Thursday 25 September 2025
فن وثقافة

ماهية السفر: الترحال تمرينا على اللايقين

ماهية السفر: الترحال تمرينا على اللايقين وحده السفر يُذكّرنا أننا لسنا الجغرافيا التي نعيش فيها بل الأسئلة التي نحملها

"السفر يشبه الحُلم، الفرق ألا أحد يُشاركك حلمك لكن كثيرين يشاركونك الطريق" بول فاليري

 

كان الروتين يربّت على كتفي كأبٍ عجوز، يُذكّرني بأن لا حاجة للدهشة ما دامت الأمور تسير "كما ينبغي". وكنت أُصدّقه إلى أن سافرت إلى احتمالات أخرى للوجود، إلى نسخ منّي لم أكن أعرف أنها ممكنة.

في كل صباح، حين تتكرر التفاصيل ذاتها نكاد نظن أننا نعرف العالم بل نكاد نُقسم أننا امتلكنا مفاتيحه، أن الحياة ليست سوى هذا النسق الرتيب، هذا التواطؤ المألوف بين الوقت والعادة في صباحٍ لا يختلف عن آلاف الصباحات التي مضت، جلستُ أمام نافذتي المعتادة. الشارع ذاته، الكرسي ذاته، الفنجان الذي يعرف حرارتي قبل أن ألمسه. كنتُ أظن أنني أحب هذا التكرار، هذه السكينة التي لا تُحدث ضجيجًا، لكنها، كما اكتشفت لاحقًا، كانت شكلًا ناعما من الموت.

لا يقتلك الروتين دفعة واحدة، يُدجِّنك على البقاء في قفصٍ مفتوح الباب. تتعلّم فيه أن تسمي الجمود استقرارا والخمول سلاما. وذات ظهيرة، دون أن أُخطّط كثيرا، حجزت تذكرة إلى بلدٍ لم أزره من قبل، لم أكن بحاجة لمغامرة بل كنتُ بحاجة إلى أن أحس بتلك الرّجفة التي يحسها العصفور حين يبلل ريشه المطر فينفض عنه كل الكسل.

يأتي السفر، هذا الكائن الغريب الذي لا يُعلن عن نواياه، كزلزال ناعم وكتمرين للوجود على خلخلة ما نعتقده يقينًا، لا يعلّمنا السفر الجديد فقط وإنما يُعيد تعريف القديم. يُشكّك في بنية معرفتنا، في أصلها، في مشروعيتها. في السفر، كلّ شيء يستدرجك للخيانة: خيانة الأماكن التي اعتدتَ أن تسير فيها وعينك مغمضة، خيانة الحقائق التي ردّدتها كأدعية النوم، خيانة صورة نفسك التي ظننتها ثابتة. هناك، في شوارع باردة كنتُ أبتسم لغرباء بلا سبب، أطلب وجبات لا أعرف نطقها، أكتب رسائل لنفسي على مناديل المطاعم وأسأل: من كنتُ قبل هذه اللحظة؟

يصنع اليومي من الحياة مسرحية محفوظة نعرف نهايتها قبل أن تبدأ. فيما السفر، بالمقابل، يكتب الحياة بلغة الاحتمال، يشطب العناوين المألوفة ويترك الصفحة بيضاء لكي نكتبها من جديد بخط يد مُرتجف، صادق وعاري من الادعاء. يخلخل السفر الروتين كما يخلخل الموت يقين الأحياء بالخلود. إنه انفتاح مفاجئ على الغريب بوصفه إمكانًا آخر للوجود. كل مطار هو مهبط أسئلة، كل فندق هو إقامة مؤقتة، كل شارع غريب هو مرآة تُعيد تشكيل وجوهنا التي كدنا ننساها وسط زحمة التكرار.

نحن لا نسافر لنرى مدنًا جديدة فقط، نرحل لنفقد المدن القديمة التي في داخلنا. نُغادر أماكننا ونترك معها ذاك الذي كنا نظنه "نحن". السفر هو ارتحال الذات عن ذاتها، قفز خارج المألوف وتجريب للوجود دون ضمانات. إنه لحظة صدق بين الكائن والعالم، لحظة تخلٍّ عن الأقنعة التي فرضها الروتين، عن الحكايات الجاهزة، عن اليقين الكسول.

