Wednesday 23 July 2025
كتاب الرأي

عدنان المتفوق: أدوار الجمعيات المهنية للقضاة

عدنان المتفوق: أدوار الجمعيات المهنية للقضاة عدنان المتفوق الكاتب العام لجمعية نادي قضاة المغرب
في ظل التحولات العميقة التي يعرفها المشهد القضائي المغربي، تبرز الجمعيات المهنية للقضاة باعتبارها أحد أهم تعابير النضج المؤسسي داخل جسم العدالة. فهي ليست مجرّد هياكل تنظيمية تهدف إلى الدفاع عن المصالح المهنية للقضاة، بل تجسّد، في جوهرها، ثقافة مواطنة قضائية، وتُكرّس رؤية تشاركية تسعى إلى تجويد العدالة، وضمان استقلال السلطة القضائية في إطار من التوازن والاحترام العميق للمؤسسات الدستورية القائمة.
 
نبغي التذكير، في البدء، أن تأسيس الجمعيات المهنية للقضاة في المغرب لا يندرج في خانة الاستثناء، بل يجد سنده في التزامات المملكة المغربية الدولية، ولا سيما تلك التي تؤطر حرية تأسيس الجمعيات والحق في التعبير المهني المنضبط.
ومن بين الوثائق الدولية الأكثر تأثيرًا في هذا الإطار:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
 
 المادة 20:
"لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية."
تؤسس هذه المادة الحق الأساسي في تكوين الجمعيات، بما في ذلك الجمعيات المهنية للقضاة.
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966 – بدأ نفاذه عام 1976)
 
المادة 22:
"لكل فرد حق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق إنشاء النقابات والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه."
يضمن هذا العهد الحق في تكوين الجمعيات دون تمييز، بما في ذلك الهيئات القضائية المهنية، مع احترام النظام العام.
مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية (مؤتمر ميلانو، 1985 – اعتمدت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرار 40/32 و 40/146)
 
الفقرة 8:
"يتمتع القضاة، شأنهم شأن غيرهم من المواطنين، بحرية التعبير وتكوين الجمعيات، مع احترام واجب لتحفظ منصبهم واستقلال السلطة القضائية."
هذه الفقرة هي المرجع الأساس والمباشر الذي يُستند إليه في شرعية وجود الجمعيات المهنية القضائية.
البيان العالمي بشأن استقلال العدالة (مونتريال، 1983 – صادر عن لجنة حقوق الإنسان الدولية/IJA)
 
الفقرة 4.14:
"يجب أن يتمتع القضاة بحق تأسيس جمعيات مهنية أو الانضمام إليها، وأن تتمتع هذه الجمعيات بالحرية الكاملة في تمثيل القضاة، والدفاع عن مصالحهم، وتعزيز استقلالهم."
مبادئ بانغالور للسلوك القضائي (2002 – صادرة عن الأمم المتحدة بتوصية من اللجنة القضائية الدولية)
 
تنص في إطار مبدأ الاستقلال على ضرورة تمكين القضاة من الدفاع عن استقلالهم، مع الإبقاء على سلوك يحترم الوقار القضائي.
يُفهم من هذا أن وجود تنظيمات مهنية يُمكن أن يكون أداة لحماية هذا الاستقلال والدفاع عنه.
. الرأي الاستشاري رقم 1 لمجلس استشاريي القضاة الأوروبيين (CCJE) – 2001
 
دعا هذا الرأي إلى ضرورة تشجيع تأسيس الجمعيات القضائية، واعتبارها طرفًا محاورًا أساسيًا في النقاشات المهنية والقانونية داخل الدولة.
يؤكد أن الجمعيات القضائية لا تهدف للمواجهة، بل لتعزيز الجودة والكفاءة القضائية.
إعلان بوردو بشأن الجمعيات المهنية للقضاة (2005 – صادر عن الاتحاد الدولي للقضاة)
 
أكد الإعلان أن الجمعيات المهنية للقضاة هي جزء لا يتجزأ من الديمقراطية القضائية، وتمثل صوتًا جماعيًا للقضاة للدفاع عن المبادئ الكبرى:
الاستقلال
النزاهة
تحسين ظروف العمل
تعزيز العلاقة مع المجتمع.
الرأي رقم 16 لمجلس CCJE حول "علاقة القضاء مع المجتمع" (2013)
 
ينص على أن الجمعيات القضائية تُساهم إيجاباً في تقوية جسور الثقة بين القضاء والمجتمع، من خلال التكوين والتواصل والدفاع عن القيم القضائية.
القرار رقم 12 الصادر عن المؤتمر الأوروبي لوزراء العدل (مالطا، 2005)
 
شجع القرار على الاعتراف القانوني بالجمعيات القضائية باعتبارها وسيلة لدعم التكوين، وضمان استقلال القاضي، وتوفير الدعم المعنوي له.
إعلان كيب تاون حول الجمعيات المهنية القضائية في إفريقيا (2003)
 
صدر هذا الإعلان في إطار التعاون القضائي الإفريقي، وأكد على ضرورة تمكين القضاة من إنشاء جمعيات مهنية قوية، مستقلة، تُمثلهم أمام السلطات، وتدافع عن استقلال القضاء.
و إن ما يميز التجربة المغربية في هذا الباب هو الجمع المتوازن بين الدفاع الصلب عن استقلال القاضي وبين التفاعل الإيجابي مع مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي يُعدّ صاحب الجلالة الملك محمد السادس رئيسه، بموجب دستور 2011، باعتباره الضامن الفعلي لاستقلال السلطة القضائية.
وجدير بالذكر أن الجمعيات المهنية لا تتصرف كـ"معارضة مؤسساتية"، بل تُمارس مهامها في إطار من الاحترام المؤسسي العميق، وتُبدي في أدبياتها وممارساتها تمسّكاً صادقاً بالثوابت الدستورية، وبخطاب عقلاني رصين يُغلّب المصلحة القضائية العليا على الانفعال أو الشخصنة.
 
