Friday 10 October 2025
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: البلدان تنهض بالعقل وليس بالدين كما يعتقد البعض

أحمد الحطاب: البلدان تنهض بالعقل وليس بالدين كما يعتقد البعض أحمد الحطاب
ما أقصدُه بعنوانِ هذه المقالة، هو  أن العقلَ البشري النظيف، النَّيِّر والمستنير، هو صانِع النهضة الاجتماعية بجميع تجلياتها. وهذا أمرٌ لا يحتاج إلى برهنة n'a  pas besoin de preuves أو ليس في حاجة إلى تعليل argumentation. 
 
النظيف تعني أن العقلَ لا يتأثَّر بالإغراء la tentation، كيفما كان، مادياً أو معنوياً. والعقل النَّيِّر لا يحتاج إلى التقليد. بل له القدرة على التفكير المستقل la pensée autonome، أي له استقلالية une autonomie في إبداء الآراء وله، كذلك، استقلالية في مختلَف مجالات المعرفة. وفوق هذا وذاك، له القدرة على التَّحليل l'analyse والإدراك la compréhension والتقييم l'évaluation، وبالتالي، اتِّخاذ القرارات والمبادرات la prise de décisions et d'initiatives. كما له القدرة على اقتراح حلول لبعض المشكلات… أما العقل المستنير، فهو العقل القادر على توظيف كل المَلَكَات الفكرية les facultés  intellectuelles السابقة الذكر للتعمق في كُنهِ وجوهر الأمور والربط فيما بينها.
 
ورجوعا إلى عنوان هذه المقالة، أي "البلدان تنهض بالعقل وليس بالدين كما يعتقد البعض"، يمكن أن أجزِمَ بأن أي بلدٍ قطع ويقطع أشواطا مهمَّة في البحث العلمي وفي الإنتاج الفكري، العلمي والتكنولوجي، الشيء الذي جعل ويجعل منه قُطباً مزدهرا، متقدِّماً ومُتطوِّراً اجتماعياً، اقتصادياً وثقافياً، فهو بلدٌ يملِك عقولا نظيفة، نيِّرة ومستنيرة، أي يملِك عقولا فكَّرت وحوَّلت ما فكَّرت فيه إلى قيماتٍ مُضافة des valeurs ajoutées ساهمت وتُساهِم في خلق الثروة la création de richesse.، من خلال اقتصاد البلاد.
 
قد يقول قائل إن نهضةَ البلدان تخضع لعوامل مختلِفة ومتعدِّدة، وعلى رأس هذه العوامل، أن تكونَ رائدةً في إنتاج المعرفة بجميع مشاربها وأن يكونَ لها باعٌ طويلٌ في تثمين valorisation هذه المعرفة وتحويلها إلى قيمات مضافة تمكِّن هذه البلدان من أن تكون لها الريادة في إنتاج التِّكنولوجيات التي تلعب دورا حاسِما في تقوية الاقتصاد.
نعم وبكل تأكيد إن نهضةَ البلدان تخضع لعوامل مختلفة ومتعدِّدة، منها ما هو اجتماعي، وما هو اقتصادي، ثقافي، علمي… لكن، ما هو الشيءُ الذي يتحكَّم في كل هذه العوامل ويفكِّر فيها ويُنتِحها ويُطوِّعها… ويربطها بالواقع المحلِّي والعالمي؟ إنه العقل، وما أدراك ما العقل!
 
مثلا، من المعروف أن بلداناً كثيرةً، وخصوصا البلدان النامية pays en développement تتوفر على موارد طبيعية متنوِّعة، علماُ أن هناك فرقا كبيرا بين تحويل هذه الموارد محلِّياً إلى قيمات مضافة des valeurs ajoutées يستفيد منها اقتصاد هذه البلدان،  وبين بيعِها في شكلها الخام à l'état brut إلى بلدان أخرى. الفرق، بالطبع، كبير ولا يحتاج إلى توضيح. علماً أن أسعار هذه المواد الخام لا تتحكَّم فيها البلدان التي تملكها. بل يتحكَّم فبها الطلب والعرض وبورصات les bourses البلدان الغنية. إذن، من واجب البلدان، وبالأخص، البلدان النامية، أن تعطِيَ أهمِّيةً بالِغة لبناء الإنسان، لكن الإنسان المُتوفِّر على عقل نظيف، نيِّر ومُستنير، قادِر على الإبداع la créativité وعلى الابتكار l'innovation.
 
غير أن حكومات جلَّ البلدان النامية لا تُعيرُ أي اهتمامٍ لبناء الإنسان القادر على النهوض بالبلاد والمساهمة في رقيِّها وازدهارها. ما يهمُّ هذه الحكومات، هو الاستدامة في كراسي السلطة والبقاء فيها أطول مدة ممكِنة. وعالمنا العربي الذي ينتمي، اقتصادياً، لمجموعة البلدان النامية، يزخر بهذا النوع من الحكام الذين، بالنسبة لهم، لا شيءَ يساوي البقاء في السلطة. 
 
