات وبرامج ومواقف متباينة، وأن هذا الصراع يتضمن حتما، في خلفيته التكوينية، صراعا في المصالح المتضاربة (صراع المواقع الاقتصادية والمالية والاجتماعية وما يترتب عنها)، صراع يختلف من حيث الحدة والضراوة -والوسائل كذلك- حسب التطور السياسي السلمي والمتحضر للمجتمعات.

ولأنها تدرك هذه الحقيقة فإنها تأخذ بعين الاعتبار مسألتين: في غاية البساطة -وغاية المعقولية-: هناك شيء اسمه موازين القوى، وهي تحاول أو تسعى لتصحيحه في واضحة النهار مقتنعة بأن الفعل السياسي الصحيح قادر فعلا على التغيير واحداث الفرق بين الوضعيات.

وهناك قوى سياسية واقتصادية لها مصالحها وامتيازاتها ووسائلها تسعى تلك الطبقات السياسية العادية، وهي تمارس معها الصراع، إلى تسميتها بأسمائها وأوصافها الحقيقية دونما حاجة إلى التستر وراء لغة مستعارة من لغة غير اللغة السياسية المعتادة التي يفهم الجميع معناها ومقصدها، حيث تتم -كما يقال في اللغة الإعلامية الأنجلوسكسونية تسميتها وتحسيسها بالخجل من أفعالها to be named and shamed.

هكذا لا تعود مقولة الدولة العميقة شيئا هلاميا غامضا أو أطباقا طائرة تحلق في السماء او مخلوقات لا يمكن أن يدرك تحركاتها إلا من أوتي شيئا من حكمة النبي سليمان الذي دانت له مردة الجن، بل تصبح بنيات مخصوصة ومصالح معروفة وشخوص وفات بعينها، ولحمها ولحمتها المكونة من مصالح وامتيازات ومواقع.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن عناصر الطبقات السياسية التقدمية في الولايات المتحدة تحدثت في مرحلة من المراحل -استنادا على أشغال الاقتصادي كالبرايت والسوسيولوجي ورايت مايلز- عن المركب العسكري الصناعي المسؤول عن سياسات وتوجهات معينة في غير صالح الأغلبية، واليوم يتم الحديث عن الشرخ الحاصل بين الوول ستريت والماين ستريت في إشارة إلى الشرخ الحاصل بين طبقة مدراء المال والأعمال المترفة في حي الوول ستريت الذي يرمز إلى تلك الفئة المحدودة وبين الشارع العريض main street الذي يرمز إلى الأغلبي. لا حديث عن مخلوقات هلامية بل حديث عن مراكز وبشر يعرفهم الرأي العام.

وعلى سبيل المثال أيضاً لا الحصر فقد جرى إلى نفس الشرخ النخبوي إلى فئة الاوكس بريدج Oxbridge نخبة النخبة من المدراء الكبار خريجو جامعتي أوكسفورد وكيمبردج حراس معقل حي المال في السيتي المعروفون بارتباطاتهم الاقتصادية مع الأوساط والمراكز الاقتصادية الكبرى. وهنا أيضاً، فإن الامر يتعلق بأشخاص وقوى اجتماعية -سياسية يعرفها الجميع من خلال وسائل الاعلام وليس بكائنات هلامية.

وعلى سبيل المثال أخيرا، فإن خريجي المدرسة الوطنية للإدارة Ena في فرنسا ظلوا في المخيال الجماعي وفي استعمالات اللغة السياسية نموذج التسمية التي تعطى للنخبة العاملة على إعادة انتاج امتيازات الأقوياء في هذا البلد. ولم يكن من الصعب أبدا التعرف على الأشخاص المعنيين بهذه التسمية، لأنهم معروفون لدى الرأي العام وليسوا مخلوقات عجائبية. هل يتعلق الامر في الحالات الثلاث بالدولة العميقة؟ قد يكون، بالنسبة لمن تعود أن يتحدث دائماً بمنطق الميتا - سياسة (أو ما وراء السياسة) لكنها ليست عميقة بمنطق من يراها كما هي أو يسميها بأسمائها الحقيقية، كما تفعل الطبقات السياسة العادية، الديمقراطية التوجه والهوية.

