أوضح عبد الرزاق الهيري، أستاذ الاقتصاد بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس، رهانات وأولويات مشروع قانون مالية 2026. واعتبر أن هذه الأولويات، وإن كانت مشابهة لما تضمنته قوانين المالية السابقة، فإنها تبرز بشكل أوضح البعد المتعلق بمحاربة الفوارق المجالية، تنزيلا للتعليمات الملكية في خطاب العرش لسنة 2025.
وأكد الهيري، في حوار مع "أنفاس بريس" أن نجاح هذا الورش مرتبط بتفعيل جيل جديد من البرامج الترابية، عبر تعزيز صلاحيات وقدرات التدبير لدى الجهات، التي لم تنجح بعد في الاضطلاع بدورها الكامل في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وذلك بسبب إكراهات مالية وبشرية متعددة.
وأكد الهيري، في حوار مع "أنفاس بريس" أن نجاح هذا الورش مرتبط بتفعيل جيل جديد من البرامج الترابية، عبر تعزيز صلاحيات وقدرات التدبير لدى الجهات، التي لم تنجح بعد في الاضطلاع بدورها الكامل في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وذلك بسبب إكراهات مالية وبشرية متعددة.
بداية، ماهي قراءتك للمراسلة التي وجهها رئيس الحكومة إلى الوزراء بخصوص إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2026؟
يرتكز مشروع قانون مالية 2026، حسب منشور رئيس الحكومة، على أربع أولويات: أولاً، توطيد المكتسبات الاقتصادية من أجل تعزيز مكانة المغرب ضمن الدول الصاعدة. ثانياً، تأهيل شامل للمجالات الترابية وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وفق مقاربة للتنمية المجالية المندمجة. ثالثاً، مواصلة تكريس ركائز الدولة الاجتماعية. ورابعاً، المضي في الإصلاحات الهيكلية الكبرى مع الحفاظ على توازنات المالية العمومية.
أول ملاحظة يمكن تسجيلها هي أن هذه الأولويات تشبه إلى حد كبير تلك التي سطرت في مشاريع القوانين المالية السابقة، باستثناء إبراز البعد المتعلق بتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، وهو ما يعكس التعليمات الملكية التي تضمنها خطاب العرش لسنة 2025. صحيح أن موضوع الفوارق المجالية كان مطروحاً في القوانين السابقة، لكنه لم يظهر بوضوح كأولوية ضمن التوجهات الرئيسية لقوانين المالية.
يطرح مشروع قانون مالية 2026 مجموعة من الرهانات التي يجب أخذها بعين الاعتبار، وعلى رأسها الرهان الاقتصادي عبر الاستمرار في تحفيز الاستثمار الخاص والرفع من تنافسية المقاولة المغربية، لما لها من دور محوري في خلق النمو والثروة وفرص الشغل. كما يبرز دعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع الابتكار باعتباره ركيزة أساسية لتعزيز التنافسية.
أما الرهان الاجتماعي، فيتجلى في إنجاح ورش تعميم التغطية الاجتماعية عبر إجراءات تشمل الدعم المباشر، التغطية الصحية، التقاعد، وغيرها. ويوازيه العمل على تحسين جودة الخدمات العمومية، خاصة في التعليم والصحة.
الرهان الثالث يتمثل في الجانب المالي، حيث يشدد المشروع على ضرورة احترام التوازنات الماكرو اقتصادية، عبر تقليص عجز الميزانية إلى حدود 3% من الناتج الداخلي الخام، والتحكم في المديونية.
أما الرهان الرابع فهو المجالي، ويخص تقليص التفاوتات بين الجهات في توزيع الاستثمارات العمومية والبنيات التحتية والخدمات الاجتماعية، وذلك من خلال تمكين الجهات من موارد إضافية في إطار الجهوية المتقدمة.
هذه الرهانات تضع الحكومة أمام تحدٍّ كبير: كيفية التوفيق بين الانضباط المالي المتمثل في التحكم في العجز والمديونية، وبين توسيع نطاق الدولة الاجتماعية عبر تعميم الحماية الاجتماعية وتحسين الخدمات العمومية، وهو ورش ضخم يتطلب إنفاقاً متزايداً. السؤال إذن: هل يمكن تمويل هذه الالتزامات من خلال توسيع الموارد أو رفع الضغط الضريبي، مع ما قد يترتب عن ذلك من أثر سلبي على الاقتصاد؟ أم أن الحل يكمن في تحسين نجاعة الجبايات وترشيد النفقات العمومية؟
إلى جانب ذلك، يراهن المشروع على مضاعفة الاستثمار الخاص ليبلغ ثلثي مجموع الاستثمارات في أفق 2035، كما نص على ذلك النموذج التنموي الجديد. غير أن ذلك يطرح تساؤلات حول مدى ملاءمة مناخ الأعمال لهذا الطموح، وقدرة القطاع الخاص على قيادة الاستثمار في ظل ظرفية اقتصادية دولية تتسم بعدم اليقين.