حين نسافر، فإننا نخلع عن أنفسنا أثقال العادة، نستعيد الحواس من سُباتها، نكتشف أن الرؤية ليست هي البصر، أن المشي ليس هو الانتقال وأن الزمان ليس هو الساعات، بل هو انفعالنا به ورجفة القلب حين يتلمّس المجهول.. كم يشبه السفر فعل الحب! كلاهما لحظة انكسار في خط الزمن، انكشاف عن هشاشتنا وتوق للامتلاء بشيء لا نعرفه.

وحده السفر يُذكّرنا أننا لسنا الجغرافيا التي نعيش فيها بل الأسئلة التي نحملها ونحن نرتجف أمام الخريطة. فما الحياة، إن لم تكن سفرًا طويلًا بين المألوف والمجهول، بين الروتين والانفلات، بيننا وبين من قد نكون؟

في السفر، لا تعود الأمور "كما ينبغي أن تكون"، لا يعود الزمن ملكًا للساعة البيولوجية ولا للمواعيد. ينهار الإيقاع الداخلي ويتحول المرء إلى كائن يقيس لحظته بالدهشة التي وحدها تعيد ترتيب الروح، هي ما يمنح المعنى للمسافة، الغرباء والضياع الجميل.. يُعيد السفر تشكيل مفهومنا للزمن، حيث يُقاس الوقت بنبض القلب. حين نضيع، فإننا نكسب ما لم نكن نعرف أننا فقدناه: عفويتنا. حيث تُولد لحظة الصدق النادرة: نحن لسنا ما نفعله كل يوم بل ما نهرب منه حين تسنح لنا الفرصة.

تكمن متعة السفر ليس في التنقل بين جغرافيات مغايرة ولا في استهلاك صور سياحية تُزَيِّن واجهة الذاكرة، ولا حتى في الاحتكاك السطحي بثقافات الآخرين التي نحمل منها تذكارات تُزين بيوتنا.. متعة السفر، كما يدركها من ذاق جوهر التيه، هي نوع من الاختبار الوجودي، تمرين على اللايقين، مصالحة مع الهشاشة البشرية، انكسار "الذات المعتادة" وتهاوي يقينياتها الصغيرة أمام عوالم غير مألوفة.. السفر الحقيقي هو زلزلة ناعمة للكائن وخلعٌ لنعل الألفة على عتبة التيه.

الارتحال مختبر للتواضع العميق، أن تُدرك هشاشتك دون خجل وتعترف بأنك لا تتحكم في شيء، وعليك أن تواجه العبث بابتسامة وتفقد السيطرة على كل ما اعتقدت أنك تعرفه أو تملكه، لأن السفر يُعلمك فن الخسارة النبيلة: أن تتعرض لاحتيال ساذج من أبسط خلق الله وأبلدهم بينما كنت تحسب نفسك ابن الذكاء العصري، أن تسكن ليلة في نُزل رديء خدعتك صوره في مواقع الحجز، أن تبيت في مطار بارد أو على كرسي محطة قطار بعد أن حجزتَ فندقا فاخرا عجزتْ خريطة غوغل أن تقودك إليه أو لم تصمد بطارية هاتفك حتى تصله، أن تنجو من مغامرة كادت تتحول إلى كارثة لأن الحظ لم يكن مشغولاً عنك تلك الليلة.. ثم، رغم كل شيء، تبتسم. فقط لأنك أدركت أن الحياة لا تُفهم حين تسير وفق المخطط بل حين تنفلت من بين يديك كالماء وتتركك مبللاً بالدهشة.

أن يُغلق في وجهك باب المدينة التي حلمتَ بها طويلًا.. ليس مأساة. أن تنام في محطة أو على كرسي حديقة.. ليست نهاية. أن تُخدع وأنت تظن نفسك محصّنًا.. ليست إهانة، بل درس.

في برشلونة، كنت أريد أن أزور مكتبة كاطالونيا الشهيرة التي قرأتُ عنها كثيرا. لم يكن أمامي كثير من الوقت قبل أن أغادر المدينة، وصلتُ بعد عناء كبير إلى حي El Raval في قلب المدينة القديمة Ciutat Vella، فوجدتُ لافتة مكتوب عليها: "مغلق بسبب الإصلاحات" cerrado por obras ، أغمضتُ عيني، لم أغضب، فقط شعرتُ أن العالم يعلمني: "ليس كل ما تحلم به سيكون بانتظارك"، وتيقنتُ أن الباب المغلق قد يكون درسا أجمل من الباب المفتوح.

