يُعدّ خروج الشباب للاحتجاج في المغرب ظاهرة متكرّرة تعكس دينامية اجتماعية متصاعدة تعبّر عن تحولات عميقة في بنية الوعي والمطالبة بالحقوق فمنذ حركة 20 فبراير سنة 2011، مرورًا بالاحتجاجات القطاعية والمجالية في الحسيمة وجرادة، وصولًا إلى موجات التعبئة الرقمية الحديثة، تبلورت أنماط جديدة من الفعل الاحتجاجي الشبابي تتراوح بين التنظيم الميداني والاحتجاج الافتراضي وبين المطالب الاجتماعية والرمزية
تفسّر نظرية الحرمان النسبي جانبًا من هذه الظاهرة، حيث يشكّل الإحساس بالفجوة بين التطلعات المتزايدة والواقع المعاش دافعًا أساسيا نحو الاحتجاج فالشباب المغربي، المتعلم في معظمه، يعيش مفارقة حادة بين وعيه بحقوقه وطموحاته في العدالة والكرامة، وبين محدودية آليات الإدماج الاقتصادي والسياسي هذا التوتر يولّد شعورًا بالإقصاء وعدم الاعتراف، فيتحول إلى طاقة احتجاجية تسعى إلى إعادة التوازن بين ما يُفترض أن يكون وما هو كائن
من جهة أخرى توفّر نظرية الفرص السياسية مدخلاً مكملاً لفهم الظاهرة إذ لا تنفجر الاحتجاجات في الفراغ، بل في سياقات يتغيّر فيها ميزان القوة بين الدولة والمجتمع فكلما اتّسعت هوامش التعبير وبرزت مساحات جديدة للخطاب العمومي زاد احتمال بروز المبادرات الاحتجاجية غير أنّ تقلّب هذه الهوامش بين الانفتاح والانغلاق يجعل من الفعل الاحتجاجي الشبابي ظاهرة متقطعة وغير مؤسّسة تحضر بقوة في لحظات الأزمات ثم تنكفئ بفعل الضغوط الأمنية أو غياب التأطير التنظيمي
على المستوى السوسيولوجي، يعكس خروج الشباب للاحتجاج أزمة ثقة مزدوجة
على مستوى الثقة السياسية، يواجه الشباب المغربي انسدادًا متزايدًا في قنوات المشاركة التقليدية حيث تراجعت جاذبية الأحزاب والنقابات التي كانت تاريخيًا وسائط للتعبئة والتأطير هذا التراجع لا يرتبط فقط بضعف الأداء أو غياب المصداقية، بل أيضًا بتغيّر أنماط التواصل والتمثيل لدى الجيل الجديد الذي لم يعد يرى في التنظيمات الكلاسيكية فضاءً للتعبير عن ذاته أو الدفاع عن قضاياه فالمسافة بين الخطاب السياسي الرسمي وانتظارات الشباب اتسعت، لتتحول تدريجيًا إلى قطيعة وجدانية تتجلى في العزوف الانتخابي، والسخرية من النخب، والبحث عن بدائل أفقية أكثر مرونة واستقلالية
في هذا السياق برز الفضاء الرقمي كبديل تمثيلي جديد، حيث أعاد الشباب صياغة مفهوم المشاركة والاحتجاج خارج الأطر المؤسساتية فقد أصبحت المنصات الرقمية مجالاً لتبادل الخبرات وتنظيم الحملات التضامنية وكشف الاختلالات بما يشبه “مجتمعًا مدنيًا موازياً” يقوم على السرعة، التفاعل، واللامركزية كما أن الفضاء الافتراضي أتاح إمكانات للتعبئة العابرة للمجالات الجغرافية والاجتماعية، مما منح الحركات الشبابية قدرة على فرض حضورها الرمزي حتى في غياب التنظيم المادي
غير أن هذه الفضاءات البديلة على الرغم من ديناميتها، تظل محدودة من حيث الاستمرارية والتأثير المؤسساتي إذ تفتقر إلى البنية التنظيمية والتمثيلية التي تمكّنها من تحويل الخطاب الاحتجاجي إلى فعل سياسي مُمنهج ومع ذلك، فإنّها تعبّر عن تحوّل نوعي في الثقافة السياسية للشباب من منطق “الوساطة الرأسية” إلى “الانخراط الأفقي”، ومن الانتماء إلى الإيديولوجيات الجامدة إلى الانخراط في قضايا آنية وقيم كونية مثل العدالة ، المساواة، والشفافية
على المستوى القيمي، يمكن القول إنّ الاحتجاج الشبابي في المغرب تجاوز دلالته السياسية الضيقة ليصبح فعلًا وجوديًا يعكس تحولات في الوعي بالذات والكرامة والمواطنة فبالنسبة لعدد متزايد من الشباب، لم يعد الاحتجاج مجرد وسيلة للمطالبة بتحسين الأوضاع المادية، بل تحول إلى فضاء رمزي للبحث عن المعنى والاعتراف الاجتماعي في مجتمع يشهد اختلالات في التوزيع العادل للفرص