في المجمل، يعد مشروع قانون مالية 2026 مشروعاً طموحاً، يستند إلى أولويات استراتيجية واضحة، غير أن التحدي الأهم يبقى في القدرة على تحقيق وتنزيل الأهداف المرسومة.
استحضرت المراسلة مضامين الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 26 لعيد العرش، إطلاق جيل جديد من البرامج الترابية، وتكريس الجهوية المتقدمة، مارأيك حول كيفية تفعيل هذه البرامج؟
بعد الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، الذي دعا فيه الملك إلى إطلاق جيل جديد من البرامج الترابية وإنجاح ورش الجهوية المتقدمة، جاء منشور رئيس الحكومة الموجّه إلى الوزراء والمسؤولين على الصعيد المالي بخصوص إعداد مشروع قانون مالية 2026. وقد أكد هذا المنشور على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الجيل الجديد من البرامج الترابية.
السؤال المطروح هنا هو: ما الطريقة المثلى لتفعيل هذه البرامج بعد صياغتها، وكيف يمكن ترجمتها على أرض الواقع حتى نتجاوز مرحلة الخطاب ونمر إلى مرحلة الإنجاز؟ إن تقليص الفوارق المجالية عن طريق إطلاق جيل جديد من البرامج الترابية يتطلب رصد اعتمادات مالية مستقرة لصالح الجهات، في إطار برامج متعددة السنوات. كما يستلزم تفعيل مجموعة من الصناديق لتكون أداة فعالة في تمويل هذه المبادرات.
غير أن نجاح هذا الورش يتطلب أيضاً تعزيز صلاحيات ومهارات وقدرات التدبير لدى الجهات، التي لم تنجح بعد في الاضطلاع بدورها الكامل في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، بسبب إكراهات مالية وبشرية متعددة. وبالتالي، فإن التفعيل الفعلي لهذه البرامج ينبغي أن يرتكز على مستويين أساسيين:
أولاً، تنزيل ميثاق اللاتمركز بشكل فعلي عبر تحويل الاختصاصات من القطاعات الوزارية إلى الجهات، مع ما يتطلبه ذلك من تفكير معمق وتدبير علمي لضمان نتائج منسجمة مع الأهداف المسطرة، إلى جانب تكوين وتأهيل أطر المجالس الجهوية لتمكينها من إعداد وتدبير مشاريع التنمية الجهوية.
ثانياً، اعتماد المقاربة التشاركية التي تنطلق من التشخيصات المنجزة من طرف الجهات منذ دخول القوانين التنظيمية للجامعات الترابية، وذلك لتحديد الحاجيات الحقيقية لكل جهة في مجالات التشغيل، التعليم، والبنيات التحتية.
كما أن إشراك الجماعات المحلية، الغرف المهنية، وجمعيات المجتمع المدني يعد أمراً ضرورياً لضمان التطابق بين البرامج وحاجيات الساكنة، بما يضمن نتائج أكثر واقعية ونجاعة. غير أن هذه المقاربة التشاركية يجب أن تقترن بآليات الحكامة والتتبع، عبر تقييم دوري ومستقل لهذه البرامج بالاعتماد على مؤشرات دقيقة لقياس الأثر، مثل نسب التمدرس، جودة الخدمات العمومية، تعميم الماء والكهرباء، ومعدلات البطالة على المستوى الجهوي.
إلى جانب ذلك، يبقى من اللازم إرساء وسائل تمويل مبتكرة ومستدامة، من خلال تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، واللجوء إلى قروض ميسرة موجهة للمشاريع الكبرى في مجالات البنية التحتية والطاقات المتجددة وغيرها، مع ضمان التنسيق مع السلطات النقدية المعنية.
إن نجاح هذا الجيل الجديد من البرامج الترابية رهين بإشراك جميع المتدخلين والتفكير بعمق في المشاريع التي تستجيب لأولويات التنمية على المستوى الجهوي، بما يجعلها رافعة حقيقية لتقليص التفاوتات المجالية.
في آخر سنة من الولاية الحكومية، ما هي في نظرك الأولويات المطروحة للاستجابة للرهانات الاقتصادية والاجتماعية؟
نحن في آخر السنة من الولاية الحكومية الحالية، وهذا هو آخر قانون مالية تعدّه هذه الحكومة. يتضمن هذا القانون أولويات يجب أن تستجيب للرهانات الاقتصادية والاجتماعية التي سبق ذكرها، لكن لا ينبغي أن ننسى أن هذه الحكومة، في إطار برنامجها الذي قدمته سنة 2021، التزمت خلال فترة 2021-2026 بعشرة التزامات أساسية.
