Tuesday 11 November 2025

كتاب الرأي

عبد الغني السرار: مبادرة الحكم الذاتي بالمغرب.. من التأسيس إلى التحيين والتفصيل

عبد الغني السرار: مبادرة الحكم الذاتي بالمغرب.. من التأسيس إلى التحيين والتفصيل عبد الغني السرار
من الناحية الدستورية، يمكن التمييز بين الدولة الموحدة (البسيطة)، التي تتميز بقيام سلطة واحدة بتدبير شؤونها الداخلية والخارجية مستندة على دستور واحد وعلى وحدة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبين الدولة الفيدرالية (المركبة) التي تتوزع سلطات الحكم فيها على الوحدات السياسية المكونة لها.
 
وفي نفس الوقت لا بد من التمييز، من حيث التنظيم الإداري والمؤسساتي في إطار الدولة الموحدة، بين اللامركزية الإدارية، واللامركزية السياسية، فالأولى أسلوب للتنظيم الإداري بموجبه يتم اقتسام ممارسة السلطة الإدارية (دون السياسية) بين الإدارة المركزية بالعاصمة وهيئات لا مركزية تكون منتخبة أو معينة، لكن تحت مراقبة وإشراف السلطة المركزية. بينما اللامركزية السياسية تتحقق عندما تتسع دائرة اختصاص الإقليم أو الجهة لتشمل السلطة السياسية باعتبارها مدخلا للتمتع بنظام الحكم الذاتي، حيث الإقليم الذي يشكل وحدة تقوم على قواسم إما جغرافية أو تاريخية أو عرقية أو لغوية يمارس سلطات سياسية تكون مستقلة إلى حد ما عن السلطة المركزية، وهذا الأسلوب هو المطبق في عدة دول كإيطاليا التي اعترف دستورها لعام 1947 في الفصل 115 منه بحق بعض المناطق في تشكيل هيئات تتمتع بالحكم الذاتي، ودولة اسبانيا التي اعترف دستورها الصادر عام 1979 بموجب المادة 143 بحق المحافظات المتجاورة التي تتمتع بخصوصيات تاريخية وثقافية واقتصادية في التمتع بنظام الحكم الذاتي، لكن في إطار الوحدة طبقا للفصل الثاني منه.
 
التساؤل المطروح، هل بإمكان الدولة الموحدة أن تتبنى نظام الحكم الذاتي من الناحية الدستورية؟. الجواب هو أنه يمكن للدولة الموحدة أن تطبق الجهوية السياسية باعتبارها أقصى درجة من درجات اللامركزية في إطار الدولة الموحدة، لكن دون الوصول إلى مستوى الدولة الفيدرالية بالمفهوم الدستوري، ذلك لأن المبررات السياسية والدستورية التي تدفع الدول لتطبيق الجهوية السياسية داخل الدولة الموحدة هو مبرر الحفاظ على سيادة الدولة ووحدة ترابها، وهو الحاصل في التجربة الاسبانية التي تم تدشينها في العهد الجمهوري عام 1931 واستمرت حتى في دستور 1978، وهو الأمر المعمول به حتى في إطار التجربة الإيطالية بموجب دستورها لعام 1947 اللتان تطبقان ما يصطلح عليه الفقه الدستوري بالدولة الجهوية في إيطاليا L'ÉTAT RÉGIONAL، ودولة المجموعات المستقلة باسبانيا L'ETAT DES AUTONOMIES.
 
صحيح أن النموذجان يقتربان من النموذج الفيدرالي، لكنهما لا يتبنيان جميع بنوده، وهو الأمر الذي أكدته المادة الخامسة من الدستور الإيطالي التي تنص على أن ايطاليا دولة موحدة لا تتجزأ، ولكنها تطبق الحكم الذاتي بموجب الفصل 116 من دستورها، وأكدته المادة الثانية من الدستور الاسباني التي اعتبرت وحدة الأمة الاسبانية غير قابلة للتجزئة. وبخصوص تعريف الحكم الذاتي كإحدى التطبيقات الدولية فيمكن تعريفه بكونه نظام مؤسساتي وسياسي يجد أساسه في الدستور، الذي يعترف لإقليم ما بالاستقلالية في إدارة شؤونه الداخلية دون الخارجية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تطبيقات الحكم الذاتي على مستوى التجارب الدولية المقارنة، لا تأخذ شكلا موحدا، بل إن تطبيقاته تختلف من دولة لأخرى بحسب السياقات التاريخية أو اللغوية أو السياسية أو القانونية التي أفرزته.
 
