Wednesday 17 September 2025
مجتمع

يوسف حميتو: في دلالات الرسالة الملكية.. الزمن الرمزي وتجديد هندسة الشرعية والهوية والامتداد

يوسف حميتو: في دلالات الرسالة الملكية.. الزمن الرمزي وتجديد هندسة الشرعية والهوية والامتداد يوسف حميتو، وجانب من الاحتفاء بذكرى المولد النبوي
قال الدكتور يوسف حميتو، الأستاذ الجامعي، أنه في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية العميقة، تأتي الرسالة الملكية الموجهة إلى المجلس العلمي الأعلى لتعبر عن رؤية استراتيجية شاملة تتجاوز بُعد الاحتفاء الديني الضيق. 
وأضاف الدكتور احميتو في تصريح تحليلي خص به جريدة
"أنفاس بريس"، أن هذه الرسالة الملكية تحمل أبعاداً سيادية وهندسية للشرعية والهوية الوطنية، وتُعدّ خارطة طريق واضحة لترسيخ نموذج مغربي متين يُوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويحافظ على وحدة المجتمع ويرسخ إشعاع المملكة إقليمياً ودولياً..

 
 
 
 
 
في توقيت بالغ الرمزية، تأتي الرسالة الملكية الموجهة إلى المجلس العلمي الأعلى لتعلن عن مشروع استراتيجي يتجاوز مجرد إحياء ذكرى دينية. إنها بمثابة وثيقة سيادية مصممة بعناية لتكون بمثابة هندسة دقيقة للمجال الديني والروحي للمملكة، ورسم دقيق لحدود قوتها الناعمة. 

قراءة هذه الرسالة كخطاب احتفالي هي قراءة تختزل أبعادها الحقيقية، فالتحليل العميق يكشف عن طبقات من الرسائل المضمنة الموجهة بدقة، وعن رؤية بعيدة المدى لإعادة تأكيد النموذج المغربي كفاعل محوري في محيطه. إن قراءة ما وراء ألفاظ هذه الرسالة تكشف عن رؤيتها العميقة لعدد من القضايا المحورية من خلال ثلاث مستويات: 
* أولا: كيف تقدم الرسالة مؤسسة إمارة المؤمنين، وما هي الرؤية التي تحملها لوظيفتها المعاصرة؟ 
* ثانيا: كيف تهندس الرسالة "النموذج المغربي" ليصبح حصناً ضد تيارات الغلو الديني والعدمية العلمانية، وتيارات احتكار تفسير الدين؟ 
* ثالثا: كيف تحول الرسالة الدبلوماسية الروحية من مفهوم نظري إلى أداة استراتيجية فاعلة لترسيخ إشعاع المغرب في عمقه الإفريقي وامتداده الطبيعي؟ 
الإجابة على هذه الأسئلة تكشف عن الخيوط الخفية التي تربط بين التأسيس للسلطة، وهندسة الهوية الداخلية، وتوجيه الإشعاع الخارجي، لتقدم في النهاية قراءة متكاملة للرسالة الملكية كبيان استراتيجي لمشروع دولة.
 

أولا - إمارة المؤمنين: من الشرعية التاريخية إلى الشرعية الوظيفية الفاعلة
تقدم الرسالة الملكية مؤسسة إمارة المؤمنين بصفتها مركزاً فاعلاً للسلطة السيادية والروحية في الدولة. فالخطاب يؤسس قوته عبر ربط المقام السامي مباشرة بمسؤولية "حماية الدين"، وهو ما يظهر الشرعية بوصفها أمانة وظيفية تتطلب الأداء والإنجاز المستمر. هذه هي الرؤية التي تحملها الرسالة لوظيفة المؤسسة المعاصرة: أن تكون الضامن الفعلي لصحة المجال الديني وفاعليته. وهنا تبرز الرسالة الأولى المضمنة: الدولة، عبر أعلى مؤسساتها، هي المرجعية العليا والوحيدة المنوط بها تنظيم الشأن الديني، ورسم حدوده، وتوجيه مساره.
هذا الانتقال الاستراتيجي من "شرعية الأصل" إلى "شرعية الأداء" يتجسد في مفردات الرسالة التي تركز على الفعل: "الحرص"، "العناية"، "توفير الشروط". فهذه الأفعال تقدم القيادة كمسؤولية عملية، وتجعل من التوجيهات العشرة اللاحقة البرهان الملموس على الوفاء بهذا العهد. ومن خلال هذا الربط بين رعاية الدولة واستجابة المجتمع، يمكن قراءة رسالة مضمنة ثانية، تهدف إلى تأطير العلاقة بين المواطن والدولة ضمن عقد اجتماعي قائم على المسؤولية المتبادلة، حيث يُقدَّم الانخراط في المشروع الوطني كسبيل لتحقيق الصلاح المشترك.
وبهذا، يصبح التأسيس المرجعي للرسالة هو المنصة الصلبة التي ينطلق منها مشروع الدولة لهندسة هوية وطنية متماسكة ومحصنة. فكل محور من المحاور يصبح تجسيداً عملياً لكيفية ممارسة هذه الشرعية الوظيفية، مما يبعث برسالة ثالثة مفادها أن الدين في المنظور الرسمي للدولة هو مكون بنائي ووظيفي، يُوظَّف كعامل استقرار وتنمية ضمن مشروع الدولة الحديثة.
 
