في زمن تتكاثر فيه اللقاءات الوطنية وتقلُّ فيه النتائج، يبدو ضروريا أن نعيد مساءلة معنى “Meeting” داخل التنظيمات المدنية:هل هو مجرد محطة تنظيمية لتبادل الكلام؟ أم فضاء لإنتاج القرار الجماعي والفعل الميداني؟
إن التنظيمات المدنية الحيّة لا تُقاس بعدد لقاءاتها، بل بقدرتها على تحويل الاجتماع إلى أداة وعي وتنظيم ونضال.
فالمشكل لم يعد في غياب المواعيد، بل في غياب “المعنى” داخلها.
اللقاءات كفعل تربوي وتنظيمي
اللقاء ليس مناسبة شكلية، بل تمرين على الديمقراطية الداخلية وعلى فنّ الإصغاء والاعتراف بالآخر.
حين يتحول اللقاء إلى لحظة لتجميع الذكاء الجماعي، يصبح جزءا من سيرورة التربية الشعبية التي تؤمن بأن كل مناضل يحمل جزءا من الحقيقة، وأن القرار الجماعي هو أفق لتقاطع التجارب لا لإلغائها.
إنّ التنظيم المدني الذي لا يُحسن إدارة لقاءاته، يفقد تدريجيا إحدى أهم أدواته في البناء والتأطير والمساءلة.
التحضير القبلي كمدرسة للجدّية
في المنطق التقدّمي، كل لقاء يُحضَّر بجدّ هو تمرين على المسؤولية الجماعية.
التحضير ليس عملا إداريا / تقنيا، بل فعل وعي سياسي وتنظيمي يبدأ من وضوح الهدف، ويمر عبر قراءة دقيقة للواقع، ويستند إلى معطيات موثوقة من بنك المعلومات التنظيمي:
من شارك؟ من أنجز؟ من انقطع؟ ومن يمكن أن يُقدّم الإضافة النوعية؟
إنّ التنظيمات التي تشتغل دون ذاكرة، محكوم عليها أن تعيد أخطاءها كل مرة. لذلك يصبح التوثيق والمتابعة وجمع المعطيات أدوات نضالية لا تفاصيل ثانوية.
كما أنّ اللقاءات الجادة لا تُترك للمصادفات، بل تسهر عليها لجان وظيفية شرعية تُحضّر للورشات وتختار المواضيع بعناية وتضع أرضيات وأوراق للنقاش بشكل يضمن التناغم بين التخصصات والرهانات التنظيمية.
الانتقاء: من الولاء إلى الكفاءة
من أهم مظاهر النضج داخل التنظيمات التقدمية أن تتحول المشاركة في اللقاءات من منطق الولاء إلى منطق الكفاءة. فليس كل حاضر مساهم، وليس كل غائب متقاعس.
القيادة الواعية لا تختار بناء على “من نعرف”، بل على “ من يقدر على تقديم الإضافة المطلوبة”.هكذا يصبح الانتقاء ممارسة ديمقراطية تحترم التخصص، والاستمرارية، والالتزام الأخلاقي....
بمعنى آخر من يحضر هو من يملك ما يقوله، ومن يسعى إلى أن يجعل من اللقاء خطوة نحو التنفيذ والاجرأة لا نحو التصفيق وتأثيت الصور.
من الاجتماع إلى القرار، ومن القرار إلى الفعل
اللقاء الناجح ليس الذي ينتهي بتصفيق أو صورة جماعية، بل الذي يولد منه قرار قابل للتنفيذ.
ولهذا، يحتاج كل لقاء إلى:
-محضر واضح ومسؤوليات محددة
-آجال للتنفيذ والتقييم
-متابعة لاحقة تُعيد وصل ما انقطع بين التفكير والفعل.
بهذه المنهجية، يصبح كل لقاء لبنة في البناء العام، لا لحظة معزولة في الذاكرة التنظيمية.
المعايير التقدمية للنجاح
التنظيم الذي يريد أن يصنع الأثر، لا بد أن يعتمد معايير واضحة في انتقاء من يحضر ويشارك:
-الكفاءة قبل القرب
-الاستمرارية الفاعلة قبل الظهور
-الالتزام بالقيم قبل الخطاب
-المسؤولية قبل التمثيلية الشكلية.
إنها بعض المعايير التي تجعل التنظيم فضاء للتربية على العمل الجاد، لا على المجاملة أو المحسوبية.
نحو ثقافة تنظيمية مسؤولة
اللقاء المدني التقدّمي ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتجديد الفكر والممارسة.
هو لحظة للتفكير الجماعي في معنى التنظيم ورسم معالمه ، في قيم الانتماء، وفي رهانات النضال الجماعي.
فالتربية الشعبية — التي نؤمن بها — تعلمنا عبرها أن العمل الجماعي ليس مجرد تواجد في قاعة، بل تفاعل بين العقول والقلوب حول مشروع مشترك.
حين نحسن تنظيم لقاءاتنا، نرتقي بتنظيمنا كله.
وحين نختار من يشارك بعقلية بناء لا مجاملة، نصنع من كل اجتماع درسا في الديمقراطية العملية.
في الاخير نؤكد ان اليوم، لم يعد السؤال هو كم من لقاء عقدنا؟
بل ماذا غيّر كل لقاء في وعينا الجماعي؟ وما الذي تحقق من قراراتنا السابقة؟ وهل نمتلك الشجاعة لتقييم ذواتنا قبل أن نحاسب غيرنا؟
إن بناء ثقافة تنظيمية مسؤولة يبدأ من لحظة صدق، ومن إيمان بأن اللقاء ليس هدفا، بل وسيلة لتجسيد الفكر في الممارسة، وتحويل الحلم الجماعي إلى فعل تغييري ملموس يجعل جميع الافراد يشعرون أنهم جزء من الدائرة التي طالما ترسم معالم تقليص الهوة بين القيادة والقاعدة.