أية علاقة بين هذا التفكير الشفاف من جهة والممارسة الخطابية للحزب الأغلبي عندنا حينما يتحدث أقطابه عن الدولة العميقة على الجانب الآخر؟

هذه بعض عناصر الإجابة كما قدمتها الوقائع والشواهد منذ ثلاث سنوات، وهي متفرقة وإن كانت ترمز إلى نفس التوجه:

- حديث فضفاض عن الدولة العميقة لا نعرف من ثناياه هل يتعلق الأمر بلوبيات اقتصادية أم بمركبات إدارية أم بقوى سياسية أم بمؤسسات ثقافية أم بفعاليات ضمن المجتمع المدني!

- حروب كلمات لا تتوقف على الدولة العميقة؟ تماسيح أوعفاريتا- من جهة، وسعي حثيث ومهووس يتوخى تطبيع العلاقات مع مكوناتها بما يوفر المقبولية ويديم نعم مشاركة مستقبلية في التسيير الحكومي بدون أية شروط او قيود مسبقة قد تعيد عقارب الساعة إلى الوراء!! وهل يمكن أن ننسى مثلا كيف توارى بعض أعضاء الحكومة إلى الظل تاركين رسميين آخرين يوقعون معاهدات واتفاقيات خلال إحدى الزيارات الملكية لدول الخليج.

- حديث لا ينتهي عن مقاومة تبديها الدولة العميقة وعناد لا يصدق في تفعيل دستور يوفر لرئيس الحكومة ما لم يتوفر لرئيس حكومة قبله منذ انطلاق مسلسل التناوب مع حكومة الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي!!!

- حديث عن ازدواجية الخطاب والممارسة عند الدولة العميقة وإصرار على توزيع الأدوار بين جناح حكومي براجماتي وجناح حزبي يجهد نفسه في إبراز مساوقة العمل الحكومي للمرجعية المعلنة من طرف العدالة والتنمية، ورافد دعوي يتولى التذكير بالدوغما العقائدية في صفائها الأولي! حيث تتحول علبة التفكير think tank من مزود للحزب بالأفكار، كما هي العادة لدى الطبقات السياسية العادية إلى وظيفة طمأنة العقائديين في الحزب بان لا شيء في الممارسة السياسية يوجب او يجيز او يبرر زحزحة القناعات المستقرة.

إنه إذن نوع من الاستعمال السياسوي المكثف لمفهوم الدولة العميقة يكشف في أحسن الأحوال عن نوع من العجز عن التغيير الملوح به في البرامج، وذلك بتكرار، حتى لا نقول امتهان إلقاء اللائمة على كائنات هلامية، عجز غير معترف به مع الذات non assume، وفي أسوا الحالات تعبير عن بنية عقل سياسي يزعجه اكتشاف ان السياسة هي مسؤولية، تقتضي من السياسيين حينما يتحملون المسؤولية الحكومية، تحملها كاملة، على الأقوال، كما على الأفعال.

إدريس قصوري، أستاذ جامعي ومحلل سياسي

أصحاب الدولة العميقة سيعرقلون كل من جاء إلى الحكم

+ كيف تقرأ توظيف بنكيران وقادة حزب العدالة والتنمية لبعض المصطلحات من قبيل «الدولة العميقة»، «التماسيح»، «العفاريت».. والتي تمس -حسب بعض المراقبين- بجوهر وكينونة الدولة؟