ثانيا- هندسة الهوية: استراتيجية التوازن المزدوج وتعميق الوعي الوطني
تنتقل الرسالة الملكية من تأسيس الشرعية إلى توظيفها في عملية هندسة مجتمعية واسعة النطاق، حيث يُقدَّم "النموذج المغربي" أداة استراتيجية لتشكيل الوعي الوطني. وهنا تتجلى قوة الرسائل المضمنة في فعلين استراتيجيين:
1- تحقيق توازن ثلاثي الأبعاد:
لا تتعامل الرسالة الملكية مع تحدٍ واحد، بل تعمل على تحقيق توازن دقيق تجاه ثلاث توجهات:
- دعوات التشدد: عبر تبني الدولة الكامل للتراث الروحي والاحتفاء به، من أجل إغناء الساحة الروحية بنموذج أصيل وجذاب. فالدولة تقدم بديلاً روحياً ووجدانياً متجذراً في تاريخ الأمة، مما يوفر إطاراً للتدين قائم على المحبة والجمال، ويحصن المجتمع بشكل طبيعي ضد الخطابات المنغلقة. إنها استراتيجية تحقيق الهيمنة الفكرية عبر الإشباع والإقناع.
- دعوات الانبتات العقدي والروحي والثقافي والقطيعة الحادة مع كل موروث: فعبر ربط الدين بقيم عصرية والدعوة لـ"أسلوب يناسب العصر"، تقوم الرسالة بتقديم رؤية لحداثة مؤصلة. إنها تؤكد أن الأصالة ليست نقيضاً للمعاصرة، وبذلك تحتضن تطلعات الشباب نحو المستقبل وتقدم له هوية متينة تجمع بين الأمرين، وتحميه من الشعور بالفراغ الروحي أو الاغتراب الثقافي.
- المشاريع المستوردة: هذا هو البعد الأكثر حسماً في بنية الرسالة، حيث تنتقل من مجرد الدفاع عن الهوية إلى الهجوم الاستراتيجي الهادئ، الذي يهدف إلى إرساء سيادة معرفية كاملة وغير قابلة للمنازعة، فالهدف هنا ليس فقط تحصين الحدود، بل تفكيك شرعية أي مشروع منافس قبل أن يتشكل. يتم تحقيق هذا الهدف عبر آليتين متكاملتين تعملان كالكماشة:
أ- آلية التجذير المعرفي: الأمر بإعادة نشر "كنوز التراث المغربي" حصراً هو فعل سيادي عنيف في هدوئه. إنه ليس مجرد احتفاء ثقافي، بل هو إعلان عن إغلاق السوق المعرفي الديني أمام أي بضاعة فكرية أجنبية يراد لها أن تكون بديلا للموروث الحضاري في تأطير الواقع. هنا رسالة لا تحتاج تصريحا، هي أن "المكتبة المغربية" بأعلامها ورموزها، من القاضي عياض إلى الجزولي هي الخيار الشرعي الوحيد، وهذا الفعل الاستراتيجي لا يقطع الطريق أمام المرجعيات الخارجية فحسب، بل يجردها استباقياً من أي أصالة أو ضرورة متصورة. 

ب- آلية المركزية المؤسسية: إذا كانت الآلية الأولى تسيطر على "المعرفة"، فإن هذه الآلية تسيطر على "الفعل". عبر حصر كل الممارسات الدينية في فلك "إمارة المؤمنين" ومؤسساتها، يتم تأكيد الدور المحوري للدولة كفاعل مرجعي، ومانح للشرعية في المجال الديني.  إن هذه الآلية لا تهدف فقط إلى ضبط المشاريع العقدية العابرة للحدود، بل تهدف أيضا إلى تفكيك أي محاولة لتسييس الدين خارج إطار الدولة. فبتقديمها لنموذج ديني شامل يغطي كل جوانب الحياة (علم، روح، أخلاق، فن، وطنية)، تجعل الدولة أي خطاب ديني آخر يبدو بالضرورة خطاباً ناقصاً، جزئياً، وحزبياً. إنه يجرده من ادعائه تمثيل "الإسلام الشامل"، ويحصره في خانة "المشروع السياسي الضيق" الذي يسعى لمنازعة الدولة في شرعيتها التاريخية والوظيفية.
 