فهي تنخرط في النقاش العمومي، لكنها ترفض الانزلاق نحو أي سلوك من شأنه أن يمسّ بصورة القضاء أو يُربك العلاقة المؤسسية بين مختلف مكوناته.
 
ولعل أبرز تجليات النضج المؤسساتي للجمعيات المهنية للقضاة في المغرب، هو حرصها الدائم على مواكبة وتفعيل الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، باعتباره الضامن الدستوري لاستقلال القضاء، والحاضن الرسمي للسياسة القضائية بالمملكة.
 
لقد أبدت هذه الجمعيات، وفي مقدمتها نادي قضاة المغرب، انخراطًا إيجابيًا ومسؤولًا في تنزيل مضامين المخطط الاستراتيجي للمجلس (2021-2026)، من خلال:
دعم أهدافه الكبرى، وعلى رأسها تعزيز ثقة المتقاضين، وتحسين النجاعة القضائية، ورفع جودة العمل القضائي.
المشاركة في النقاش العمومي القضائي بما يُعزز الثقافة القانونية الوطنية، ويفعّل مبدأ التشاركية في تدبير الشأن القضائي.
المرافعة المؤسساتية الهادئة لفائدة شروط العمل القضائي ومستلزماته، بما يندرج ضمن المحور المتعلق بتحسين الوضعية المهنية والاجتماعية للقضاة.
 
تنظيم ندوات علمية ولقاءات جهوية تُساهم في إشاعة مضامين المخطط الاستراتيجي، وتُعبّر عن إرادة القضاة في مواكبته لا من موقع المتفرج، بل من موقع الشريك.
 
إن الجمعيات المهنية، إذ تنخرط بوعي ومسؤولية في تنزيل هذا المخطط، فإنما تعبّر عن إدراكها العميق بأن استقلال السلطة القضائية لا يُبنى بالشعارات، بل عبر الانخراط الواعي في كل ما من شأنه تعزيز أداء المؤسسة القضائية على كافة المستويات.
 
لا يخفى على المتابعين أن بعض الأصوات – سواء بدافع تأويلي أو بدافع غير موضوعي – تُبدي تخوفاً من الجمعيات المهنية للقضاة في إشارة إلى ما تعتبره توسعاً في حضور القضاة في الشأن العام، أو في النقاشات العمومية حول السياسة القضائية.لكن هذا التخوف، وإن كان من حق أصحابه التعبير عنه، فإنه يغفل معطًى جوهرياً يتجلى في:
أن التعبير المهني المؤطر، وبلورة الرأي القضائي في قضايا تهمّ العدالة، لا يعني أبداً المساس بمبدأ فصل السلط، بل يُعزّزه.
 
بل إن القضاة أنفسهم، من خلال جمعياتهم المهنية، لا يسعون للعب أدوار سياسية، وإنما لإعلاء الكلمة المهنية، والدفاع عن استقلالهم كشرط جوهري لضمان حقوق المتقاضين، وليس امتيازاً ذاتياً.
 
إن الجمعيات المهنية لا تحكم، ولا تسنّ قوانين، ولا تتدخل في التنفيذ، بل تشتغل في النطاق المشروع والمحدود لمهنة سامية تتطلب التقدير لا الشكوك، والحوار لا المصادرة.
 
و أيضا من سمات هذه الجمعيات المهنية ، هو ذلك التقدير البالغ الذي تُكنّه للمؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي تعتبره اللبنة الاساسية في بناء قضاء مستقل وفعّال. فالجمعيات لا تتعامل مع المجلس بمنطق المواجهة، بل بمنطق الشراكة المؤسسية، والمرافعة الهادئة، والتفاعل المسؤول، و الاحترام و التقدير لرئيسه جلالة الملك محمد السادس نصره الله و لرئيسه المنتدب باعتباره المخول له قانونا تدبير السلطة القضائية و لكافة أعضاءه الدائمين و المعينين و المنتخبين.
 
وتؤمن هذه الجمعيات أن التعدد داخل الجسم القضائي لا يُضعف المؤسسة، بل يُغنيها. وأن أي رأي قضائي جماعي، مادام يستند إلى القانون والوقار، فإنه يُسهم في ترسيخ التوازن المطلوب بين مختلف الفاعلين داخل الحقل القضائي.
 
ختاماً، يمكن القول إن الجمعيات المهنية للقضاة بالمغرب تُشكل اليوم رافعة حقيقية لمشروع العدالة، سواء من حيث تمكين القضاة من التعبير المنظم عن قضاياهم، أو من حيث مشاركتهم في الإصلاح المؤسساتي، أو من حيث تمثلهم لقيم الرصانة، والاتزان، والاحترام الكامل لمؤسسات الدولة.
 
هذه الجمعيات ليست "أدوات ضغط"، ولا "مراكز قوة"، بل مكوّن بنّاء يشتغل داخل الإطار الوطني والدولي، ويجعل من الاستقلال المسؤول، والكرامة القضائية، والاحترام المتبادل، عقيدته اليومية، وفي كل ذلك، تتبدّى معالم قضاء مغربي، لا يَدينُ بالولاء إلا للدستور، ولا يَنحني إلا للحقيقة، ولا يُنصت إلا لضميره تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله و أيده.