- بالنسبة لقاموس «الدولة العميقة»، «اللوبيات ».. فهو قاموس دولي عام مستورد من الثقافة الغربية وتم نسجه في الثقافة السياسية الغربية ونقله داخل حقل الثقافة السياسية بالمغرب في مرحلة كان فيها الصراع على أشده بين اليسار والدولة ورموزها وأقطابها، وخصوصا مرحلة سنوات الرصاص، وقد تم نقله عبر مفكرين ومؤرخين مغاربة مشهود لهم من قبيل عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري رحمه الله، قبل أن يتداوله السياسيون، كما تم تداوله في السنة الأخيرة من طرف حسن أوريد كمثقف خاض التجربة من داخل القصر. إذن مفهوم الدولة العميقة هو مفهوم منتشر يدخل ضمن الثقافة السياسية ، وقد تم تناوله من طرف السياسيين بطبيعة الحال من اجل خدمة الأهداف السياسية وخوض الصراع من خلاله مع النظام ومع رموزه سواء كفاعلين، أشخاص، أو أحزاب أو مجموعات وما الى ذلك في السياسية وفي الإقتصاد، وهي تعبر عن واقع صحيح وفعلي في المغرب. وبالتالي فمصطلح الدولة العميقة ليس منقولا من المشرق أو من جماعات إسلامية معينة، وأظن أن الإعلام ينبغي أن تكون له ذاكرة وكذلك السياسيين، وأنا أتحدث كأستاذ، أما في إطار التوظيف السياسي فمن الممكن أن أقفز على مرحلة معينة وعلى شخص وأنسب أشياء الى شخص معين، فحكومة عبد الرحمان اليوسفي كرست جزء كبير من هذه المفاهيم من داخل الحكومة وليس من خارجها، حيث ساد الحديث عن اللوبيات، حكومة الظل، الحديث عن العرقلة، الحديث عن المنهجية الديمقراطية التي لم تحترم.. صحيح أن السيد اليازغي قال إن «المخزن مات» وهي منقولة عن المرحوم الجابري، لكنه عاد في ما بعد ليؤكد أن «المخزن لم يمت».. الآن جاءت حكومة بنكيران بمرجعيتها وحساسيتها الإسلامية مما أدى الى تصاعد العداء والصراع، حيث عاد الصراع الإيديولوجي القوي إلى الواجهة بعدما كان قد اختفى في السابق، وهذا ما جعل سي بنكيران يعتمد مفاهيم «التماسيح»، «العفاريت» واللذين تم نحتهما انطلاقا من حقل قريب من مرجعية بنكيران الإسلامية، لما نتحدث عن الجن والعفاريت.. والأساسي أن هذين المفهومين لهما إشارة رمزية عميقة وواقعية في حقلنا السياسي.. المغرب مازال يمر من مرحلة انتقالية، المغرب لم يبلغ درجة وردية من الحرية والحقوق والسياسة، المغرب يسير بخطوات إيجابية، وكل عمليات الإصلاح والتحسين والتطوير تعرف عرقلة ضمنية أو صريحة من أصحاب المصالح، والذين هم بطبيعة الحال منتشرين في الدولة، وهذا لا يقتصر فقط على المغرب، بل موجود في جميع الدول، ما نراه في مصر وما يحدث من تحولات، ما نراه في ليبيا وما يحدث من تحولات، وما نراه في تونس حيث قام أشخاص بالثورة وتمكن آخرون من الصعود إلى الحكم. فأصحاب الدولة العميقة منتشرون في كل مكان بشكل بنيوي ومنهجي وهم يعرقلون الإصلاحات ولا يريدون للدولة أن تتطور قيد أنملة سواء من الداخل أو الخارج في اتجاه المواطنة والديمقراطية، وبالتالي فهم سيعرقلون كل من جاء الى الحكم سواء كان بنكيران أو اليوسفي، وكل من سيأتي إلى الحكم غدا، سواء من «البام» أو «الاستقلال» ستتم عرقلته من أجل كبح تطور وتحسين وتجويد الدولة كي تكون دولة ديمقراطية ودولة الفعالية ودولة النجاعة والشفافية ودولة الحكامة، وسيعرف عرقلة وعقوبات وتحديات وصعوبات وبالتالي سيلجأ الى إخراج سلاحه الرمزي- اللفظي، وكافة أسلحته، لأن خطاب الصحافة وخطاب السياسي سلاحه أولا هو اللغة ، اذن سيتم اللجوء الى هذه الأمور حتى في المرحلة المقبلة.

