أكثر ما يؤلم المُغترب أن يرى بلاده تُختزل في صور الفوضى والأسى، وهو بعيد لا يملك سوى المتابعة من وراء شاشة. كنت في مهمة عمل بين فرنسا وبعض الدول الإفريقية خلال الأحداث الأخيرة في المغرب، ورأيت كيف كان وقعها صعبا و مضاعفًا عليّ. فكلما امتدت يد عنف نحو شاب، تذكرت طلبتي ونقاشاتهم البريئة وآمالهم البسيطة...
ما حدث ليس مجرد احتجاجات عابرة، بل مواجهة مفتوحة مع ظواهر معقدة : شباب ينزلقون إلى التخريب أو الفوضى، فضاء رقمي يضاعف الخراب ويشوّه حتى أنبل المطالب، وأجيال فقدت الثقة بين مؤسساتها وأحلامها...
نحن اليوم أمام وباء جديد أخطر من كوفيد : وباء الخراب الرقمي وتمكن الذكاء الاصطناعي من عقول شبابنا.
نحن اليوم أمام وباء جديد أخطر من كوفيد : وباء الخراب الرقمي وتمكن الذكاء الاصطناعي من عقول شبابنا.
ورغم جسامة الأزمة، ما زلنا نسمع تصريحات رسمية تحمل نفس النبرة الاعتلائية والفوقية، وكأن الوزراء يعيشون في عالم آخر مثقل بالكِبر والنرجسية. في وقت تحتاج البلاد إلى خطاب صادق يلامس الواقع، وإلى مراجعة عميقة للأخطاء المميتة التي ارتكبناها جميعًا. ومن بين هذه الأخطاء، مشاهد الهدم الصادمة التي عرضناها أمام العالم : جرافات تعمل ليلًا ونهارًا في قلب مدننا، تحت أنظار شباب لا يفهم منطق المشاريع الكبرى ولا فلسفة الاستثمار، لأنه لم يتلقَّ في جامعاته إلا الرداءة، ولم يسمع إلا عن سوق بيع الشهادات والمناصب.
ثم يبقى السؤال المرّ: لماذا نُقحم جهاز الأمن في كل مواجهة مع الشارع؟ أليس دوره أن يتدخل في الحالات القصوى فقط، بعد استنزاف كل قنوات الحوار؟ أين هي الأحزاب بخطاباتها الرنانة؟ أين خبراء التواصل السياسي؟ أين التلفزيون والراديو والقنوات الرسمية التي أنفقت عليها الملايين؟ أين الجيوش الرقمية التي لا نراها إلا حين يتصارع السياسيون فيما بينهم؟ أين يختفي الجميع عندما تواجه البلاد مأزقًا حقيقيًا؟ هذا أبشع هروب إلى الوراء يمكن أن يرتكبه حزب أو مسؤول، وهو الدليل الصارخ على أن السياسة عندنا لم تعد لخدمة البلد، بل سُلّمًا للمناصب والمصالح والإغتناء السريع فقط.
في الخارج، كانت صورة المغرب على المحك. الفرنسيون يختزلون بلدنا في سياحة مهددة، بينما الأفارقة ينظرون بقلق أكبر : هل يعقل أن المغرب، الذي كان دائمًا نموذجًا يُحتذى، يعيش هذا الانكسار؟؟...
اليوم، بعد عودتي، أرى أن لحظة التوقف واجبة : لا لننكر ما وقع، بل لنفهمه ونحوّله إلى دروس. فالمغرب لا يملك ترف الهروب من مواجهة ذاته، خاصة في زمن تتربص فيه العيون بكل عثرة، ويُعتبر فيه الصمود نفسه معجزة.