1- بادئ ذي بدأ؛ رحم الله العارف بالله سيدي جمال بن العارف بالله سيدي حمزة بن العارف بالله سيدي العباس رضي الله عنهم أجميع..
2- دعوني أصارحكم بأحد أشد الإكراهات سطوة على المثقف اليوم؛ وهو اكراه العقلانية المادية الاحادية الاختزالية؛ المستهزئة بكل ماهو روحي و معنوي..
فلكي تكون عقلانيا معترفا بك في "ناديهم"؛ عليك أن تتستر وراء الكثير من النفاق والحدلقة اللغوية الافرنجية ضدا على استقلاليتك وابداعيتك وخصوصيتك وهويتك ..وفوق هذا كشوفاتك وفتوحاتك؛ كن ضد وجودك وحضورك لتبدو عقلانيا عندهم ..
هذا الذوبان في الغير وفقدان الحرية الذاتية يعتبره أهل التصوف المدخل الأكبر للشرك .. فحرر نفسك من رؤية الغير والأغيار اولا لتجد نفسك؛ وبها ستجد ربك..
سوف أصارحكم من الآن؛ "لست عقلانيا" تحت هذا السقف.. بل إنني "عقلاني" ؛ عقلانية فوق العقلانية المجردة ..وبتعبير الفيلسوف طه عبد الرحمان عقلاني بعقلانية مؤيدة!!
فأنا (حبيت على الأرض على ركابيا//
وقريت لي قريت بحال قراني.) بتعبير جيل جيلالة في رائعتهم " يادوك اللايمين"..
3- دخلت ثانوية محمد الخامس بمدينة طانطان سنة 1989.. وكنت نشيطا في الأندية الثقافية و إلقاء المحاضرات..وسنة 1991 قدت المظاهرة المشهورة تنديدا بالغزو الأمريكي للعراق ، وضرب ملجأ العامرية..
لقد اعتقلت بعد المظاهرة مباشرة .. كانت دماء الشباب الساخنة تجري في عروقي ..
طموح و افكار حالمة و اشواق لاسقف لها .. وتوثب لا يحسب للعواقب حسابا..
لكن كان "يلطف" من هذا الحماس جلسات هادئة يعقدها الحاج عمر العلمي رحمه الله ( صهري في ما بعد) في بيته بحي المسيرة ؛ "كل ليلة سبت" ..
إنه ليلة فقراء الزاوية البودشيشية.. تتضمن تلاوات قرآنية و امداح نبوية بأصوات شجية ؛ و مواعظ حول أخلاق سيدنا رسول الله ؛ ورقائق تذكر بسير وقصص الصالحين..
ويعطر الجلسات بخور ينعش الروح.. ومالذ من الطيبات خاصة انواع السمك الطري؛ فقد كان ميناء طانطان مصنفا آنذاك الاول عالميا ؛ صيدا و تصنيعا؛ خاصة نوع السردين..
كنت ادخل الجلسة الصوفية وأخرج منها كأنني ولدت من جديد..لا أحد يسألك عن سبب حضورك !!..كان الباب مفتوحا للجميع : هذا معلم ،وهذا مدير ،و هذا تاجر، وهذا نجار ،وهذا بقال ،و هذا عاطل عن العمل..
لم أعرف الا بعد شهور ؛ بأن الشيخ الوقور الذي يسير جلسة الذكر ، هو "سيدي مولاي اسعيد" مقدم الزاوية البودشيشية بأكادير.. كان رجلا ربانيا مستغرقا في الذكر ؛ اذا رؤي ذكر الله..كثير التصدق ..دائم التبسم..
أخبر بانني تلميذ نشيط وإمام للتلاميذ بالثانوية؛ و أجيد إلقاء الدروس ؛ فقربني وطلب مني يوما ان اجلس بجواره؛ ثم اذن لي بالقاء درس في تلك الليلة..
بعدها مدحني و أثنى على درسي و اخرج من جيبه سبحة جميلة وقال لي: ( أذكر بها الله؛ أكثر من لاإلاه إلا الله؛ بعد صلاة الفجر؛ وبعد صلاة المغرب.. وسوف ترى عجبا !!).. لم أحمل كلامه على محمل الجد..فقد كان عقلانية الرأس مهيمن على عقلانية الروح والقلب !!
4 - التحقت بجامعة ابن زهر ؛ وكان مقر الزاوية محاديا لصور الجامعة..كنت مناضلا شرسا داخل الحرم الجامعي.. عند تقديم اللائحة المطلبية لعمادة الكلية اكون في مقدمة المفاوضين.. و قد أعقد "حلقة جماهيرية" لمناقشة قضية فكرية "كالعولمة" او " مستقبل التعليم" فأتناول الكلمة بالساعات : اسرد و اشرح و احاجج..كنا نتمتع بطاقة جدلية خارقة.. وكان تخصصي الثقافي بعد تخصصي في الدراسات الإسلامية هو القضية الفلسطينية ؛ كنت مولعا بمتابعة كل ما يكتب عن فلسطين؛ أعرف تاريخها من فترة ما قبل التاريخ؛ و أهضم القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن بخيثياتها وخلفيات صدورها؛ بل كنت احفظ منطوق بعض القرارات بصيغتيها العربية والإنجليزية ..كان الجدال مع اليسار : هل هي قضية دينية أن قضية اقتصادية ؟؟.. التقيت في حفل الاستقبال الملكي بالمضيق هذه السنة أحد أشرس خصومي في الجامعة عن التيار اليساري الاستاذ محمد شهيد برلماني عن الفريق الاشتراكي اليوم..من النظرة الأولى عرفني و عرفته..استرجعها ذكريات الخصوبة الايديولوجية..ضحكنا على بعض من طفولتنا الطلابية في الجامعة ؛ التي منها : أننا نحن الطلبة هم مركز الكون؛ و أنبياء التغيير ؛ و القادرون على صناعة التنمية و التقدم في مؤتمر واحد لأوطيم !!
لكني أشهد أن الاستاذ شهيد كان مثقفة متوازنا ؛ متخلقا؛ يغلبه الحياء أثناء المناقشات الطلابية؛ وكان من دعاة الحوار ونبذ العنف في الجامعة.. وقد تأكد لي من خلال جلستي الأخيرة معه بأنه ينتمي لأسرة مسقية بأخلاق التصوف وتقدير أهل الله من الفقهاء و الأولياء..
الحمد لله على نعمة إمارة المؤمنين التي تجعل السقف الايديولوجية تنتعش تحت السقف الجامع سقف التوابث الوطنية وعلى رأسها السلطان و الإسلام و أخلاق التصوف و المصلحة العليا للوطن..