أولا: مبادرة الحكم الذاتي: قراءة في المضمون واختصاصات الهيئات
بخصوص مبادرة الحكم الذاتي التي سلمها المندوب الدائم للمملكة المغربية بالأمم المتحدة إلى الأمين العام الأممي، بشكل رسمي، بتاريخ 11 أبريل 2007، فيمكن القول، بأن هذا المشروع الذي يتكون من 35 فقرة، يستمد شرعيته ومشروعيته السياسية والقانونية من احترامه للمعايير الدولية المعمول بها في هذا الشأن والالتزام بتوفير الضمانات الدستورية الضرورية، وفي مقدمة هذه المعايير التزام المغرب بموجب الفقرة 29 من مقترح الحكم الذاتي بإقراره عبر مراجعة الدستور المغربي وإدراج نظام الحكم الذاتي فيه، وذلك ضمانا لاستقرار هذا النظام وإحلاله المكانة الخاصة واللائقة به داخل المنظومة الدستورية للمملكة، فضلا عن كونه ينسجم مع ميثاق منظمة الأمم المتحدة خاصة الفصل الحادي عشر منه وبشكل أخص المادتين 73 و 76 اللتان تركزان على تنمية مناطق الحكم الذاتي، واحترامه لـ "توصيات لجنة لاند لعام 1999"، بل إن تمكين جهة الحكم الذاتي بالصحراء المغربية بموارد ذاتية جعلت المغرب يذهب أبعد مما هو موصى به في توصيات "لجنة لاند"، خاصة التوصيات التي رفضت منح الجهات اختصاص ذاتي في المجال المالي، وهو ما منحته المبادرة المغربية للحكم الذاتي، بموجب الفقرة 13 لجهة الحكم الذاتي، كما أنه بموجب الفقرة 20 يمارس السلطة التنفيذية في جهة الحكم الذاتي للصحراء رئيس حكومة ينتخبه البرلمان الجهوي وينصبه الملك، وفي هذا استجابة لمعايير الحكومة البرلمانية القائمة على فكرة سمو البرلمان وانبثاق السلطة التنفيذية عن مؤسسة البرلمان.
 
أما بخصوص هيئات ومؤسسات جهة الحكم الذاتي بالصحراء، فقد منحت المبادرة لساكنة الأقاليم الجنوبية سلطة تشريعية ممثلة في برلمان الحكم الذاتي لجهة الصحراء الفقرة 19 والذي يتكون من أعضاء منتخبين من طرف مختلف القبائل الصحراوية، ومن أعضاء منتخبين بالاقتراع العام المباشر من طرف مجموع سكان الجهة، ومؤسسة تنفيذية ممثلة في رئيس حكومة جهة الحكم الذاتي للصحراء الفقرة 20، الذي يشكل حكومة الجهة، ويعين الموظفين لمزاولة الاختصاصات الموكولة إليه، بموجب نظام الحكم الذاتي. ويكون مسؤولا أمام البرلمان، ومكنها أيضا من سلطة قضائية ممثلة في محاكم جهة الحكم الذاتي الفقرة 22 تتولى البت في المنازعات الناشئة عن تطبيق الضوابط التي تضعها الهيئات المختصة، كما تصدر المحاكم أحكامها بكامل الاستقلالية، وباسم الملك. لكن شريطة أن تكون القوانين الصادرة عن البرلمان الجهوي مطابقة للدستور، وأن تكون الأحكام القضائية مطابقة لنظام الحكم الذاتي، وهو ما سيمكن سكان الصحراء، من تدبير أمورها المحلية بشكل ديمقراطي، على الشاكلة المعمول بها في التجارب المقارنة خاصة إيطاليا واسبانيا.
 