لا يمنحك السفر مفاتيح لعوالم جديدة فقط وإنما يعلمك أن الذات لا تكتمل إلا حين تفقد يقينها، وأن كل مكان جديد، كل لغة لا تُتقنها، كل عادة لا تشبهك هي فرصة للتواضع وللفهم الأعمق: أن العالم أوسع بكثير منك وأنك لست إلا نسخة من احتمالاته المتعددة. فكما قال لاوتسو: "كلما توغّلنا في السفر بعيداً، قلّتْ معرفتنا".. لأن العبور يضعك في مواجهة عارية مع كل ما لا يمكن التنبؤ به: أن تُخلف موعد الطائرة، أن تخذلك الخريطة، أن تحجز الفندق بنفسك لكن تخطئ في التاريخ الذي حددته لسفرك، أن تركب القطار الذي يسير في الاتجاه المعاكس لوجهتك أو يختفي النّزل الذي خطّطتَ للإقامة فيه كما يختفي الحلم حين تستيقظ. أن تضل طريقك إلى متحف اعتدت زيارته، ويبدو لك أن المدينة - رغم اتساعها- لا تمنحك حضنا دافئا ولا أحد فيها يلتفت إليك، تُدخلك متاهتها ثم تبتلعك، بينما تُحس أن أحدهم، في زاوية غير مرئية، يقهقه ساخرا من ارتباكك.

في إحدى المدن الإيطالية، ضللتُ الطريق إلى الفندق رغم أنني حفظت اسمه، عنوانه وحتى موقعه على الخريطة. ولم أكن أحمل معي لا هاتفي ولا محفظة نقودي.. سرتُ لأكثر من ثلاث ساعات في أحياء متشابهة، دارت بي الشوارع في حلقة من الضياع، وبدأ الليل يُلقي بأستاره والمنازل تبتلع المارين، جلستُ على حافة رصيف وحيدا، شعرتُ أني طفل تائه في لعبة بلا خريطة. يومها، كدت أبكي من الضياع لكني شعرت بأني مولود جديد في جسد رجل بالغ.

هذا هو المعنى العميق لكلمة "سفر" كما وردت في معجم "لسان العرب" لابن منظور: (السَّفَر: الكشفُ، ومنه سُمِّي السَّفَر سفرا، لأنه يُسفِر عن وجوه الأرض، أي يكشفها ويُظهرها. والسَّفَر أيضا: الانتقال من موضع إلى آخر، سواء كان بعيدًا أو قريبًا. وسُمّي المسافر سافرا لأنه يكشف القناع عن وجهه ويخرج إلى العراء، فيَظهر ويُرى).

يربط ابن منظور بين معنى السفر كرحلة والسفر ككشف، فيرى أن أصل السفر الكشف والإظهار، فالمسافر يكشف عن وجه الأرض ويخرج إلى النور والعراء، تماما كما يُسفر الفجر عن الظلمة، ومنه قول العرب أسفَرَ الفجر أو الصبحُ: أي أضاءَ وتجلّى، ظهر وارتفع.

في السفر، تتكشّف لك ذاتك كما لا تفعل في أي مكان آخر. ترى سذاجتك، توهّمك، خططك المُحكمة وهي تنهار أمام قهوة باردة لا تشبه ذوقك. تكتشف أن بطاقتك البنكية، هاتفك الذكي، إتقانك للغة البلد ومعرفتك الجيدة بقواعد السفر التي اعتبرتها ضمانات وجود، كلّها لا تحميك من الغرق في لحظة فوضى. تهزأ الحياة من حساباتك الدقيقة وتقودك إلى الهامش، إلى العراء، إلى ضياع بوصلةٍ داخل مدينة بلا خرائط داخلية.. وهناك تبدأ المغامرة الحقيقية.