5 - كنت بعد تعب المجادلات الطلابية؛ و المعادلات الايديولوجية التي لا تنتهي؛ اقابل الشيخ سيدي مولاي اسعيد في زاوية حي الداخلة؛ يقابلني بابتسامته المعهودة؛ فانحشر وسط جمهور الذاكرين ..فأحس بهاتف باطني يهمس بي :" الطريق الجدالي و الصدامي الذي تسلكه لن يوصلك الى الله !!..
لم يكن سيدي مولاي اسعيد يصرح لي بذلك..فقد كان كلامه عسل وسمن مصفى.. و لكن ككل العارفين بالله؛ كان حديثه إشارات مرموزة يلفها الغموض كمن يهديك الماسة داخل "صدفة" محكمة الإغلاق..
غموض يقول المتصوفة؛ أنه "لا ينجلي" لك إلا بكثرة ذكر الله..
ملازمتك ذكر الله هو الذي تجاهد به "انت" جهالات نفسك..
لا أحد يقوم مقامك ..هو جهادك أنت ..هي رياضتك انت .. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه.. هذه رموز روحية لا يفك أسرارها إلا مدد من الله ؛ ومدد الله يكون بالواردات الرحمانية .. و الوارد لا يكون إلا بالورد .. و الورد هو السبحة وهو مكان الشرب .. فاسق لنفسك ..
كنت أعجب من صنيع فقراء الزاوية بحي الداخلة باكادير ؛ لا يردون سائلا..مطبخ الزاوية يشتغل على مدار اليوم..
هذا فقير ،و هذه ارملة ،و هذا عابر سبيل ،وهذا طالب علم.. من طلب الطعام اطعم .. ومن شاء المبيت استقبل.. ومن سأل المساعدة أعطي ..كنت مدهولا من طاقة التحمل التي يتمتع بها الشيخ سيدي مولاي اسعيد..
في إحدى الليالي نادى علي؛ وطلب مني أن أقصد مقر الزاوية بلباس عصري وليس تقليدي !!؛
ارتديت بدلتي على عجل و التحقت به ؛ وجدت موكبا من السيارات أمام باب الزاوية: فرقة السماع و المديح ؛و بعض الاساتذة والاطر؛ ركبت سيارته مسرعا؛ وانطلق الموكب في شوارع أكادير.. لنجد أنفسنا داحل باحة فندق فسيح و يبدو أنه من نجوم كثيرة ..دخلنا قاعة جميلة مكشوفة السقف.. مزينة بالشموع؛ يجلس إلى مواردها عدد من الأجانب ذكوريا واناثا.. علمت بعد مدة ؛ بأنه حفل لجمع التبرعات لمؤسسة خيرية في (اولاد تايمة) ..
ألقيت كلمة حول المحبة كانت بالقرب مني فتاة مترجمة إلى اللغة الانجليزية..
تمتع الحضور بوصلات صوفية ومديح نبوي رائع ..كان مقدم الحفل صحفي من قناة تلفزية وطنية على ما اذكر.. بدأت أفهم بعضا من مجالات عمل اهل التصوف؛ إنهم يرفعون ذكر الله و الصلاة على رسول الله في كل مجمع ومكان ..وهي إحدى مميزات العمل الديني في الزاوية البودشيشية..
6 - اقتربت ذكرى المولد النبوي ( 12 ربيع الثاني) وهو المناسبة التي يحييها الفقراء في الزاوية (الام بمنطقة مداغ) قرب مدينة بركان..
اعدت العدة واستقلينا الحافلة.. في الحقيقة هي رحلة سياحية اكثر منها سفر عادي.. فالرحلة تؤطرها لجان متعددة؛ لجنة التنظيم، ولجنة الطبخ، ولجنة الخدمات، ولجنة الامداح، و لجنة النظافة..فكلما بدا منظر طبيعي جميل توقفت الحافلة و بسطت الافرشة وهيأت القدور.. وتحلق الفقراء حول موائد الشاي و صدحت الحناجر بذكر الله و أمداح سيدنا رسول الله..
فخلال ايام الرحلة يتعلم الفقير وبيننا عدد كبير من التلاميذ و الطلبة؛ يتعلم ( يوما نموذجيا من حياة رسول الله) : ذكر مستمر ؛و صلاة خمس في الوقت؛ و تخلق بالرحمة و التعاون والصبر..والتدرب على العطاء وخدمة الآخرين..
7 - كانت زيارتي الأولى لمقر الزاوية سنة 2006..بعد حصولي مباشرة على دبلوم الدرايات المعمقة في الأديان المقارنة ..
دخلت الزاوية وهي بنايات متراصة على أرض فلاحية خضراء واسعة.. دخلنا على الشيخ العارف بالله سيدي حمزة رحمه الله .. وجدت عشرات العلماء من كل الجنسيات ..كل دول الارض هنا .. من الولايات المتحدة و اروبا و دول اسيا..
عقدنا لقاءات فكرية مطبوعة بطابع التصوف؛ و جوهره التواضع وعدم الادعاء.. لا أحد يدعي إنه يملك حلا اجتماعيا او اقتصاديا لآلام الناس.. و لكن الشيخ يذكر بالله..و ينبه على ملازمة الذكر و إصلاح الباطن ؛ فبصلاح الباطن تصلح الاخلاق.. فالانسان لا يصلح الا بالتربية الروحية؛ فتبارك الله في العلم والجسم ؛ ويلهم الإنسان من الانوار والاسرار و الهداية ما لا يخطر له على بال .. فيكون المصلح الاجتماعي و السياسي والاقتصادي ربانيا يرى بنور الله و يتكلم بنور الله .. ف يوفقه الله في مسعاه .. فأنزل الله سكينه عليه وأيده بجنود لم تروها..
8 - قابلت هناك عند الشيخ سيدي حمزة الخبير الفيتنامي طاوشان وهو خبير دولي في رسم الاستراتيجيات العالمية..
وقابلت سيدي احمد العبادي الأمين العام للرابط المحمدية للعلماء؛ الذي مددت يدي لاصافحه فسارع الى تقبيلها.. أناس تذوب نفسك خجلا أمام سمو اخلاقهم..
في ليلة باردة من ليالي المولد النبوي أذن لنا بزيارة سيدي حمزة رحمه الله؛ كانت زيارة خاصة جدا ..
أذكر أنها كانت عند منتصف الليل..