وقد يقول قائل آخر إن أحسنَ دبن يهتمُّ ببناء الإنسان، بناءً جيداً، هو الإسلام. نعم وبكل تأكيد، الإسلامُ، كدينٍ، مؤهَّلٌ تأهيلاً كاملا لبناء الإنسان، بناءً جيِّدا، لكن الإسلام المنصوص عليه في القرآن الكريم وليس الإسلام المُوازي الذي صنعه الكهنوت. نعم، الإسلام يبني الإنسانَ ليكون مؤهلا لخدمة  البلادَ والعبادَ. لكن، هل هناك شيءٌ يمنع الإنسانَ، كإنسان، من تشغيل عقلِه خارجَ الإسلام أو الدين؟
بالطبع، العقل هِبةٌ إلهيةٌ وهبها لكل الآدميين بغض النظر عن مُعتقداتِهم الدينية، وذلك ليُفكروا به في إطار الدين أو خارجَه. ولو كان تشغيل العقل مقترنا بالدين، لخلق اللهُ، سبحانه وتعالى، إنساناً مسلِما من البداية وانتهى الأمر. ولهذا، فالإسلام، كدينٍ، يساعد على بناء الإنسان، بناءً جيِّداً. وهذا الإنسان، هو الذي يختار أن يشغِّلَ عقلَه فيما فيه خيرٌ للبلاد والعباد أو فيما فيه خرابٌ للبلاد والعباد.
 
إذن، الدين قد يُساعِد، من خلال بناء الإنسان  بناءّ جيدا، على تقدُّم البلدان وازدهارِها وتنميتها، لكن ليس هو مَن يصنع هذا التَّقدٌّم وهذا الازدهار. العقل هو مَن يصنع هذين التَّقدُّم والازدهار. والدليل على ذلك، أن جلَّ البلدان المتقدِّمة اجتماعياً، اقتصادياً، علمياً، تكنولوجياً، صناعياً… ليست مسلمة. والدليل الآخر، هو أن مجموعةَ البلدان الإسلامية، فيها بلدان مُتخلِّفة des pays sous développés، وفيها بلدان سائرة في طريق النمو des pays en développement، وفيها بلدان صاعِدة des pays émergents. لو كان الدين هو صانع التقدم والازدهار، لكانت كل البلدان الإسلامية متقدمة.
 
والدينُ وحدَه، كما يشهد بذلك التاريخ، لا يصنع التَّقدُّمَ والازدهار، لكن يمكن أن يؤثِّر عليهما، إما إيجابياً وإما سِلبياً. إيجابياً، الدينُ هو مَن يصنع القِيمَ الأخلاقََية والأعراف الاجتماعية الضرورية للتقدُّم والازدهار. سِلبياً، الدين، وبالأخص، الدين المُوازي الذي صنعه الكهنوت، يمكن أن يُعرقلَ مسيرةَ التقدُّم والازدهار بشتى الطرق، أذكر من بينها ما يلي :
-إذا كثُرت، في الدين الموازي، المحرَّمات والطابوهات والممنوعات. وعندما أتحدَّث عن المُحرمات، فالمقصود ليس المحرمات المنصوص عليها في القرآن الكريم. بل المحرمات التي صنعها الكهنوت كسماع الموسيقى وإطالة اللباس ما بعد الكعبين وحلق اللحية…
 
-إذا تمَّ تفسير النصوص من طرف عقول مُتديِّنٍة مُتطرفة تسعى إلى السيطرة على عقول الناس وإلى تجميدها.
-إذا تمَّ استغلال الدين لأغراضٍ سياسية،
-إذا تم اصطدامٌ بين ما يعتقده علماء وفقهاء الدين معتقدات ثابتة des dogmes invariables، وبين مُعطيات الواقع… وعندما أتحدَّث عن المعتقدات الثابتة، فالمقصود ليس أركان الإسلام. المقصود، هو ما يعتبره الإننتاجُ الفكرِي لعلماء وفقهاء الدين، ثابتاً.
 
وفي الختام، العقلُ يلعب دورا حاسِما في النهوض بالبلدان، لأنه هو الذي يكوِّن نظرةً أو رؤيةً عن واقع العالم، من خلال التَّحليل والمنطق والتَّقييم وإدراك ما يروج من أحداث في هذا الواقع… وعلى ضوء هذه الملكات الفكرية، العقل هو الذي يتَّخذ المبادرات والقرارات ويتحمَّل مسؤوليةَ اتِّخاذها أما الدين، فيلعَب دورَ المُحفز الأساسي للتمييز بين الخير والشر ولتكونَ المبادرات والقرارات المتَّخذة نافِعة للبلاد والعباد. بمعنى أن الدينَ يقود العقل نحو كل ما فيه خيرٌ للبلاد والعباد، والابتعاد عن كل ما فيه ضررٌ لهما.