تكتشف في قلب الارتحال غربتك عن ذاتك وأن المعرفة لا تُولد إلا من التيه الذي لمس فيك خيطًا خاملاً من الحكمة.. ليس السفر، حين نُجيد تأويله، هروبًا ولا ترفًا بل خلوةٌ روحية في جسد متحرك. حالة من التحول الدائب. فمن يعود من سفر كما كان قبله، لا تصحّ رحلته، أما من عاد مكسورا بشكل جميل، متواضعا بشكل عميق، فاقدًا للغرور وممتلئًا بالدهشة، فذاك الذي ذاق لذّة التيه وتربّى في حضن الفوضى وربح الحكمة: وهي أن لا شيء مضمون وأن أجمل ما في الطريق هو ما لم يكن في الحسبان.

في جبال تايلاند، أضعتُ حافلة الرحلة بعد أن تأخرتُ كثيرا. كنت قد استسلمتُ لسحر الطبيعة وسط غابة معلقة على جبل، لغواية النسيم حين يمرّ على وجهي في ذلك العلو الشاهق، وغفوتُ في لحظة انخطاف سحري. استيقظتُ على صمتٍ يشبه الانفصال التام عن كل شيء مألوف. لا حافلة، لا وجوه، لا صوت بشريّ يطمئنك أنك لا تزال في زمنك. تقدّمتُ بين الأشجار مثل من يسير داخل حكاية. كنت على شفير الجنون لكن شيئًا ما بداخلي لم يكن خائفًا بل مأخوذًا بانكسار الضوء على أغصان البامبو، برائحة التراب، بوحشة المكان الذي لا يدلّك إلا على نفسك.

فجأة، وجدت نفسي أمام راعٍ عجوز بجسد نحيل كأنّه من تراب الأرض، ابتسم لي كأنّه يعرفني، دعاني بالإشارة إلى كوخه الطيني، جلسنا على التراب، قدم لي خبزًا بسيطًا وشايًا مُرًّا بنكهة الدخان. لم نتحدث. كنت أشرح له ورطتي بالإيماءات، بحركات مرتبكة، بتنهيدات لا تُترجم. وظل هادئا يومئ برأسه وأنا أحكي له عن الزلزال بداخلي.. ثم، دون مقدمة، أمسك بيدي. كانت يده خشنة لكنها دافئة. ناولني عصا وأشار إليّ أن أتبعه. لم أسأل، لم أتردد. تبعته. قطعنا الجبال لمدة ساعة ونصف أو ربما أكثر.. لم نكن نتكلم، فقط نسير. كنت أراقب خطواته، أتعلم من طريقة سيره، من ميل رأسه حين يستشعر تغير الأرض. شعرت كأنه يدرّبني على العبور في الأعالي.

وحين بلغنا بلدة صغيرة، توقف.. قدمني لشاب يتقن الإنجليزية، شرحتُ له وجهتي، وساعدني حتى وجدت حافلة جديدة. التفتُّ لأشكره... لكنه لم يكن هناك. الآن، حين أفكر في تلك اللحظة، لا أرى التيه كارثة بل نعمة مقنّعة. فقط حين أضعت الطريق، وجدت من يأخذ بيدي بصمت، من يعلّمني أن المعنى قد يكون في خطوة لا في خريطة. أدركتُ أن بعض الغرباء يأتون ليقودونا إلى أنفسنا، لا إلى الطريق. وأن الحب لا يحتاج سوى لابتسامة.

نحمل في المدن التي نعرفها، أسماءنا كدروع. نُقدّم أنفسنا بوظائفنا، بتاريخنا، بمن يعرفنا ومن نعرفه. نلبس السيرة الذاتية، والأوهام الاجتماعية بتعبير بورديو، حتى ونحن نشتري الخبز. لكن حين نسافر، نُصبح وجوهًا بلا مرجعية، ظلالًا تمشي في العتمة بلا هوية مكتوبة.. وهنا، تبدأ أعذب أشكال الإنسانية.

ذات ليلة في بروج Brugge ببلجيكا، انقطعت الكهرباء عن النزل الصغير الذي كنت أنزل فيه. كنت وحدي في الطابق العلوي، أجلس في العتمة. فجأة سمعت طرقا على الباب. فتحتُ فوجدت امرأة خمسينية تحمل في يدها مصباحا صغيرا. قالت لي: "هل ترغب في الجلوس معنا؟ نحن في الصالة نُشعل الشموع ونحاول قتل الوقت."

