Saturday 20 September 2025
كتاب الرأي

ابعيصيص: الإنسانية أفق الانسان

ابعيصيص: الإنسانية أفق الانسان عبدالاله ابعيصيص
هل فعلا الامر كذلك؟ أم هو مجرد خطاب ولغو؟ وهل فعلا من يملك القوة يكتب التاريخ والضعاف يصنعون القيم؟
 
لاعترف بداية أن ما سأسطره الان يدخل ضمن لغة العاجزين. بدون مواربة ولا لغة فلين. الخطاب الإنساني خطاب المستضعفين العاجزين المنهزمين. من يطالب السلام هو من يعجز عن صنعه. ومن يطالب بالديمقراطية غير العاجز عن بلوغها. ومن يدبج خطابات حول المشترك الإنساني وحماية الأقليات غير الأقليات. من يجيد خطاب الضعف غير الضعاف.
ونحن، على الأقل أنا، من فئة الضعاف.
 
لطالما قيل إن الإنسانية هي الأفق الأعلى للإنسان كما قال أرسطو وكما أوردها التوحيدي في إحدى مقابساته الإنسانية افق والانسان متحرك إلى أفقه بالطبع"، وأنها القيمة المشتركة التي تسمح لنا بأن نتجاوز حدود الدين واللغة والجغرافيا. غير أن الوقائع اليومية تكشف هشاشة هذا الخطاب: فالحروب، الاستعمار، والعنصرية المعاصرة تجعل الإنسانية تبدو، في أحسن الأحوال، خطاباً للضعفاء، وفي أسوئها، غطاءً أيديولوجياً يخفي مصالح الأقوياء. وأن هذا الكائن المسمى إنسانا أقرب الى البهائم منه إلى شيء آخر. ولربما كان أبعد ..

ولعلّ فلسطين اليوم تقدّم المثال الأوضح: شعارات "حقوق الإنسان" تتهاوى أمام صمت العالم على المجازر، في حين يُترك الضحايا عُزلاً إلّا من لغتهم الإنسانية التي لا تجد صدى 
كلمات كانت أو صورا أو فيديوهات.
 
رأى فريدريك نيتشه أنّ القيم التي ترفع شعار الرحمة والتعاطف ليست سوى "أخلاق العبيد"، أي أخلاق أولئك الذين عجزوا عن ممارسة القوة، فحوّلوا ضعفهم إلى قيمة. وإذا طبقنا هذه الرؤية على كل مستضعفي الأرض اليوم وفي قلبهم قضايا العرب والمسلمين. (فلسطين كقضية محورية)، نجد أنّ الخطاب الإنساني الفلسطيني كثيراً ما يُقدَّم كصرخة أخلاقية في وجه آلة عسكرية لا تُقهر. وفق منظور نيتشه، هذا الخطاب لا يُغيّر موازين القوة، لكنه يكشف مفارقة: أن من يملك القوة يكتب التاريخ، بينما من يملك المعاناة يكتب القيم.
 
في المقابل، اقترحت علينا عقلانية كانط تصوراً مغايراً: الإنسان قيمة مطلقة، و"يجب أن يُعامل كغاية لا كوسيلة". هذا المبدأ، لو أُخذ بجدية، لأدان بلا مواربة كل أشكال الاستعمار والقتل الجماعي بل لواجهها بدل الاختفاء خلف تبريرات الاستراتيجيات والتوازنات. غير أن مأساة فلسطين تكشف أن المبدأ الكانطي يتحوّل في الواقع إلى مجرد شعار، إذ يتم انتهاكه يومياً بينما تُرفع لافتة "الكرامة الإنسانية" في المحافل الدولية. إنه يفضح الازدواجية المقيتة لجزء من الغرب. أقول جزءا ليقيني أن ما وراء البحر يعيش إنسان مقهور مثلنا تماما. أو حفاظا على قليل من النسبية في الخطاب. ميشيل فوكو نبّهنا إلى أنّ الخطاب الإنساني نفسه ليس بريئاً، بل قد يكون أداة للهيمنة. القوى الكبرى توظّف مفردات مثل "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" لتبرير التدخلات العسكرية أو لتسويغ الاحتلالات المقنّعة. فلسطين مثال حيّ:
 
 تُرفع شعارات "أمن الدولة" و"حق الدفاع" كخطاب إنساني مقلوب، يشرعن العنف بدل إدانته. لكن رغم هذا التوظيف السلطوي، يبقى للخطاب الإنساني إمكانية أن يُستعاد ويُوظَّف في خدمة التحرر، حين يتبناه المستضعفون كسلاح رمزي لمقاومة النسيان.
 
كامو العبثي ظل دائما يذكّرنا بأنّ الإنسان، حتى في مواجهة العبث واللاجدوى، يملك فعل التمرد. التمرد ليس انتصاراً بالضرورة، لكنه رفض للاستسلام. في الحالة الفلسطينية، يبدو التمسك بالإنسانية شكلاً من أشكال هذا التمرد: أن تظلّ تصرخ بكرامتك في عالم يصمّ أذنيه، هو رفض لأن يتحوّل الإنسان إلى مجرد رقم في إحصاءات الحرب.
 
تجربة فلسطين تكشف أن الإنسانية ليست واقعاً متحققاً، بل أفق هشّ يتعرض دائماً للخيانة. العالم الذي يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان يغضّ الطرف حين يتعلق الأمر بضحايا "خارج" معادلاته الاستراتيجية. هنا يتبدّى البعد المأساوي: الإنسانية، في بعدها العملي، قد تكون مجرد لغو، لكنها في بعدها الرمزي تبقى آخر ما يحمي الإنسان من السقوط في العدم. قد تكون الإنسانية خطاب الضعفاء، لكنها أيضاً ما يمنعنا من الانزلاق إلى التوحش الكامل. هي "الوهم الجميل" الذي يبقي للإنسان شيئاً من المعنى. وكما كتب إدوارد سعيد: "علينا أن نتشبث بالأمل، لا لأننا واثقون من الانتصار، بل لأننا نرفض الهزيمة كقدر."فحتى وإن عجز الخطاب الإنساني عن وقف المجازر، فإنه يترك أثراً في الذاكرة البشرية، يذكّر بأن ثمة قيمة أسمى من القوة، وأن الإنسان، مهما انكسر، يظل محتفظاً بكرامة لا تُمحى.