+ بعض المراقبين يتساءلون ألم يكن بنكيران وحزبه على علم مسبق بواقع المشهد السياسي في البلاد، وسندهم في ذلك هو أن الدستور الجديد يمنح رئيس الحكومة هامشا مهما من الصلاحيات، ومادام بنكيران يقر بفشله في تدبير المرحلة محملا المسؤولية لـ «العفاريت» و«التماسيح» - يضيف هؤلاء - لماذا لا يقدم استقالته ويبرئ ذمته؟

- صحيح.. أنا معك لابد أن يتحلى السياسي بالمسؤولية، وخصوصا بعد دستور 2011 الذي حمل مجموعة من الصلاحيات، لكن بنكيران ليست له القدرة لكشف هؤلاء الناس للمجتمع وتقديمهم للعدالة، وربما إذا استعصى الأمر أن يقدم -كما قلت- استقالته. لكن أظن أن بنكيران وحزبه جاء ليدبر الشأن الحكومي ويساهم في تدبير شأن الدولة، وهو يشتغل من داخل النسق السياسي المغربي الذي يتضمن هامشا للمساهمة في تسيير الدولة من موقع تنفيذي، وهناك أيضا جلالة الملك له صلاحيات بمقتضى الدستور وهو بوعي منه بهذه الأمور لن يقدم استقالته، لأنه منذ كان في المعارضة والآن في الحكومة يعرف تركيبة الدولة وبناء الدولة ويعرف الصعوبات ويعرف التحديات، وبالتالي فمهمته هي أن يناضل ويساهم بجزء ما من أجل التقدم في إصلاحات معينة وهذا يتطلب شيء من الصراع وشيء من التحدي وشيء من الصبر وخوض معركة مع المعرقلين بما تسمح به صلاحياته وصفاته ووظيفته، وليس أن يقدم استقالته، لأنه يعرف هذه الأمور منذ كان من خارج الحكومة، وبالتالي يصعب القول إنه كان يجهل هذه الأمور، وهو يدافع أيضا كي يجعل هذه الفئات تتراجع عن خططها وأهدافها وتترك العمل يسير بطريقة معينة..واذا كانت السياسة أخلاق ففيها أيضا جزء من اللا أخلاق التي تقوم على المناورات وعلى السيناريوهات وعلى اعتبارات معينة، واللغة هي جزء منها.

عبد العزيز أفتاتي، قيادي في حزب العدالة والتنمية

الدولة العميقة لا نقصد بها رأس الدولة بل شبكة المصالح التي تعرقل الإصلاح

الحديث عن الدولة العميقة ليس بالمفهوم الذي تتحدثون عنه، وهذه الوضعية موجودة في أكثر من دولة تعيش مراحل الإنتقال الديمقراطي، حيث تسود أوضاع معينة، لوبيات، جهات تنظم نفسها وتعمل للحفاظ على مصالح غير قانونية ولا علاقة له برأس الدولة الذي تحيلون عليه. فحتى في تركيا ساد هذا النقاش وكانوا يقصدون الشيء نفسه تقريبا. بمعنى هناك دولة فيها رئيس ورئيس الحكومة والمؤسسات، وعلى الهامش «كاين الشغل ديال مؤسسات موازية»، لكنهم لا يعنون بالضرورة رأس النظام. وفي المغرب يتحدث الناس عن شبكة من المصالح وعن مراكز نفوذ تنسق عملها باستمرار للدفاع عن مصالحها في مستويات الدولة الثلاث: الحكومة -المنشآت العمومية- الجماعات المحلية وهذا هو ما نعنيه بالنقاش.