وفي مقابل الاختصاصات الممنوحة لجهة الذاتي وهيئاتها، تحتفظ الدولة طبقا للفقرة 14 من المشروع باختصاصات حصرية، تتعلق أساسا بمقومات السيادة، سيما العلم والنشيد الوطني والعملة والمقومات المرتبطة بالاختصاصات الدستورية والدينية للملك، بصفته أميرا المؤمنين والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية، والاحتفاظ بممارسة الاختصاصات المرتبطة بمجال الأمن الوطني والدفاع الخارجي والوحدة الترابية والعلاقات الخارجية والنظام القضائي للمملكة.
 
ثانيا: تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي
على إثر صدور قرار مجلس الأمن رقم 2797 في 31 أكتوبر 2025، وتنفيذا للقرار الملكي الوارد في خطاب الملك الموجه إلى شعبه الوفي، في 31 أكتوبر الماضي، عقد مستشارو الملك، بأمر منه، يوم 10 نونبر 2025، اجتماعا مع زعماء الأحزاب الممثلة بمجلسي البرلمان، بحضور كل من وزير الداخلية ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، خصص لموضوع تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، في إطار السيادة المغربية، في أفق تقديمها للأمم المتحدة، على أساس أن تشكل الأساس الوحيد للتفاوض طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 2797.
 
وبالتالي، يأتي هذا الاجتماع تنفيذا للقرار الملكي الوارد في خطاب 31 أكتوبر الماضي والذي أكد فيه الملك أن المغرب سيقوم بتحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، في أفق تقديمها للأمم المتحدة، على أساس أن تشكل الأساس الوحيد للتفاوض، وباعتبارها أيضا الحل الواقعي والقابل للتطبيق، كما أكد ذلك القرار الذي أصدره مجلس الأمن مؤخرا.
 
ومن جهة أخرى، فإن هذا الأمر الملكي القاضي بإشراك قادة الأحزاب السياسية الممثلة بالبرلمان في تحيين هذه المبادرة، له مجموعة من الدلالات السياسية في مقدمتها أنها تشكل استمرارا للحرص الدائم للملك، على إعمال المقاربة التشاركية والتشاورية، كلما تعلق الأمر بالقضايا الاستراتيجية للبلاد. خاصة وأن الأمر يتعلق بقضية الوحدة الترابية باعتبارها قضية مصيرية تهم جميع المغاربة شعبا ومؤسسات وقوى سياسية ومدنية، والتي كانت دوما رمزا للإجماع الوطني الذي يؤكد التلاحم المتين بين كافة مكونات الشعب المغربي المفعمة بالروح الوطنية الصادقة والعرش المجيد الذي ما فتئ يقوم بالعديد من المبادرات الخلاقة قصد ايجاد تسوية نهائية للنزاع المفتعل تجاه القضية الوطنية.
 
ومن جانب آخر، فإن حرص الملك على إعمال المقاربة التشاركية وإعطاء تعليماته لمستشاريه قصد توسيع باب المشاورات مع قادة الأحزاب السياسية الممثلة بمجلسي البرلمان للإدلاء بآرائها بخصوص تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، هو استمرار لنفس المنهجية التشاركية التي تم تبنيها بمناسبة إعداد هذه المبادرة، التي تم الإعلان عنها أول مرة بموجب الخطاب الملكي الذي وجهه الملك إلى الأمة بتاريخ 30 يوليوز 2006، والذي أكد فيه أن جلالته قرر تقديم اقتراح بشأن تخويل الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا، ضمن سيادة المملكة المغربية ووحدتها الوطنية والترابية، واستشار فيه الأحزاب السياسية، كما نوه وأشاد بما أبانت عنه من تجاوب والتزام صادقين، يجسدان إرادة المغرب بمختلف مكوناته، في الطي النهائي لهذا الملف وتوجيه كل جهوده وطاقاته لمسيرة التنمية الشاملة والدفع ببناء الاتحاد المغاربي، كخيار لا محيد عنه، بوصفه من صميم الحكمة، ومنطق التاريخ وحتمية المستقبل.
 