تتخذ هذه الاحتجاجات بعدًا ثقافيًا وهوياتيًا، إذ تعبّر عن رغبة في إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع فالكرامة لم تعد تُختزل في البعد الاقتصادي بل تشمل احترام الإنسان كمواطن كامل الحقوق، له صوت وتأثير وقدرة على المشاركة في رسم مستقبله لذلك، بات الاحتجاج فعلًا تواصليًا جماعيًا يُنتج رموزًا وشعارات وممارسات تعبّر عن ثقافة جديدة للمواطنة الفاعلة
كما أن التقاطع بين المطالب الاجتماعية (الشغل، التعليم، الصحة) والمطالب الرمزية (العدالة، المساواة، الحرية) يُبرز الطابع الشمولي للاحتجاج الشبابي، الذي لا يسعى فقط إلى تحسين شروط العيش، بل إلى تغيير قواعد الاعتراف والتقدير داخل الحقل الاجتماعي وبذلك، يصبح الفعل الاحتجاجي وسيلة لبناء هوية جماعية جديدة تتأسس على قيم المشاركة، التضامن، والفاعلية المدنية
هذا التحول القيمي يؤشر إلى أنّ جيل الشباب لم يعد يكتفي بالانخراط في المنظومات القائمة، بل يسعى إلى إعادة تشكيلها وفق منطق يتماشى مع تطلعاته للحرية والمواطنة الكاملة إنها، في جوهرها، ثورة قيمية صامتة تعبر عن انتقال من منطق الولاء إلى منطق الاستحقاق، ومن ثقافة الانتظار إلى ثقافة المبادرة
خلاصة القول، إنّ احتجاجات الشباب في المغرب تمثل أحد أبرز مؤشرات التحول الاجتماعي والسياسي في العقدين الأخيرين، فهي لا تعبّر عن نزقٍ عابر أو تمرّدٍ ظرفي، بل عن تحوّل في الوعي الجماعي تجاه السلطة والعدالة والمواطن فالشباب الذين خرجوا إلى الشارع أو عبّروا عبر المنصات الرقمية لا يرفضون الدولة كمؤسسة بل يطالبون بإعادة تعريف أدوارها على أساس الشفافية، الكفاءة، والمحاسبة
إن رفض منطق الوصاية السياسية يعكس انتقالًا من ثقافة الطاعة إلى ثقافة المساءلة، ومن علاقة رعايا إلى علاقة مواطنين وهذا ما يجعل مطالب الشباب بمثابة دعوة إلى تجديد العقد الاجتماعي ليصبح أكثر عدلًا، يقوم على الحقوق والواجبات المتبادلة لا على الامتيازات والزبونية فالاحتجاج هنا ليس خصومة مع الدولة، بل تعبير عن رغبة في الانتماء بشروط الكرامة والمشاركة
لكن هذه الطاقة الاحتجاجية، مهما بلغت قوتها الرمزية، تظل مهددة بالهدر إن لم تُترجم إلى قنوات مؤسساتية قادرة على استيعابها وتحويلها إلى فعل بناء ويقتضي ذلك اعتماد استراتيجيات إدماج مستدامة ترتكز على إصلاح منظومة التعليم بما يؤهل الشباب للمواطنة الفاعلة، وخلق فرص عمل ذات كرامة، وتوسيع فضاءات المشاركة في صنع القرار كما يتطلب ترميم الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، باعتبارها الشرط الضروري لأي استقرار ديمقراطي حقيقي
فبدون هذا الإدماج الشامل، سيظل الاحتجاج اللغة الأخيرة لجيلٍ يشعر أنّه حاضر جسديًا وغائب مؤسساتيًا يبحث عن موقعه داخل وطنٍ يحبّه، لكنه يطالبه بأن يسمع صوته ويعترف بفاعليته غير أن استمرار غياب قنوات الإدماج المؤسسي قد يحمل في طياته تداعيات مركّبة إذ يمكن أن تتحول طاقة الاحتجاج من مطلبٍ إصلاحي إلى حالة من اللامبالاة السياسية أو الانسحاب الجماعي من المجال العمومي كما أن تراكم الإحباط قد يفتح المجال أمام أنماط جديدة من التعبير الرمزي أو الاحتجاج الرقمي غير المنظّم، مما يصعّب عملية الحوار ويزيد من هشاشة الثقة في المؤسسات
وفي الأمد المتوسط، قد يؤدي غياب الأجوبة المؤسسية المقنعة إلى إعادة إنتاج دورة الاحتجاج بشكل دوري مع ما يرافقها من كلفة اجتماعية واقتصادية وسياسية لذلك، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن في احتواء الغضب الشبابي، بل في تحويله إلى طاقة إصلاحية بناءة من خلال تجديد أدوات الوساطة، ودعم المشاركة المواطِنة، وإعادة بناء الثقة بوصفها حجر الزاوية لأي مشروع تنموي وديمقراطي مستقبلي