الخميس 16 مايو 2024
سياسة

الأستاذة كريمة بوعمري: النبي عليه السلام جمع المعادلة الصعبة بين التنظير المثالي والتطبيق الواقعي

الأستاذة كريمة بوعمري: النبي عليه السلام جمع المعادلة الصعبة بين التنظير المثالي والتطبيق الواقعي

نظم المجلس العلمي المحلي لسطات بمقر الولاية يوم الثلاثاء 10 فبراير 2015 المهرجان الثاني حول السيرة النبوية الشريفة في موضوع "التأسي الهادي والتجلي الباني". وقد شاركت الدكتورة كريمة بوعمري، أستاذة التعليم العالي بجامعة محمد الخامس الرباط وعضو المجلس العلمي لسلا، بمداخلة تحت عنوان "بعض مظاهر الرقي الحضاري من خلال الهدي النبوي" نعرضها بتصرف في ما يلي:

اعتبرت في البداية المحاضرة كريمة بوعمري أن اللقاء (الندوة) يجسد الإيمان العاشق المؤسس على المحبة بما هي رؤية قلبية، وبما هي استشعار لحضور دائم وحب متأبد، ذاك الاستشعار الذي جعل أحد العارفين يبوح بسرٍّ مِنْ ذَهَبٍ قائلا: «لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرفةَ عينِ ما عددتُ نفسي من المسلمين. وأشارت إلى أنه إذا كانت الحضارة في المعاجم العربية تعرف على أنها "مجموع الخصائص الاجتماعية والدينية والخلقية والفنية الشائعة في شعب معين"، فإن السيرة النبوية الشريفة تمثل مصدرا أساسا ومنبعا ثريا للحضارة الإسلامية الراقية، لأن تجربته صلى الله عليه وسلم في الحياة والقيادة والدعوة نجحت في نقل العرب نقلة نوعية من البداوة والهمجية والجهل والغلظة والفضاضة إلى أجواء التمدن والسمو والارتقاء الأدبي والاجتماعي والسلوكي والحضاري، حيث وحد صفهم وأقام لهم دولة وجعل منهم أمة وصفها القرآن بأنها خير أمة أخرجت للناس.. لذلك فإن الكشف عن الأبعاد الحضارية للسيرة النبوية وتفعيلها في الواقع هو أساس رقي الأمة وسموها وفق النموذج الإسلامي الكامل.. فمدرسة السيرة النبوية حُبلى بقيمٍ وأبعادٍ وإشاراتٍ ذات نورانية لا يستنفذها زمان أو مكان. إنها نورانيةٌ خالدةٌ ومصدرُ هدايةٍ دائم. فتلكَ المحبةُ وذاكَ العقلُ يُلزِمَانِنَا أن نُجددَ لغةَ الحوارِ مع السيرة العطرة، لتُمِدَّنَا بنفائسَ نبويةٍ ليست بالضرورةِ واردةً في صحائِفِ ومأثورِ أجدادِنَا..

وتجديد الحوار، تراه المحاضرة، في ضيافةِ تَيْنِكَ النورانيةِ والرحمةِ المحمديتين، حيث نأتلفُ هنا والآن، نلتئم حول مائدة علمية يقتبس المُتحَلِّقونَ حولها من مشكاة النبوة طرائق الاستمداد ووسائل النهل من أسرارها لإظهار رقيه صلى الله عليه وسلم وتفرده في كل حياته ومواقفه.. فقد كان بشرا يوحى إليه، وكان مثالا  للكمال الإنساني والأخلاقي والحضاري.. جمع بين التنظير المثالي وبين التطبيق الواقعي.. هذه المعادلة الصعبة لم ينجح أحد في الوصول إليها.. فأكثر العلوم شيـوعا في عصـرنا الحالي توجد لها أصول في السيرة النبوية: علم التواصل، التـنظيم الاقتصادي، القيادة العسكرية، التنمية البشرية، التشريع الدولي، سؤال البيئة، أخلاقيات العمل الخيري، رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، جمالية السمت،  أصول وأدبيات الحوار...

وأعطت الدكتورة نماذج منتقاة دالة للتمثيل والإشارة ليس إلاّ، ويتعلق الأمر بثلاثية مدارها حول معاملته صلى الله عليه وسلم لذوي الاحتياجات الخاصة واهتمامه بالبيئة ودعوته إلى النظافة وجمالية السمت.  