نزلت. وجدت خمسة مسافرين من بلدان مختلفة، لا أحد يعرف الآخر. جلسنا في دائرة من الضوء الأصفر، نتحدث ببطء بلغة هجينة من الإنجليزية والابتسامات. لم نسأل بعضنا: من أنت؟ ولا ماذا تعمل ولا كم عمرك؟ سألنا: كيف تشعر الليلة؟ ما الذي تركته خلفك؟ ما الذي تبحث عنه؟
كان الليل عميقًا والصمت بيننا مساحة تأمّل.. في تلك اللحظة، شعرت بشيء نادر :أنا إنسانٌ فقط. لا أكثر ولا أقل. لا تعنيهم سيرتي ولا يعنيهم اسمي. كل ما يهم هو وجهي، إشاراتي وكلماتي القليلة.

لا يمنحك التجوال أجنحة ولا عصا سحرية لحل كل مشكلاتك، فقط يعلمك كيف تمشي حين تتعب قدماك وتزيل الحذاء وتسير حافيا في الشارع، الكنوز التي يمنحها لك هي أنه يُريك أن أثمن ما يُمكن أن تربحه هو أنت وقد تغيرتَ. أن تسافر هو أن تتعلم الحياة دون وصاية، أن تُربّي نفسك من جديد بلا أب ولا أم ولا معلم ولا لغة. أن تُضيف إلى حياتك دروسا في اللامتوقع وقبولًا شاسعا للتيه وتمرينًا على السقوط الأنيق.. أن تصير طفلًا في عالم لا يُشبهك وتُعلم نفسك كيف تُقَبِّلَ الفوضى كما تُقَبِّلُ الأم جبين ابنها الضائع حين يعود إليها متسخًا وجائعا، لكنه حيّ.

دخلتُ مقهى شعبيًا في زغرب، اشتهيتُ قهوة سوداء. لم تفهمني النادلة، فجأة.. وجدت نفسي أشرح ما أطلب لكل من كانوا يجلسون في المقهى الصغير. رسمتُ فنجانًا بيدي ونطقت القهوة بكل اللغات التي أعرفها، ضحكَت النادلة ومن كان بالمقهى. أحسستُ أنني فُهمت، فتفاجأت بها وقد أحضرت لي حساء محليا. شكرتها.. في الملعقة الأولى، شعرت بالدفء فتذكّرت رائحة من طفولتي في بيت الجدة، وأحسست أن هناك أناسا يخطئون بمحبة.

السفر هو فلسفة اللايقين، أن تنجو وأنت لا تعرف كيف نجوتَ. أن تبيتَ ليلتك في حديقة باردة مع المشردين والسكارى وأنت تتوسّد حقيبتك كحكيم يبتسم وسط العراء، لأنه أدرك أن الفوضى أحيانًا أكثر صدقًا من النظام وأن التعثر هو اللغة التي تكتب بها الحياة نصوصها الخالدة. أن تسافر هو أن تنكسر دون أن تُهزم، أن تضل الطريق دون أن تضيع، أن تتصالح مع العالم الذي لا يكفّ عن امتحانك، أن تدخل في حوار صامت مع القدر وأنت تضحك، لأنك تعلمت أن المعرفة تمرين على الخسارة بشرف. إنها متعة من نوع خاص بعد مغامرة خطرة فقدت فيها جواز سفرك أو بطاقتك البنكية أو انتُشلت نقودك وضاعت حقيبتك... وتبتسم، لمجرد أنك لم تجد نفسك بعدها في زنزانة سجن ولا ممددا على سرير بالمستشفى، ما أروع أن تكون ضائعا في السفر ولا تطلب النجدة وتخسر ولا تندم.

يرى جاك دريدا أن السفر يفضح الحدود، يفكك الهويات المستقرة ويكشف عن تراكب المعنى لا ثباته.. وأنا أرى في تيه السفر، استيقاظ الحواس كما لم تفعل من قبل، تعرّي النفس من كبريائها، وتحول كل خطأ، كل تأخير، كل عطب إلى فسحة تأمل وكل خسارة إلى حجر آخر في بناء الوعي، أتأمل جيدا هذا التواشج اللغوي بين "أسفار" التي تحيل على الكتب والصحف وعلى الترحال والتنقل، ورد في لسان العرب (السِّفْر: الصحيفة أو الكتاب الضخم الذي يكشف ويبين، ويُجمع على أسفار كما السّفر). هذا هو المعنى الذي أشار إليه غوته بقوله "السفر يوسع العقل مثلما توسع القراءة الروح،" ومونتيني وهو يؤكد: "من لا يسافر، يرى فقط صفحة واحدة من كتاب العالم." ومصطفى أمين حين قال: "رحلة إلى الخارج تساوي قراءة ألف كتاب".