كان برفقتي أفراد من أسرة بوعيدة العريقة في الصحراء عمر بوعيدة ؛ و امباركة بوعيدة ؛ و عبد الحميد بوعيدة؛ و رافقنا مقدم الزاوية بكلميم الصديق الخضير ميتو..
أذكر اننا دخلنا غرفة بسيطة مؤثثة بالمصاحف والسبح؛ سيدي حمزة قليل الكلام؛ ولكنه ينطق بكلمات محسوبة يكررها على مسمعك لاعبها أذن واعية؛ يسألك عن أحوالك و عن أسرتك؛ ثم يلقي لكل نصيحة تدور حول مجاهدة النفس وإصلاح السرائر.. أصدلكم القول : منذ تلك الجلسة ؛ أصبحت أعي أن هناك (ماقبل ومابعد) في نظرتي الباطنية للحياة؛ وهذا هو القدر الذي يمكنني الخوض فيه !!
أذكر أن سيدي حمزة بعد أن ذكرنا بأهمية الإكثار من قول لاالاه الا الله.. وجه كلامه الى سيدي عمر بوعيدة رحمه الله؛ و قال كلمة مؤثرة نقشت في ذاكرتي : ( انتم الذين أنعم الله عليكم بالأموال ؛ لكم محاسبة خاصة عند الله؛ فاكثروا الإنفاق في سبيل الله..)
9 - سوف اخبركم بسر "وسيبقى سرا رغم البوح به" وقد يستجلب نقاشا فكري فعادة النفس حب الجدال؛ و لكن يبقى إشارة اكثر منه عبارة..
إن مقابلتك الولي؛ بشرط أن تدخل عليه بتواضع وبلا ادعاء؛ سوف تسقى سقيا روحانية تحس بها تسري فيك بلطف ..
فيكفي ان تحضر ليلة مولد نبوي هناك؛ لتشهد كيف تجتمع القلوب على الله واسمائه الحسنى: الجمال و الجلال و الكمال..كل يحمل سبحته؟ و يراقب (قرينه/ شيطانك) داخل نفسه.. الذي يصبح بوسوسته مكشوفا وسط الذاكرين؛ تسمعه يوسوس في اذنك: ما ذا تصنع هنا ؛ التدين الفردي هو الخلاص و الاخلاص..
ثم يردف؛ اتظن أن بحضورك هنا سوف تهزمني؟
انسحب من هذا المكان و اخرج من بين هذه الجموع.. فالسبحة بدعة و الذكر الجماعي منكر؟؟
ينتصر القرين على الشخص ؛ مادام السخص يشهد نفسه.. و ينحجب عنه المذكور سبحانه..
تجربة الكثير من الناس أنهم ضحايا أنفسهم..ضحايا علمهم المحدود بالله..
الم يكن ابليس يعرف الله؛ لكنها معرفة ترى النفس/ الانا الإيغو.. قبل رؤية الله..
يتكلم مع الله ويقول : (انا خير منه خلقتني من نار) !!..
في قمة التناقض و الصلف.. عندما تتحدث النفس أمام خالقها ،؛ ناظرة الى ذاتها ؛ مؤلهة نفسها ؛ ساجدة لصنمها..
إن جماع الدرس الصوفي: اهزم "اناك" لترى الله..
(أرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم).. نعم الضلال مع وجود العلم و الشواهد العليا و المكانة الدنيوية!!
يخرجك "شيخ التربية" من هذه العبودية الخفية؛ ليدخلك في "جهادك الاكبر" مع نفسك..جهاد يجب أن تخوضه أنت بروحك ضد نفسك.. لن ينفعك مكتبتك و عقلانيتك..بل إحذر أن يكون علمك مصدر ضلالك ؛ فالعارفون يقولون : ( العلم حجاب) يقصدون الذي يعتقد أنه بامتلاكه منطق اللغة و التحليل و الكتابة فقد فهم و عرف و تملك وتحكم في نفسه.. ألم تر.. أو تسمع عن كثير من علماء النفس و المتخصصين في امراض النفس ؛ يبحثون عمن يعالج مشاكلهم مع أنفسهم !!؟؟
تسمع من سيدي حمزة : ( عدوك بين اضلعك..لا تخاصم و لا تعادي و لا تحارب أحدا.. خاصم نفسك انتصر على اهوائك..)
10 - كانت "والدتي الأمية" التي لم تدخل مدرسة قط في أواخر السبعينات تصنف القمامة التي سترمي مع الازبال ؛ هذا كيس فيه الخبز اليابس و هذا فيه بقايا الخضر ؛ وهذا فيه الزجاج المكسور؛ أما نفايات السمك و السردين فتمهل حتى تقطر ثم توضع في كيس خاص يمنع التسرب؛ من علم الوالدة هذه العناية بترتيب وتصريف القمامة إنه بعض من توجيهات أهل الله في الزوايا و الربطات و ما كانت النساء يلتقطنه من توجيهات في مواسم الذكر و الصدقات..كانت إرشادات و نصائح الأولياء تؤخذ بجد وقوة و تتحول إلى سلوك مدني اجتماعي..فاين نحن من أمية والدينا ؟؟.. نحن المثقفون جدا جدا ؟؟ العقلانيون حتى النخاع؟؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور !!
و القلب دواؤه ذكر الله و التواضع مع الخلق ..
11 - تفرض عليك العقلانية المعاصرة بتقاليدها غير المكتوبة أن تخجل قبل تن تبوح بتجربتك الشخصية.حتى ولو كانت تجربة عقلانية ناجحة نافعة و تعيش في ظلها أجمل واكمل حياة ..
غير أن أهل الله يعلموك الدرس الأول من دروس الانسانية كن انت ولا تكن نسخة من أحد حتى ولو كان أشهر فيلسوف عقلاني في عصرك..
فأنت هو المخلوق الذي سجدت لك الملائكة لأنك اكبر من كل فلسفة؛ وأوسع من كل عقلانية..
فأنت الكون كله..إذا عرفت نفسك..ففي سبيل معرفة النفس ضحى العقلاء بالنفس..
وقطعوا الارض رحلة بحتا عن أهل السر من الأولياء..
وسط هذا الطوفان من الافكار والفلسفات و القصف الاعلامي و الرقمي و أمواج الواقع بكل تقليعاته الاجتماعية و سوق البشرية بتعبير عبد الوهاب الدكالي.. فقد الناس توازنهم و قدرتهم على التمييز والاختيار.. و تبقى المدرسة الصوفية دالة على الله..زاوية هناك بعيدا عن الوسط المتموج.. زاوية للعزلة الروحية.. و للتأمل والتدبر ..لاعادة الرشد و التوازن للنفس والروح..