ومن يستعمل التعابير التي تتحدثون عنها لا يقصد ما تعنونه بكلامكم، فهو يعني بها جهات تملك إمكانيات مهمة وتعمل على عرقلة كل ما لا يخدم مصالحها، كما تسعى إلى الاستفادة بأساليب غير قانونية وغير واضحة، وتشتغل وتؤثر من خلال عدد من مواقع المسؤولية من خلال علاقاتهم بأشخاص يسيرون أو يساهمون في التسيير بشكل من الأشكال، وتجد أن لهم علاقات داخل البرلمان ويمارسون الضغط في اتجاه التشريع ويمارسون الضغط كذلك في اتجاه الإدارة من أجل الحصول على معطيات وعلى أعمال وصفقات.. إذن الأمر ليست له أي علاقة برأس الدولة.

أنتم تقولون لدينا وزارة العدل «واش كاين شي واحد تيقول عندك»، وهذا المنطق لم يسبق لحزب العدالة والتنمية أن تعاملت به ولن تقبل أبدا التعامل به «بحال يلا الساحة داها شي واحد آخر.. واش هاذي دولة ولا سوق ديال الفواكه كل واحد يأخذ ما يشاء..» هذا غير معقول، فكيف يعقل أن تكون وزارة معينة تابعة لجهة ما أو حزب.. الرميد كيقوم بشغالو ويلا ما قامش بشغالو يتحاسب بحالو بحال يا أيها الناس.. واش القضاء غير كيجي وتيتحرك، القضاء يتحرك وفق مسطرة، وحتى في الأوقات الصعبة لا يمكن أن تحرك جهاز القضاء مثل قطعة الشطرنج، كما أن الجيوب لا تمنحك الفرصة لمواجهتها بشكل قانوني. فكما قلت لك هي تعمل بطرق غير واضحة، إنهم يشتغلون في الخفاء. ففي وضع انتقالي كالذي نعيشه يكون فيه منسوب الفساد كبير، واليوم إذا كنت أنت أو أنا نتوفر على دليل مادي فأكيد أننا سنقصد أقرب وكيل للملك، لكن عندما لا تتوفر على أي دليل، بل فقط مؤشرات فلابد من فتح النقاش من أجل محاصرة هذه الجهات، وربما قد يشجع أشخاص آخرين على الإدلاء بمعطيات لمحاصرة هذه الجيوب أو هذه الجهات أو ما أسميه شخصيا الدولة العميقة / الدولة الموازية. بمعنى كما لو أن هناك أشخاصا يتوفرون على إمكانيات الدولة ويشتغلون بالموازاة، فهم يوظفون أساليب لإقامة ما يشبه دولة موازية خاصة بهم عبر شبكة من العلاقات ومن المصالح ومن خلال عمل مستمر من أجل الحفاظ على الوضع الذي كانوا يحظون به سابقا، بل بالعكس محاولة تطويره، وهذا أمر معروف في تجارب عديدة، وليست له علاقة برأس النظام. اليوم داخل الحكومة ليس هناك فساد، ففي وقت من الأوقات كان الناس بواسطة الحكومة يفسدون في واضحة النهار ويتحصنون، فلا عين رأت ولا أذن سمعت، وعدد من الوزراء راكموا ثروات خيالية. واليوم لم يعد من الممكن أن يتصرف وزير كما كانوا يتصرفون في في أوقات سابقة. وفي المؤسسات العمومية أصبحنا نجد قدرا من الشفافية ومن المنافسة. وبالنسبة للجماعات المحلية يمكن أن أقول لك لم يحدث تغيير كبير، فنفس الرموز هم الذين يدبرون هذا البؤس وفي عمومهم، وخاصة المفسدين مازالوا في مواقعهم. وأعتقد أن الانتخابات المقبلة ستغير الوضع.