استوقفني رجل بلا مأوى في محطة المترو بباريس، لم يطلب مالاً. فقط سألني:

-هل لديك دقيقة للحديث؟
قلت نعم، ربما بدافع الغرابة. تحدثنا عشرين دقيقة عن لا شيء محدد: عن طعم الخبز الفرنسي، عن الريح، عن صوت العصافير حين يصمت البشر. حين ودّعني، قال لي:

-شكرا لأنك لم تنظر إليّ كمشكلة.

ما يجعلنا بشرا في السفر، أكثر مما نملك ومما نعرف، هو كيف نُصغي لغرباء لا نحتاجهم لكنهم يحتاجون لحظة دفء منا. كلما سافرنا، تذكّرنا أن العالم كبير وأن الناس غرباء حتى نصغي إليهم قليلاً. في عتمة الغربة، تلمع الإنسانية كما لا تفعل تحت أضواء المدن المألوفة. في الغربة نُصبح أكثر قابلية لأن نرى الآخر كإنسان. الغريب الذي لا يعرفك، يرى قلبك قبل اسمك. ولذلك فإن أجمل ما في السفر هو الفرص التي يُتيحها لنُعيد اختبار إنسانيتنا بلا أقنعة ولا سيرة ولا تاريخ.

حين تنزع الارتحال من مظلّته السياحية، يتحول إلى فعل تهشيم للذات الواثقة، تعرية للبداهات التي كنت تتوسّدها كقناعات كسولة، ذلك الانهيار اللطيف لما كنتَ تظنه ثابتًا، تفتّت يقينياتك الصغيرة في وجه عوالم مغايرة، هو لحظة صمت طويلة تقول فيها لنفسك :أنا لا أعرف وربما هذا حسنٌ.. أنا هنا ولا أحتاج أن أعرف إلى أين أمضي كي أكون حيّا!

لا يُبنى السفر كفعل على التوقّع، وإما على الإنصات كتنهيدة شاعر تائه، يكتب للمدن التي لم يزرها قط لكنه يشعر أنها تسكنه منذ زمن. يرتّب الحنين لما لم نصل إليه لكنه مقيم فينا كظلّ، ليس السفر انعتاقًا من فكرة المسار، الرغبة في الإنجاز والبحث عن "معنى مبرّر"، أو "فائدة الإنجاز" لكنه فعل حُرّ طفولي لا يبرّر نفسه إلا بلذّته الداخلية.

ما أجملك وأنت تُصغي لما لا يُقال في السفر.. نعم، تلك اللذة الهادئة في الترقب، في انتظار ما لا نخطط له، في أن يحدث "الآتي" كما أرادت الصدفة أو الحكمة أو الحياة نفسها. حيث يصبح الترحال ليس الوجهة بل انتظارها. ليست اللذة في الوصول بل في تلك اللحظة المعلّقة حين نترقّب ما قد يحدث. نُراهن على المجهول، على الغريب، على الغفلة الجميلة وعلى تلك اللحظة التي تنحرف فيها الخطة فينشأ منها شعرٌ خالص. أحيانًا، ضياعك عن القطار هو ما يجعلك تلتقي من كنت تبحث عنه منذ سنوات. وأحيانًا، تأخرك في فندق باهت، يجعلك تكتب أفضل جملة في حياتك.

الآتي، في السفر، أجمل لأنه لا يشبه المتوقع. لأنه لا ينفّذ وصاياك بل يُدهشك، وما يُدهشك، يُربّيك على الانفتاح. حتى الانكسار يصبح أجمل لأنه يُربكك، يخلخل قناعاتك، ويقول لك: كنت تظن أن الحياة تُمنَح لمن يُحسن السيطرة؟ الحياة تُمنح لمن يُحسن الترقّب والسفر هو مدرسة الترقّب لا التخطيط. ديانة اللحظة لا عقيدة الهدف.