12 - من خلال تجربتي الصوفية بالزيارة و المصاحبة والرحلة والممارسة؛ استجمع الزاد والصيد؛ لأقول : ماقاله صاحب قصيدة : "مالذة العيش الا صحبة الفقراء"..
لقد وضع بهذه الأبيات خريطة طريق نفسية وليست عقلية؛ لمن شاء السقيا والمدد.. لأن العقل سوف يدخلك منذ البيت الأول جدلا لا نهاية له !!
يقول سيدي أبو مدين الغوث :
ما لذَّةُ العيشِ إلّا صحبةُ الفقرا
هم السلاطينُ والساداتُ والأمرا
فاصحبهُم وتأدَّب في مجالسهِم
وخلِّ حظَّك مهما خلّفوكَ ورا
واستغنم الوقتَ واحضر دائماً معهم
واعلم بأن الرضى يختص من حضرا
ولازِم الصمتَ إلا إن سُئِلت فقُل
لا علم عندي وكُن بالجهلِ مستتِرا
ولا تر العيب إلّا فيكَ معتقِداً
عيباً بدا بيناً لكنَّه استتَرا
وحُطّ رأسك واستغفر بلا سببٍ
وقُم على قدم الإنصافِ معتذِرا
وإن بدا منك عيبٌ فاعترف وأقم
وجه اعتذاركَ عمّا فيك منكَ جرا
وقُل عبيدُكُم أولى بصفحِكمُ
فامحوا وخُذوا بالرفقِ يا فقَرا
هم بالتفضُّلِ أولى وهوَ شيمتُهُم
فلا تخف دركاً منهُم ولا ضَرَرا
وبالتفتي على الإخوانِ جد أبداً
حار ومعنى دركا منهم ولا ضرَرا
وراقب الشيخ في أحواله فعسى
يرى عليك من استحانهِ أثَرا
وقدم الجدَّ وانهض عند خدمتهِ
عساهُ يرضى وحاذِر أن تكُن ضجِرا
ففي رضاه رضى الباري وطاعتهِ
يرضى عليك وكُن من تركها حذِرا
واعلَم بأن طريق القوم دراسة
وحال من يدّعيها اليوم كيف ترى..
13 - لقد جالست سيدي جمال رحمه الله.. رباني تحفه السكينة..
وجالست سيدي منير؛ و سيدي معاذ أكثر من مرة..
إنك تشعر بمجالستهم انك في حضرة روحانية متعالية.. تغمرك منظومة الاخلاق الاسلامية السامية وقد تجسدت نماذج حية معاصرة..
لقد صدمني صنيع سيدي حميدة نجل سيدي حمزة رحمهما الله؛ وكان عاملا لصاحب الجلالة على "اقليم بركان" عندما قام ليصب الماء قبل وجبة العشاء بمقر الزاوية على الضيوف وانا منهم؛ ومنهم رؤساء مصالح تحت امرته و سلطته..
وقد رأيت شبابا أوروبيين حديثي عهد بالاسلام ؛ ينظفون مراحيض و مطابخ الزاوية فسألت عن الأمر؛ فقيل لي: "مدخل التربية الصوفية : التواضع و خدمة الخلق "..
لن تدخل فضاء التربية الروحية؛ إن لم تتواضع؛ و تخدم غيرك؛ إن لم تعط من جهدك ووسعك للناس..
تكبرك عن العطاء "مانع" وحجاب لك عن المدد الروحي..
فمدخل التصوف العطاء محبة الخير للعالمين..
الكثير مما اريد قوله يكفيني عن قوله؛ ما باح به ابوحامد الغزالي في كتابه المنقء من الضلال خصوصا في المقدمة .. فالعبقري و فيلسوف زمانه بلغ حد الضخمة العقلانية تدريسها و تأليفا؛ فتوجه ليرتوي روحيا وينحشر مع أهل الله من الفقراء في الزاوية .. فدخل التجربة الروحية ليعلن على الناس ( الصوفية هم سادة الخلق ).. و عقلانيتنا أمامهم كالطفل يلهو ببعض العابه..
ينحجب الناس عن فهم و دخول التجربة الصوفية لسبب بسيط يلخصه الصوفية في "حجاب المماثلة" ..الناس محجوبون ببشرية الشيخ كما حجبوا بشرية النبي ( وقالوا ما لهذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الأسواق)..
والموفق من اخترق البشرية نحو الروحانية..
انتصر على نفسك فقط..تدخل الحضرة..والحضرة ليست كلاما نظريا.. انها الحضور مع الله..إنها مقام الاحسان: أن ترى الله او تكاد تراه..أن تعبد الله كأنك تراه..
14 - خلاصة تجربتي وزبدتها : لقد زرت شيخ الطريقة ( بتعبيرنا المدرسة الروحية) وجالسته.. و حضرت ليالي الذكر و المديح بعدد من المدن المغربية.. و سافرت مع فقراء الطريق بل وعدد من الطرق الصوفية الأخرى.. فكل الطرق إخوة في طريق الله؛ كما قال سيدي الشيخ ماء العينين رحمه الله: "إني مؤاخي كل الطرق".. وقد قال العارفون: (الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلق).. و قد شاركت في العديد من الملتقيات الثقافية و التربوية للزوايا الصوفية ..
و القدر الذي يفيد الكلام فيه حالا : أن من حرم نفسه مجالس الأولياء، و حرم أسرته الدخول و رؤية أهل الذكر في الزاوية ..و حضور ليالي روحانية الفقراء.. فقد حرم خيرا كثيرا ؛ وأضاع على نفسه وأهله تجربة وجودية حية "لكلام كنا نقرأه ونسمع عنه" عن أهل السر والبركة و الفتح من السلف..
فقم فتح الله بصيرتك برحلة استكشافية؛ اعتبرها رحلة ثقافية و بحثا انتربولوجيا.. فقط، أصدق النية مع الله..وسوف تجذبك روحانية لطيفة على قدر صفاء سريرتك..فالإمداد على قدر الاستعداد..
فإن لم تستطع.. او لم تسمح لك الظروف: "فامسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيبتك"..
فما تطلبه أمامك..
فرحم الله سيدي جمال..
وأسأل اللطيف سبحانه؛ أن يديم أمداد السر على ذريته.. وأن ينفعنا بصحبة العارفين.. والتواضع معهم أحياء وأمواتنا..ويحسن مملكتنا بدعائهم.. ويحفظ مولانا أمير المؤمنين بسر سلكهم وبركات وأنوار أذكارهم.