- معاملة ذوي الاحتياجات الخاصة

تفصح لنا السيرة النبوية للمجتمع الإسلامي في عهد النبوة كيف كرم أصحاب الاحتياجات الخاصة، وأخذ بيدهم إلى مدراج الكمال وبناء الكرامة الإنسانية وتحويلهم إلى عنصر إنتاج ومشاركة، بل وقيادة للمجتمع والإسهام في نهوضه وعدم إشعارهم بالنقص والتميز ومطاردتهم بعاهاتهم. ففي الوقت الذي يعتقد فيه الناس أن هذه الفئة الاجتماعية هي التي في حاجة للفئات الاجتماعية السوية، تأتي مبادئ الإسلام الخلقية السامية لتجعل المجتمع برمته هو الذي في أشد الحاجة للفئة الضعيفة فيه أثناء أصعب الفترات والظروف التي يمكن أن يمر بها.. فعن مصعب بن سعد رضي الله عنه قال: رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم... فالضعفاء هم سبب استمرار الوجود المادي للمجتمع وسر قوته وعونه في التصور الإسلامي، وبالتالي تصبح رعاية ومعاملة هذه الفئة كسائر الضعفاء قاعدة ذهبية وغاية اجتماعية يجند المجتمع برمته لتحقيقها فترتفع معنويات ذوي الاحتياجات الخاصة ويشعرون بمكانتهم المميزة في مجتمعهم.

وقد تستبد بذوي الاحتياجات الخاصة مشاعر الضيق واليأس وكراهية الحياة وتمني الموت تخلصا مما هم فيه من عجز.. ففي هذه الحالة النفسية المتردية نجد في التوجيهات النبوية الحكيمة ما ينأى بالمسلم المصاب ببلاء الإعاقة عن تلك المشاعر.. من ذلك حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضُر نزل به فإن كان لابد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذ كانت الوفاة خيراً لي".

فتربية فئات من ذوي الاحتياجات الخاصة على هذه المعاني تساعدهم كثيراً على التغلب على العقد النفسية التي قد تصيبهم جراء إعاقتهم ومتابعتهم لما يتمتع به الأسوياء غيرهم من صحة ونشاط.. ويكافأ الصابر من ذوي الاحتياجات الخاصة تحديداً بالجنة.. فعن أنس رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه  فصبر عوَّضته منهما الجنة، يريد عينيه"، وجزاؤه على الصبر والابتلاء في الجسد الغفران.

وأضافت عضو المجلس العلمي من جهة أخرى أن موضوع ذوي الاحتياجات الخاصة الذي يعد من أهم القضايا التي تعبر النظم الاجتماعية والتشريعية والخلقية المعاصرة عن بالغ الاهتمام بها ليس طارئا ولا جديداً على النظام الأخلاقي والاجتماعي المستمد من الهدي النبوي، فالممارسة العملية في الحضارة الإسلامية للعناية والرعاية لذوي الاحتياجات الخاصة تمنحنا سبقا حضاريا راشداً.

فقد أوقف أسلافنا الأوقاف لإقامة المشروعات المستدامة وتحقيق التكافل والضمان الاجتماعي حتى يشعر أصحاب الاحتياجات الخاصة بوجودهم وكرامتهم بعيداً عن أي استشعار بنقص أو انتقاص.. كما أن نظرية إدماجهم في المجتمع نجد أصولها في الهدي النبوي، فلعل استخلافه صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أم مكتوم وهو أعمى على المدينة يوم غزوة تبوك أكبر دليل على هذا السبق الحضاري في التعامل مع هذه الشريحة اجتماعيا ونفسيا.

- النظافة وجمالية السمت

لقد جعل الإسلام الطهارة شرطا في صحة العبادة فاشترط للصلاة طهارة الجسد وطهار المكان وطهارة الثوب وستر العورة، ورفع من شأن الطهارة حيث جعلها سبيلا مؤديا إلى الحب الإلهي إذ قال تعالى: "إن الله يحب الثوابين ويحب المطهرين".. وقال أيضا: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين".