2- "تعميق وترميم وتأميم الذاكرة الوطنية: الرسالة لا تكتفي بتقديم نموذج ديني، بل تدمجه عضوياً في السردية الوطنية الكبرى. فعندما تربط "دلائل الخيرات" بـ"جهاد تحرير الأراضي المحتلة"، فإنها تعيد إبراز البعد الوطني في الذاكرة الروحية، وتظهر كيف كانت الروحانية دائماً محركاً للسيادة والصمود. هذه العملية تحول التراث الديني من ممارسة فردية إلى رأسمال وطني جماعي، وتجعل من الاعتزاز به اعتزازاً بتاريخ الوطن نفسه.
 
ثالثا- الإشعاع الخارجي: الدبلوماسية الروحية كفعل سيادي أصيل
بعد إحكام بناء النموذج الوطني وتحصينه داخلياً، تتجه الرسالة الملكية نحو الخارج، ليس لتقديم تنازلات أو البحث عن شرعية خارجية، بل لممارسة فعل سيادي أصيل قوامه الدبلوماسية الروحية. هذا الفعل لا ينطلق من رد فعل تجاه الآخرين، بل من إدراك عميق لمسؤوليتين تاريخيتين متجذرتين:
أ- امتداد الأمانة: سيادة روحية عابرة للحدود: التوجيه الخاص بمغاربة العالم هو تجسيد لمبدأ أن سيادة إمارة المؤمنين هي سيادة روحية لا تحدها الجغرافيا المادية. إنه فعل رعاية يهدف إلى الحفاظ على الوحدة الروحية للأمة المغربية، وتوفير إطار هوياتي يحصن أبناءها في الخارج. هذا الامتداد يحمل أبعاداً استراتيجية متعددة: 
- البعد الهوياتي: هو يوفر للمهاجرين، وخاصة الأجيال الجديدة، إطاراً دينياً معتدلاً ومألوفاً، مما يحميهم من الوقوع في براثن خطابات التطرف الأجنبية أو الذوبان في فراغ ثقافي قد يؤدي إلى الاغتراب. 
- البعد السيادي: هو تأكيد على أن الدولة المغربية لا تتخلى عن مسؤوليتها تجاه أي من رعاياها، وأنها قادرة على توفير الإرشاد الروحي لهم أينما كانوا. هذه رسالة مضمنة بأن المغرب فاعل ديني منظم ومسؤول، يمتلك القدرة على تأطير جالياته بنفسه، مما يجعله شريكاً موثوقاً في إدارة الشأن الديني على الساحة الدولية. 
 

ب- وصل الرحم التاريخي وتمكين الدور الحضاري في إفريقيا: الإشارة إلى "مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة" هي التعبير الأوضح عن الوفاء بالعهد التاريخي الذي يجمع المغرب بإفريقيا. فالرسالة لا تقدم المغرب كمصدر لنموذج جديد يتم تصديره، بل كمركز لإرث روحي وحضاري مشترك وقديم، يرتكز على ثوابت مشتركة (المذهب المالكي، العقيدة الأشعرية، التصوف) ترسخت بين المغرب وعمقه الإفريقي عبر قرون من التبادل العلمي والروحي والتجاري. الدبلوماسية الروحية اليوم هي مجرد تفعيل معاصر لهذا الإرث. هذا من جهة البعد التاريخي، ومن جهة ثانية، يحضر البعد الجيوسياسي الذي يذكر بأن نفوذ المغرب في إفريقيا ليس نفوذاً سياسياً طارئاً أو اقتصادياً بحتاً، بل هو نفوذ قائم على القبول والاحترام المتبادل والمصالح الروحية المشتركة، مما يمنحه شرعية واستدامة تتجاوز أي تنافس سياسي ظرفي.
 

خاتمة:
في نهاية هذه القراءة التحليلية، تتجلى الرسالة الملكية وثيقة استراتيجية متكاملة، تتجاوز المناسبة الظرفية لترسم ملامح مشروع سيادي بعيد المدى. فالتحليل يكشف عن بنية محكمة تنتقل بسلاسة من التأسيس النظري للسلطة إلى تطبيقاتها العملية في الداخل والخارج. فهي تنطلق من تأسيس مرجعي يعيد تعريف "إمارة المؤمنين" كشرعية وظيفية فاعلة، تضع الدولة في قلب المجال الديني كراعٍ وموجه. ثم تترجم هذه الشرعية إلى هندسة دقيقة للهوية الوطنية عبر استراتيجية توازن ثلاثية الأبعاد، تحصن المجتمع ضد دعوات التشدد والانبتات الثقافي والمشاريع الأيديولوجية. وأخيراً، يتوج هذا البناء الداخلي المحكم بإشعاع خارجي هادئ، يمارس الدبلوماسية الروحية كفعل سيادي أصيل تجاه أبناء الوطن في الخارج والعمق الإفريقي. بهذا الامتداد الخارجي، يكتمل المشروع الذي ترسمه الرسالة، ليبرز "النموذج المغربي" كيانا حيويا، متماسكا في الداخل، ومؤثرا في الخارج، انطلاقاً من رؤية سيادية مستقلة ومسؤولية حضارية عميقة.