2- دعوني أصارحكم بأحد أشد الإكراهات سطوة على المثقف اليوم؛ وهو اكراه العقلانية المادية الاحادية الاختزالية؛ المستهزئة بكل ماهو روحي و معنوي..
فلكي تكون عقلانيا معترفا بك في "ناديهم"؛ عليك أن تتستر وراء الكثير من النفاق والحدلقة اللغوية الافرنجية ضدا على استقلاليتك وابداعيتك وخصوصيتك وهويتك ..وفوق هذا كشوفاتك وفتوحاتك؛ كن ضد وجودك وحضورك لتبدو عقلانيا عندهم ..
هذا الذوبان في الغير وفقدان الحرية الذاتية يعتبره أهل التصوف المدخل الأكبر للشرك .. فحرر نفسك من رؤية الغير والأغيار اولا لتجد نفسك؛ وبها ستجد ربك..
سوف أصارحكم من الآن؛ "لست عقلانيا" تحت هذا السقف.. بل إنني "عقلاني" ؛ عقلانية فوق العقلانية المجردة ..وبتعبير الفيلسوف طه عبد الرحمان عقلاني بعقلانية مؤيدة!!
فأنا (حبيت على الأرض على ركابيا//
وقريت لي قريت بحال قراني.) بتعبير جيل جيلالة في رائعتهم " يادوك اللايمين"..
3- دخلت ثانوية محمد الخامس بمدينة طانطان سنة 1989.. وكنت نشيطا في الأندية الثقافية و إلقاء المحاضرات..وسنة 1991 قدت المظاهرة المشهورة تنديدا بالغزو الأمريكي للعراق ، وضرب ملجأ العامرية..
لقد اعتقلت بعد المظاهرة مباشرة .. كانت دماء الشباب الساخنة تجري في عروقي ..
طموح و افكار حالمة و اشواق لاسقف لها .. وتوثب لا يحسب للعواقب حسابا..
لكن كان "يلطف" من هذا الحماس جلسات هادئة يعقدها الحاج عمر العلمي رحمه الله ( صهري في ما بعد) في بيته بحي المسيرة ؛ "كل ليلة سبت" ..
إنه ليلة فقراء الزاوية البودشيشية.. تتضمن تلاوات قرآنية و امداح نبوية بأصوات شجية ؛ و مواعظ حول أخلاق سيدنا رسول الله ؛ ورقائق تذكر بسير وقصص الصالحين..
ويعطر الجلسات بخور ينعش الروح.. ومالذ من الطيبات خاصة انواع السمك الطري؛ فقد كان ميناء طانطان مصنفا آنذاك الاول عالميا ؛ صيدا و تصنيعا؛ خاصة نوع السردين..
كنت ادخل الجلسة الصوفية وأخرج منها كأنني ولدت من جديد..لا أحد يسألك عن سبب حضورك !!..كان الباب مفتوحا للجميع : هذا معلم ،وهذا مدير ،و هذا تاجر، وهذا نجار ،وهذا بقال ،و هذا عاطل عن العمل..
لم أعرف الا بعد شهور ؛ بأن الشيخ الوقور الذي يسير جلسة الذكر ، هو "سيدي مولاي اسعيد" مقدم الزاوية البودشيشية بأكادير.. كان رجلا ربانيا مستغرقا في الذكر ؛ اذا رؤي ذكر الله..كثير التصدق ..دائم التبسم..
أخبر بانني تلميذ نشيط وإمام للتلاميذ بالثانوية؛ و أجيد إلقاء الدروس ؛ فقربني وطلب مني يوما ان اجلس بجواره؛ ثم اذن لي بالقاء درس في تلك الليلة..
بعدها مدحني و أثنى على درسي و اخرج من جيبه سبحة جميلة وقال لي: ( أذكر بها الله؛ أكثر من لاإلاه إلا الله؛ بعد صلاة الفجر؛ وبعد صلاة المغرب.. وسوف ترى عجبا !!).. لم أحمل كلامه على محمل الجد..فقد كان عقلانية الرأس مهيمن على عقلانية الروح والقلب !!
4 - التحقت بجامعة ابن زهر ؛ وكان مقر الزاوية محاديا لصور الجامعة..كنت مناضلا شرسا داخل الحرم الجامعي.. عند تقديم اللائحة المطلبية لعمادة الكلية اكون في مقدمة المفاوضين.. و قد أعقد "حلقة جماهيرية" لمناقشة قضية فكرية "كالعولمة" او " مستقبل التعليم" فأتناول الكلمة بالساعات : اسرد و اشرح و احاجج..كنا نتمتع بطاقة جدلية خارقة.. وكان تخصصي الثقافي بعد تخصصي في الدراسات الإسلامية هو القضية الفلسطينية ؛ كنت مولعا بمتابعة كل ما يكتب عن فلسطين؛ أعرف تاريخها من فترة ما قبل التاريخ؛ و أهضم القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن بخيثياتها وخلفيات صدورها؛ بل كنت احفظ منطوق بعض القرارات بصيغتيها العربية والإنجليزية ..كان الجدال مع اليسار : هل هي قضية دينية أن قضية اقتصادية ؟؟.. التقيت في حفل الاستقبال الملكي بالمضيق هذه السنة أحد أشرس خصومي في الجامعة عن التيار اليساري الاستاذ محمد شهيد برلماني عن الفريق الاشتراكي اليوم..من النظرة الأولى عرفني و عرفته..استرجعها ذكريات الخصوبة الايديولوجية..ضحكنا على بعض من طفولتنا الطلابية في الجامعة ؛ التي منها : أننا نحن الطلبة هم مركز الكون؛ و أنبياء التغيير ؛ و القادرون على صناعة التنمية و التقدم في مؤتمر واحد لأوطيم !!
لكني أشهد أن الاستاذ شهيد كان مثقفة متوازنا ؛ متخلقا؛ يغلبه الحياء أثناء المناقشات الطلابية؛ وكان من دعاة الحوار ونبذ العنف في الجامعة.. وقد تأكد لي من خلال جلستي الأخيرة معه بأنه ينتمي لأسرة مسقية بأخلاق التصوف وتقدير أهل الله من الفقهاء و الأولياء..
الحمد لله على نعمة إمارة المؤمنين التي تجعل السقف الايديولوجية تنتعش تحت السقف الجامع سقف التوابث الوطنية وعلى رأسها السلطان و الإسلام و أخلاق التصوف و المصلحة العليا للوطن..
5 - كنت بعد تعب المجادلات الطلابية؛ و المعادلات الايديولوجية التي لا تنتهي؛ اقابل الشيخ سيدي مولاي اسعيد في زاوية حي الداخلة؛ يقابلني بابتسامته المعهودة؛ فانحشر وسط جمهور الذاكرين ..فأحس بهاتف باطني يهمس بي :" الطريق الجدالي و الصدامي الذي تسلكه لن يوصلك الى الله !!..
لم يكن سيدي مولاي اسعيد يصرح لي بذلك..فقد كان كلامه عسل وسمن مصفى.. و لكن ككل العارفين بالله؛ كان حديثه إشارات مرموزة يلفها الغموض كمن يهديك الماسة داخل "صدفة" محكمة الإغلاق..
غموض يقول المتصوفة؛ أنه "لا ينجلي" لك إلا بكثرة ذكر الله..
ملازمتك ذكر الله هو الذي تجاهد به "انت" جهالات نفسك..
لا أحد يقوم مقامك ..هو جهادك أنت ..هي رياضتك انت .. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه.. هذه رموز روحية لا يفك أسرارها إلا مدد من الله ؛ ومدد الله يكون بالواردات الرحمانية .. و الوارد لا يكون إلا بالورد .. و الورد هو السبحة وهو مكان الشرب .. فاسق لنفسك ..
كنت أعجب من صنيع فقراء الزاوية بحي الداخلة باكادير ؛ لا يردون سائلا..مطبخ الزاوية يشتغل على مدار اليوم..
هذا فقير ،و هذه ارملة ،و هذا عابر سبيل ،وهذا طالب علم.. من طلب الطعام اطعم .. ومن شاء المبيت استقبل.. ومن سأل المساعدة أعطي ..كنت مدهولا من طاقة التحمل التي يتمتع بها الشيخ سيدي مولاي اسعيد..
في إحدى الليالي نادى علي؛ وطلب مني أن أقصد مقر الزاوية بلباس عصري وليس تقليدي !!؛
ارتديت بدلتي على عجل و التحقت به ؛ وجدت موكبا من السيارات أمام باب الزاوية: فرقة السماع و المديح ؛و بعض الاساتذة والاطر؛ ركبت سيارته مسرعا؛ وانطلق الموكب في شوارع أكادير.. لنجد أنفسنا داحل باحة فندق فسيح و يبدو أنه من نجوم كثيرة ..دخلنا قاعة جميلة مكشوفة السقف.. مزينة بالشموع؛ يجلس إلى مواردها عدد من الأجانب ذكوريا واناثا.. علمت بعد مدة ؛ بأنه حفل لجمع التبرعات لمؤسسة خيرية في (اولاد تايمة) ..
ألقيت كلمة حول المحبة كانت بالقرب مني فتاة مترجمة إلى اللغة الانجليزية..
تمتع الحضور بوصلات صوفية ومديح نبوي رائع ..كان مقدم الحفل صحفي من قناة تلفزية وطنية على ما اذكر.. بدأت أفهم بعضا من مجالات عمل اهل التصوف؛ إنهم يرفعون ذكر الله و الصلاة على رسول الله في كل مجمع ومكان ..وهي إحدى مميزات العمل الديني في الزاوية البودشيشية..
6 - اقتربت ذكرى المولد النبوي ( 12 ربيع الثاني) وهو المناسبة التي يحييها الفقراء في الزاوية (الام بمنطقة مداغ) قرب مدينة بركان..
اعدت العدة واستقلينا الحافلة.. في الحقيقة هي رحلة سياحية اكثر منها سفر عادي.. فالرحلة تؤطرها لجان متعددة؛ لجنة التنظيم، ولجنة الطبخ، ولجنة الخدمات، ولجنة الامداح، و لجنة النظافة..فكلما بدا منظر طبيعي جميل توقفت الحافلة و بسطت الافرشة وهيأت القدور.. وتحلق الفقراء حول موائد الشاي و صدحت الحناجر بذكر الله و أمداح سيدنا رسول الله..
فخلال ايام الرحلة يتعلم الفقير وبيننا عدد كبير من التلاميذ و الطلبة؛ يتعلم ( يوما نموذجيا من حياة رسول الله) : ذكر مستمر ؛و صلاة خمس في الوقت؛ و تخلق بالرحمة و التعاون والصبر..والتدرب على العطاء وخدمة الآخرين..
7 - كانت زيارتي الأولى لمقر الزاوية سنة 2006..بعد حصولي مباشرة على دبلوم الدرايات المعمقة في الأديان المقارنة ..
دخلت الزاوية وهي بنايات متراصة على أرض فلاحية خضراء واسعة.. دخلنا على الشيخ العارف بالله سيدي حمزة رحمه الله .. وجدت عشرات العلماء من كل الجنسيات ..كل دول الارض هنا .. من الولايات المتحدة و اروبا و دول اسيا..
عقدنا لقاءات فكرية مطبوعة بطابع التصوف؛ و جوهره التواضع وعدم الادعاء.. لا أحد يدعي إنه يملك حلا اجتماعيا او اقتصاديا لآلام الناس.. و لكن الشيخ يذكر بالله..و ينبه على ملازمة الذكر و إصلاح الباطن ؛ فبصلاح الباطن تصلح الاخلاق.. فالانسان لا يصلح الا بالتربية الروحية؛ فتبارك الله في العلم والجسم ؛ ويلهم الإنسان من الانوار والاسرار و الهداية ما لا يخطر له على بال .. فيكون المصلح الاجتماعي و السياسي والاقتصادي ربانيا يرى بنور الله و يتكلم بنور الله .. ف يوفقه الله في مسعاه .. فأنزل الله سكينه عليه وأيده بجنود لم تروها..
8 - قابلت هناك عند الشيخ سيدي حمزة الخبير الفيتنامي طاوشان وهو خبير دولي في رسم الاستراتيجيات العالمية..
وقابلت سيدي احمد العبادي الأمين العام للرابط المحمدية للعلماء؛ الذي مددت يدي لاصافحه فسارع الى تقبيلها.. أناس تذوب نفسك خجلا أمام سمو اخلاقهم..
في ليلة باردة من ليالي المولد النبوي أذن لنا بزيارة سيدي حمزة رحمه الله؛ كانت زيارة خاصة جدا ..
أذكر أنها كانت عند منتصف الليل..