فنظافة المكان ونظافة الجسد ونظافة اللباس من الأمور التي دعا إليها وحث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرنا، بل وجعل إتيانها والعمل بها جلبا بمرضاة الله والتقرب منه.. فها هو صلى الله عليه وسلم يأمر بمداومة نظافة الفم باستعمال السواك لتحقيق طهارة الفم والأسنان واللثة، ويربط هذا العمل برضى الله فيقول: "السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب".. وقال: "لولا أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". كما أنه صلى الله عليه وسلم شدد على نظافة الفم وجعل عقوبة من لم ينظف فمه ويعمل على طيب رائحته يحرم من الجماعة في قوله عليه وسلام: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو قال فليعتزل مسجدنا  وليقعد في بيته".

ووقفت في هذا الإطار الدكتورة بوعمري على ما تقوم به وزارة الصحة فنوهت بهذه الحملات التحسيسية التي تقوم بها هذه  الوزارة  مشكورة، وتقوم بها جمعيات أطباء الأسنان في العناية بالأطفال وبنظافة الأسنان والمحافظة عليها من التسوس، وربطت هذا العمل الجليل بما  دعا إليه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم باستعمال عود الأرك بدل الفرشة والمعجون، وذلك لسهولة استعماله وحمله وتوفره بكثرة، وفيه تذكير بهدي خير العباد وفيه مرضاة للرب. وإلى جانب نظافة الفم نجده صلى الله عليه وسلم يحرص على نظافة الشعر أيضا ونظافة الثوب، وهذا يدخل في السمت الإسلامي.. لقد أمر الحق تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتطهير ثوبه فقال عز من قائل: "وثيابك فطهر"، وقال عليه السلام "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. قال: "إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس".

- المحافظة على البيئة

وتطرقت المحاضرة إلى ثالث نموذج  لتعامله عليه السلام ويتعلق  الأمر بالبيئة، فبينت بأن الإسلام قد دعا إلى إعمار الأرض وإصلاح العمران لأن الله تعالى جعل الأصل في نظرة الإنسان وفي خلق الأكوان الصلاح والانتظام، وإنما يظهر الفساد في حياة الإنسان والكون بفساد الفطرة الإنسانية.. قال تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" أي لعلهم يرجعون إلى الأصل الذي تركوه وهو أصل الصلاح، ورجوعهم يكون بالإصلاح لما أفسدوه في حياتهم وباستهدائهم المنهج وإحسانهم العمل. وقال أيضا: "ومن أظلم من منع مساجد الله أن يذكر فيه اسمه وسعى في خرابها".

فلو أخذنا لفظ "مساجد الله" على عمومه بمعنى الأرض كلها بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" لكان تأويل الآية: لا أظلم ممن سعى في الأرض فساداً باعتدائه على المنهج والفكر وباعتدائه على البيئة والبناء الحضاري الإنساني. لذلك كان صلى الله عليه وسلم ينهي أصحابه عن الفساد في الأرض ويوصيهم بالمحافظة على الإنسان وعلى البيئة حتى في أحرج المناسبات وهم يستعدون للقاء العدو حيث قال: "لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ولا تحرقوا كنيسة ولا تعقروا نخلا".

فهذه الوصايا هي إبراز للصورة المثلى التي يجب أن يكون عليها الإنسان المسلم حتى في حالة الحرب لأنه صاحب رسالة سلام لكل شيء وليس حرباً على الإنسان وعلى الطبيعة، وليس عابثا بكل شيء ولا مدمراً لكل شيء.

فالإنسان المسلم هو الباني وليس المهدم، وهو المصلح وليس المفسد، والمقتصد المعتدل وليس المسرف المبدر، لأن الإسلام اعتبر الإسراف استنزاف الموارد البيئة وتهديداً لوجود الإنسان حاضراً ومستقبلا.. فإذا كان الماء هو أصل الحياة كما قال تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" ووسيلة رزق للإنسان كما قال تعالى: "الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم"، فانطلاقا من هذا الأصل ومن هذه الوظيفة نهى النبي صلى الله عليه وسلم  عن تلويث الماء فلأن التبول في الماء الراكد لا يفسده فقط، بل يجعله مستنقعا وموطنا لانتشار الأوبئة والأمراض.. كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في استعمال الماء ولو تعلق الأمر بالعبادة كالوضوء..

وتختم ذ/ كريمة بوعمري مداخلتها مشيرة إلى أن هذه بعض المظاهر الحضارية التي تشكل أقل من نقطة في بحر السيرة النبوية التي كما ترون أن البحث فيها على أهمية ما أنجز فيه لم يصل إلى رسم معالم الصورة المثالية للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولم يتمكن من إبراز مكانته الشماء العليا بالنسبة للإنسانية...