أولا، هذه الالتزامات هو رفع مؤشرات النمو وخلق ما لا يقل عن مليون منصب شغل خلال السنوات الخمس. كما تعهّدت الحكومة برفع نسبة نشاط النساء إلى أكثر من 30% بدل 20% سنة 2021، وتفعيل الحماية الاجتماعية الشاملة. إضافة إلى ذلك، التزمت بإخراج مليون أسرة من الفقر والهشاشة، وحماية وتوسيع الطبقة الوسطى، مع توفير شروط اجتماعية واقتصادية لظهور طبقة فلاحية متوسطة في العالم القروي.
كما تعهدت الحكومة بتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية إلى أقل من 39% عوض 46.4% حسب مؤشر "جيني" لسنة 2021.
ومن بين الالتزامات أيضاً تعبئة المنظومة التربوية حتى يصنَّف المغرب ضمن أفضل 60 دولة عالمياً، بدل المراتب المتأخرة في اختبارات التقييم الدولية. كذلك شملت الالتزامات تعميم التعليم الأولي لفائدة جميع الأطفال ابتداءً من سن الرابعة، مع ضمان جودة فعالة ودائمة. أما الالتزام العاشر فيتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية من خلال إحداث صندوق خاص وضخ ميزانية تصل إلى مليار درهم بحلول سنة 2050.
هذا التذكير بالالتزامات ضروري لأنه يشكّل أرضية خصبة لتقييم حصيلة العمل الحكومي خلال الخمس سنوات، وللتأكد من مدى استجابة الحكومة للرهانات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة.
الاستجابة لهذه الرهانات تتطلب إعطاء الأولوية للتحفيز الاقتصادي عبر تشجيع الاستثمار الخاص، وذلك من خلال التفعيل الفعّال لميثاق الاستثمار الجديد والإصلاحات المبرمجة في مناخ الأعمال، إلى جانب محاربة الفساد وهدر المال العام. كما أن دعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة يظل أولوية قصوى، باعتبارها الفاعل الرئيسي في خلق الثروة وتوفير النمو الاقتصادي ومناصب الشغل.
ومن بين الأولويات الاقتصادية أيضاً تنويع الاقتصاد الوطني عبر تسريع الانتقال الطاقي، وتوجيه الاستثمارات نحو الصناعات الخضراء، الطاقات المتجددة، والهيدروجين الأخضر، بما يجعل المغرب مجالاً جاذباً للاستثمارات الوطنية والدولية. ويضاف إلى ذلك تسريع وتيرة إنجاز الاستثمارات العمومية، خصوصاً في مجالات البنيات التحتية من طرق وموانئ وسكك حديدية، إلى جانب الاستثمار في قطاع الماء باعتباره رهانا استراتيجياً لمستقبل الاقتصاد الوطني.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن تسريع ورش الدولة الاجتماعية يظل أولوية، لكن ذلك يتطلب ضمان استدامة مالية قادرة على تمويل هذا الورش الضخم. وهنا تبرز أهمية الإصلاح الجبائي وإرساء العدالة الضريبية.
في قطاع التربية والتكوين، تبرز الحاجة إلى تحسين البنيات التحتية المدرسية، خاصة في العالم القروي، وتجويد ظروف عمل المدرسين، وتعزيز جودة التكوين. أما في قطاع الصحة، فيتطلب الأمر استثمارات كبيرة في الموارد البشرية والمعدات الطبية، فضلاً عن تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص لتخفيف الضغط على المستشفيات العمومية. كما أن معالجة بطالة حاملي الشهادات من الشباب تظل من أهم الأولويات الاجتماعية، الأمر الذي يقتضي رؤية واقعية واستثماراً أمثل للإمكانات التي تتوفر عليها المملكة.
وفي خضم هذه الأوراش، يبقى ضرورياً الحفاظ على التوازنات الماكرو-اقتصادية، مع ضمان هامش للإنفاق الاجتماعي والاستثماري. ومن ثَمَّ، يصبح لزاماً تعزيز ثقة المواطنين في الاقتصاد الوطني من خلال إجراءات اجتماعية ملموسة، والبدء في جيل جديد من البرامج الترابية لتقليص التفاوتات المجالية، إلى جانب تعزيز ثقة المقاولات عبر توفير مناخ أعمال تنافسي، وتقوية ثقة المؤسسات المالية الدولية عبر الانضباط المالي وضبط عجز الميزانية والتحكم في المديونية.
كل هذه التحديات تجعل من مواصلة الإصلاحات المؤسساتية مسألة ضرورية، قد تكون صعبة، لكنها تظل الطريق الوحيد نحو مستقبل أفضل للمغرب.