كان برفقتي أفراد من أسرة بوعيدة العريقة في الصحراء عمر بوعيدة ؛ و امباركة بوعيدة ؛ و عبد الحميد بوعيدة؛ و رافقنا مقدم الزاوية بكلميم الصديق الخضير ميتو..
أذكر اننا دخلنا غرفة بسيطة مؤثثة بالمصاحف والسبح؛ سيدي حمزة قليل الكلام؛ ولكنه ينطق بكلمات محسوبة يكررها على مسمعك لاعبها أذن واعية؛ يسألك عن أحوالك و عن أسرتك؛ ثم يلقي لكل نصيحة تدور حول مجاهدة النفس وإصلاح السرائر.. أصدلكم القول : منذ تلك الجلسة ؛ أصبحت أعي أن هناك (ماقبل ومابعد) في نظرتي الباطنية للحياة؛ وهذا هو القدر الذي يمكنني الخوض فيه !!
أذكر أن سيدي حمزة بعد أن ذكرنا بأهمية الإكثار من قول لاالاه الا الله.. وجه كلامه الى سيدي عمر بوعيدة رحمه الله؛ و قال كلمة مؤثرة نقشت في ذاكرتي : ( انتم الذين أنعم الله عليكم بالأموال ؛ لكم محاسبة خاصة عند الله؛ فاكثروا الإنفاق في سبيل الله..)
9 - سوف اخبركم بسر "وسيبقى سرا رغم البوح به" وقد يستجلب نقاشا فكري فعادة النفس حب الجدال؛ و لكن يبقى إشارة اكثر منه عبارة..
إن مقابلتك الولي؛ بشرط أن تدخل عليه بتواضع وبلا ادعاء؛ سوف تسقى سقيا روحانية تحس بها تسري فيك بلطف ..
فيكفي ان تحضر ليلة مولد نبوي هناك؛ لتشهد كيف تجتمع القلوب على الله واسمائه الحسنى: الجمال و الجلال و الكمال..كل يحمل سبحته؟ و يراقب (قرينه/ شيطانك) داخل نفسه.. الذي يصبح بوسوسته مكشوفا وسط الذاكرين؛ تسمعه يوسوس في اذنك: ما ذا تصنع هنا ؛ التدين الفردي هو الخلاص و الاخلاص..
ثم يردف؛ اتظن أن بحضورك هنا سوف تهزمني؟
انسحب من هذا المكان و اخرج من بين هذه الجموع.. فالسبحة بدعة و الذكر الجماعي منكر؟؟
ينتصر القرين على الشخص ؛ مادام السخص يشهد نفسه.. و ينحجب عنه المذكور سبحانه..
تجربة الكثير من الناس أنهم ضحايا أنفسهم..ضحايا علمهم المحدود بالله..
الم يكن ابليس يعرف الله؛ لكنها معرفة ترى النفس/ الانا الإيغو.. قبل رؤية الله..
يتكلم مع الله ويقول : (انا خير منه خلقتني من نار) !!..
في قمة التناقض و الصلف.. عندما تتحدث النفس أمام خالقها ،؛ ناظرة الى ذاتها ؛ مؤلهة نفسها ؛ ساجدة لصنمها..
إن جماع الدرس الصوفي: اهزم "اناك" لترى الله..
(أرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم).. نعم الضلال مع وجود العلم و الشواهد العليا و المكانة الدنيوية!!
يخرجك "شيخ التربية" من هذه العبودية الخفية؛ ليدخلك في "جهادك الاكبر" مع نفسك..جهاد يجب أن تخوضه أنت بروحك ضد نفسك.. لن ينفعك مكتبتك و عقلانيتك..بل إحذر أن يكون علمك مصدر ضلالك ؛ فالعارفون يقولون : ( العلم حجاب) يقصدون الذي يعتقد أنه بامتلاكه منطق اللغة و التحليل و الكتابة فقد فهم و عرف و تملك وتحكم في نفسه.. ألم تر.. أو تسمع عن كثير من علماء النفس و المتخصصين في امراض النفس ؛ يبحثون عمن يعالج مشاكلهم مع أنفسهم !!؟؟
تسمع من سيدي حمزة : ( عدوك بين اضلعك..لا تخاصم و لا تعادي و لا تحارب أحدا.. خاصم نفسك انتصر على اهوائك..)
10 - كانت "والدتي الأمية" التي لم تدخل مدرسة قط في أواخر السبعينات تصنف القمامة التي سترمي مع الازبال ؛ هذا كيس فيه الخبز اليابس و هذا فيه بقايا الخضر ؛ وهذا فيه الزجاج المكسور؛ أما نفايات السمك و السردين فتمهل حتى تقطر ثم توضع في كيس خاص يمنع التسرب؛ من علم الوالدة هذه العناية بترتيب وتصريف القمامة إنه بعض من توجيهات أهل الله في الزوايا و الربطات و ما كانت النساء يلتقطنه من توجيهات في مواسم الذكر و الصدقات..كانت إرشادات و نصائح الأولياء تؤخذ بجد وقوة و تتحول إلى سلوك مدني اجتماعي..فاين نحن من أمية والدينا ؟؟.. نحن المثقفون جدا جدا ؟؟ العقلانيون حتى النخاع؟؟ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور !!
و القلب دواؤه ذكر الله و التواضع مع الخلق ..
11 - تفرض عليك العقلانية المعاصرة بتقاليدها غير المكتوبة أن تخجل قبل تن تبوح بتجربتك الشخصية.حتى ولو كانت تجربة عقلانية ناجحة نافعة و تعيش في ظلها أجمل واكمل حياة ..
غير أن أهل الله يعلموك الدرس الأول من دروس الانسانية كن انت ولا تكن نسخة من أحد حتى ولو كان أشهر فيلسوف عقلاني في عصرك..
فأنت هو المخلوق الذي سجدت لك الملائكة لأنك اكبر من كل فلسفة؛ وأوسع من كل عقلانية..
فأنت الكون كله..إذا عرفت نفسك..ففي سبيل معرفة النفس ضحى العقلاء بالنفس..
وقطعوا الارض رحلة بحتا عن أهل السر من الأولياء..
وسط هذا الطوفان من الافكار والفلسفات و القصف الاعلامي و الرقمي و أمواج الواقع بكل تقليعاته الاجتماعية و سوق البشرية بتعبير عبد الوهاب الدكالي.. فقد الناس توازنهم و قدرتهم على التمييز والاختيار.. و تبقى المدرسة الصوفية دالة على الله..زاوية هناك بعيدا عن الوسط المتموج.. زاوية للعزلة الروحية.. و للتأمل والتدبر ..لاعادة الرشد و التوازن للنفس والروح..