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن مبادرة المملكة المغربية الرامية لتحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي يؤكد مرة أخرى بأن المملكة كانت وما زالت متشبثة وحريصة على احترام التزاماتها وتعهداتها الدولية تجاه الهيئات الأممية، وذلك من أجل حل القضايا العادلة للمملكة في احترام تام للشرعية الدولية من داخل المنظمات الأممية، وأيضا يبين ويؤكد أن المملكة المغربية ليست طرفا ملتزما بمبادئ الشرعية والقانون الدوليين فحسب، بل تعتبر فاعلا رئيسيا في ترسيخ ثقافة حفظ السلم والأمن الدوليين في انسجام تام مع المبادئ والمقاصد المنصوص عليها في الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة. وهكذا، يمكن اعتبار تحيين مبادرة الحكم الذاتي بمثابة التزام بالشرعية الدولية لحماية المصالح الوطنية بما يضمن للمملكة الحفاظ على سيادتها الداخلية ووحدة أراضيها وترابها وحفاظا على حسن الجوار مع الدول.
 
ومن جانب آخر، يمكن النظر لمبادرة تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي من زاوية كونها تعتبر تجاوبا من المملكة المغربية مع قرار مجلس الأمن رقم 2797 (2025) بشأن الصحراء المغربية وما لقيته المبادرة المغربية من استحسان وتأييد، من دول فاعلة ومؤثرة في المنتظم الدولي، التي باتت مقتنعة بمصداقية الطرح المغربي، وتوزان موقفه لإيجاد حل سياسي تفاوضي لهذه القضية. وهو الأمر الذي دفع المغرب لتحيين مبادرة الحكم الذاتي باعتبارها الخطوة الأولى نحو التفعيل والأجرأة الفعليين للمبادرة على المستوى الدولي، في انسجام تام مع قرار مجلس الأمن الأخير الذي جعل من مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، الأساس الوحيد والأوحد للمفاوضات، ومن أجل إعطائها مصداقية وشرعية دولية، تم إشراك قادة الأحزاب السياسية وهي مبادرة تنم عن الثقة الملكية في الفاعلين السياسيين الذين ما فتئوا يؤكدون انخراطهم البناء والمسؤول في كل المبادرات الرامية لإعطاء روح جديدة ومضمونا متميزا لتجربة الجهوية الموسعة ببلادنا عبر مبادرة الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، وأيضا في إطار المغرب الواحد والموحد بجميع ترابه الوطني.
 
يمكن القول بأنه ليست هذه هي المناسبة الوحيدة التي أبانت فيها المؤسسة الملكية عن حرصها على تبني المقاربة التشاركية والتشاورية من خلال فتح الباب في وجه الفاعلين السياسيين والقوى الحية للبلاد من أجل ابداء تصوراتها وآرائها إزاء القضايا الكبرى للبلاد. وبالتالي، فإن أمر  الملك محمد السادس،  لمستشاريه للاجتماع مع زعماء الأحزاب الوطنية الممثلة بمجلسي البرلمان، لتحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي، في إطار السيادة المغربية، يشكل استمرارا للدعوات الملكية السابقة لتفعيل المقاربة التشاركية التشاورية المنصوص عليها في مقتضيات دستور 2011، بالشكل الذي يبين حرص المؤسسة الملكية على التطبيق الأمثل لمقتضيات الدستور باعتباره أسمى وثيقة في الدولة، وبين أيضا الثقة السامية التي تحظى بها القوى السياسية لدى المؤسسة الملكية استثمارا للإجماع الوطني الحاصل تجاه عدالة ومصداقية الطرح المغربي، وفيه أيضا اعتراف صريح بالمجهودات التي بذلتها الأحزاب السياسية أغلبية ومعارضة عبر مختلف قنوات الدبلوماسية البرلمانية التي يتيحها لها الدستور خاصة الفصل العاشر منه الذي جعل من مهام المعارضة البرلمانية المساهمة الفاعلة في الدبلوماسية البرلمانية للدفاع عن القضايا العادلة والمشروعة للوطن ومصالحه الحيوية، أو عبر الفصل 68 منه، أو من خلال ما يتيحه النظام الداخلي لمجلس النواب عبر الجزء الثامن المخصص للعمل الدبلوماسي البرلماني من أجل الدفاع عن وجاهة ومصداقية الطرح المغربي بالمحافل الدولية. وهكذا، فإن إشراك الفاعل الحزبي في تحيين مبادرة الحكم الذاتي فيه تحصين للمكتسبات السياسية الإيجابية التي حققتها الدبلوماسية المغربية بشكل جماعي تحت قيادة  الملك.
 
عبد الغني السرار، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة.