Sunday 6 July 2025
فن وثقافة

عبد العزيز كوكاس: في مديح التيه واللايقين.. نشوة الغريب في مواجهة المجهول

عبد العزيز كوكاس: في مديح التيه واللايقين.. نشوة الغريب في مواجهة المجهول عبد العزيز كوكاس

"السفر يشبه الحُلم، الفرق أن لا أحد يشاركك حلمك، لكن كثيرين يشاركونك الطريق." بول فاليري

ليست متعة السفر في التنقل بين جغرافيات مغايرة، ولا في استهلاك صور سياحية تُزَيِّن واجهة الذاكرة، ولا حتى في الاحتكاك السطحي بثقافات الآخرين. متعة السفر الحقيقية، كما يدركها من ذاق جوهر التيه، هي نوع من الاختبار الوجودي، تمرين على اللايقين، ومصالحة مع الهشاشة البشرية.. انكسار "الذات المعتادة" أمام عالم لا يشبهها، وتهاوي يقينياتها الصغيرة في وجه عوالم غير مألوفة.. السفر الحقيقي هو زلزلة ناعمة للكائن، خلعٌ لنعل الألفة على عتبة المجهول.

لا يمنحك السفر فقط مفاتيح لعوالم جديدة، بل ينزِع عنك وهم السيطرة.. يضعك في مواجهة عارية مع كل ما لا يمكن التنبؤ به: أن تُخلف موعد الطائرة، أن تخذلك الخريطة، أن تحجز الفندق بنفسك لكن تخطئ في التاريخ الذي حددته لسفرك، أن تخذلك التقنية فتحجز القطار في الاتجاه المعاكس لوجهتك، أو يختفي الفندق الذي خططت له كما يختفي الحلم حين تستيقظ. أن تضل طريقك إلى متحف اعتدت زيارته، ويبدو لك أن المدينة - رغم اتساعها - لا تتسع لك، وكأنها تُمارس طردًا طقوسيًا ضد الغريب، تدخلك متاهتها ثم تبتلعك، بينما أحد ما، في زاوية غير مرئية من القدر، يقهقه ساخرًا من ارتباكك.

إن السفر، حين يُعاش كفلسفة، هو تمرين وجودي على تقبّل الخسارة بوصفها شكلاً من أشكال النضج، ومواجهة العبث لا بالتمرّد، بل بالابتسام. أن يضيع قطارك أو يحتال عليك سائق طاكسي أو أن تغلق في وجهك كل أبواب المدن، ليس مأساة، بل اختبار دقيق لليونة الذات، لمرونتها الهادئة، لطريقتها في التأقلم مع غدر العالم دون أن تفقد قدرتها على الحلم.

لا تكتشف في السفر، الآخر فحسب، بل تكتشف غربتك عن ذاتك. تكتشف كم كنت ساذجًا حين ظننت أن هاتفك، أو ذكاءك، أو بطاقتك البنكية، أو اتقانك للغة البلد... هي ضمانات وجود. تهزأ الحياة من حساباتك الدقيقة وتقودك إلى الهامش، إلى العراء، إلى ضياع بوصلةٍ داخل مدينة بلا خرائط داخلية. وهناك، فقط هناك، تبدأ المغامرة الحقيقية.

يرى جاك دريدا أن السفر يفضح الحدود، ويفكك الهويات المستقرة، ويكشف عن تراكب المعنى لا ثباته، وأنا أرى في تيه السفر، تستيقظ الحواس، تتعرى النفس من كبريائها، ويتحول كل خطأ إلى درس، وكل تأخير إلى فسحة تأمل، وكل خسارة إلى حجر آخر في بناء الوعي.

السفر يعلمك فن الخسارة النبيلة.. أن تتعرض لاحتيال ساذج من أبسط خلق الله وأبلدهم بينما كنت تحسب نفسك ابن الذكاء العصري، أن تبيت في مطار بارد أو على كرسي محطة قطار، محتضنًا حقيبتك كمن يحتضن بقاياه بعد أن حجزت فندق فاخرا عجزت خريطة غوغل أن تقودك إليه أو لم تصمد بطارية هاتفك حتى تصله، أن تنجو من مغامرة كادت تتحول إلى كارثة، لا لأنك أذكى، بل فقط لأن الحظ لم يكن مشغولاً عنك تلك الليلة.

ومع ذلك، تبتسم.

ليس لأنك انتصرت، بل لأنك فهمت. فهمت أن الخسارة ليست نقيض الربح، بل وجهه الآخر حين يُعاد تأويل التجربة. أن تكون في قلب الغربة، في فوضى الخرائط والوجوه واللغات، هو أن تتحرر مؤقتًا من ذاتك، من يقينك، من رواسب الهوية الصلبة. هو أن تصبح مرنًا كالماء، هشًا كالحكمة، غريبًا كالحقيقة.

السفر هو فلسفة اللايقين، هو أن تنجو وأنت لا تعرف كيف نجوت. أن تبيت ليلتك في محطة قطار باردة وأنت تتوسد حقيبتك، لا كشحاذ، بل كحكيم يبتسم وسط العراء لأنه أدرك أن الفوضى أحيانًا أكثر صدقًا من النظام، وأن التعثر هو اللغة التي تكتب بها الحياة نصوصها الخالدة.

أن تسافر هو أن تنكسر دون أن تُهزم، أن تضل الطريق دون أن تضيع، أن تفقد كل شيء وتربح نفسك. هو أن تتصالح مع العالم رغم أن العالم لا يكفّ عن امتحانك، هو أن تدخل في حوار صامت مع القدر وأنت تضحك، لأنك عرفت أن المعرفة لا تأتي من الانتصارات، بل من الخسارات التي نجونا منها بكرامة وشغف.

السفر ليس تجربة جغرافية بل وجودية، لا تهدف إلى الوصول بل إلى التحول. أن تعود كما كنت، فذاك فشل الرحلة. أما إن عدت مكسورًا بشكل جميل، متواضعًا بشكل عميق، فاقدًا للغرور وممتلئًا بالدهشة، فقد ربحتَ الرحلة كلها. ربحت الحكمة: وهي أن لا شيء مضمون، وأن أجمل ما في الطريق هو ما لم يكن في الحسبان.

السفر هو أن تُربَّى من جديد، بلا أب ولا أم ولا معلم ولا لغة. هو أن تصبح طفلًا في عالم لا يُشبهك، وتُعلم نفسك كيف ترى، لا كيف تحكم. أن تُضيف إلى حياتك لا أماكن فقط، بل دروسًا في الفوضى، وقبولًا شاسعًا للعبث، وتمرينًا على السقوط الأنيق.

إنها متعة من نوع خاص بعد مغامرة خطرة لم تجد نفسك بعدها في زنزانة سجن ولا ممددا على سرير بالمستشفى: أن تكون ضائعًا ولا تطلب النجدة. أن تخسر ولا تندم. أن تُطرد من المخطط وتُرحب بما يأتي بلا تخطيط. السفر لا يمنحك أجنحة بل يُعلمك كيف تسير حين تُكسر قدماك. ولا يعطيك كنوزًا بل يُريك أن أثمن ما يُمكن أن تربحه هو أنت وقد تغيرت.