12 - من خلال تجربتي الصوفية بالزيارة و المصاحبة والرحلة والممارسة؛ استجمع الزاد والصيد؛ لأقول : ماقاله صاحب قصيدة : "مالذة العيش الا صحبة الفقراء"..
لقد وضع بهذه الأبيات خريطة طريق نفسية وليست عقلية؛ لمن شاء السقيا والمدد.. لأن العقل سوف يدخلك منذ البيت الأول جدلا لا نهاية له !!
يقول سيدي أبو مدين الغوث :
ما لذَّةُ العيشِ إلّا صحبةُ الفقرا
هم السلاطينُ والساداتُ والأمرا
فاصحبهُم وتأدَّب في مجالسهِم
وخلِّ حظَّك مهما خلّفوكَ ورا
واستغنم الوقتَ واحضر دائماً معهم
واعلم بأن الرضى يختص من حضرا
ولازِم الصمتَ إلا إن سُئِلت فقُل
لا علم عندي وكُن بالجهلِ مستتِرا
ولا تر العيب إلّا فيكَ معتقِداً
عيباً بدا بيناً لكنَّه استتَرا
وحُطّ رأسك واستغفر بلا سببٍ
وقُم على قدم الإنصافِ معتذِرا
وإن بدا منك عيبٌ فاعترف وأقم
وجه اعتذاركَ عمّا فيك منكَ جرا
وقُل عبيدُكُم أولى بصفحِكمُ
فامحوا وخُذوا بالرفقِ يا فقَرا
هم بالتفضُّلِ أولى وهوَ شيمتُهُم
فلا تخف دركاً منهُم ولا ضَرَرا
وبالتفتي على الإخوانِ جد أبداً
حار ومعنى دركا منهم ولا ضرَرا
وراقب الشيخ في أحواله فعسى
يرى عليك من استحانهِ أثَرا
وقدم الجدَّ وانهض عند خدمتهِ
عساهُ يرضى وحاذِر أن تكُن ضجِرا
ففي رضاه رضى الباري وطاعتهِ
يرضى عليك وكُن من تركها حذِرا
واعلَم بأن طريق القوم دراسة
وحال من يدّعيها اليوم كيف ترى..
13 - لقد جالست سيدي جمال رحمه الله.. رباني تحفه السكينة..
وجالست سيدي منير؛ و سيدي معاذ أكثر من مرة..
إنك تشعر بمجالستهم انك في حضرة روحانية متعالية.. تغمرك منظومة الاخلاق الاسلامية السامية وقد تجسدت نماذج حية معاصرة..
لقد صدمني صنيع سيدي حميدة نجل سيدي حمزة رحمهما الله؛ وكان عاملا لصاحب الجلالة على "اقليم بركان" عندما قام ليصب الماء قبل وجبة العشاء بمقر الزاوية على الضيوف وانا منهم؛ ومنهم رؤساء مصالح تحت امرته و سلطته..
وقد رأيت شبابا أوروبيين حديثي عهد بالاسلام ؛ ينظفون مراحيض و مطابخ الزاوية فسألت عن الأمر؛ فقيل لي: "مدخل التربية الصوفية : التواضع و خدمة الخلق "..
لن تدخل فضاء التربية الروحية؛ إن لم تتواضع؛ و تخدم غيرك؛ إن لم تعط من جهدك ووسعك للناس..
تكبرك عن العطاء "مانع" وحجاب لك عن المدد الروحي..
فمدخل التصوف العطاء محبة الخير للعالمين..
الكثير مما اريد قوله يكفيني عن قوله؛ ما باح به ابوحامد الغزالي في كتابه المنقء من الضلال خصوصا في المقدمة .. فالعبقري و فيلسوف زمانه بلغ حد الضخمة العقلانية تدريسها و تأليفا؛ فتوجه ليرتوي روحيا وينحشر مع أهل الله من الفقراء في الزاوية .. فدخل التجربة الروحية ليعلن على الناس ( الصوفية هم سادة الخلق ).. و عقلانيتنا أمامهم كالطفل يلهو ببعض العابه..
ينحجب الناس عن فهم و دخول التجربة الصوفية لسبب بسيط يلخصه الصوفية في "حجاب المماثلة" ..الناس محجوبون ببشرية الشيخ كما حجبوا بشرية النبي ( وقالوا ما لهذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الأسواق)..
والموفق من اخترق البشرية نحو الروحانية..
انتصر على نفسك فقط..تدخل الحضرة..والحضرة ليست كلاما نظريا.. انها الحضور مع الله..إنها مقام الاحسان: أن ترى الله او تكاد تراه..أن تعبد الله كأنك تراه..
14 - خلاصة تجربتي وزبدتها : لقد زرت شيخ الطريقة ( بتعبيرنا المدرسة الروحية) وجالسته.. و حضرت ليالي الذكر و المديح بعدد من المدن المغربية.. و سافرت مع فقراء الطريق بل وعدد من الطرق الصوفية الأخرى.. فكل الطرق إخوة في طريق الله؛ كما قال سيدي الشيخ ماء العينين رحمه الله: "إني مؤاخي كل الطرق".. وقد قال العارفون: (الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلق).. و قد شاركت في العديد من الملتقيات الثقافية و التربوية للزوايا الصوفية ..
و القدر الذي يفيد الكلام فيه حالا : أن من حرم نفسه مجالس الأولياء، و حرم أسرته الدخول و رؤية أهل الذكر في الزاوية ..و حضور ليالي روحانية الفقراء.. فقد حرم خيرا كثيرا ؛ وأضاع على نفسه وأهله تجربة وجودية حية "لكلام كنا نقرأه ونسمع عنه" عن أهل السر والبركة و الفتح من السلف..
فقم فتح الله بصيرتك برحلة استكشافية؛ اعتبرها رحلة ثقافية و بحثا انتربولوجيا.. فقط، أصدق النية مع الله..وسوف تجذبك روحانية لطيفة على قدر صفاء سريرتك..فالإمداد على قدر الاستعداد..
فإن لم تستطع.. او لم تسمح لك الظروف: "فامسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيبتك"..
فما تطلبه أمامك..
فرحم الله سيدي جمال..
وأسأل اللطيف سبحانه؛ أن يديم أمداد السر على ذريته.. وأن ينفعنا بصحبة العارفين.. والتواضع معهم أحياء وأمواتنا..ويحسن مملكتنا بدعائهم.. ويحفظ مولانا أمير المؤمنين بسر سلكهم وبركات وأنوار أذكارهم.
