Thursday 10 July 2025
منبر أنفاس

محمد بوفتاس: قراءة معاصرة لابن رشد.. عودة العقل في زمن الالتباس

محمد بوفتاس: قراءة معاصرة لابن رشد.. عودة العقل في زمن الالتباس محمد بوفتاس
في الأزمنة التي يختلط فيها الصراخ بالحقيقة، وتغيب فيها الأصوات التي تُصغي بصدق لعقل الإنسان وروحه، تبرز الحاجة إلى استدعاء النماذج الفكرية التي آمنت بأن العقل ليس خصمًا للوحي، وأن الإيمان لا يُلغِي التفكير، بل يغتني به. ولعل ابن رشد، فيلسوف قرطبة وطبيب الأندلس، واحد من تلك الأصوات النادرة التي راهنت على الإنسان، لا بوصفه كائنًا يتبع، بل باعتباره كائنًا يبحث ويفهم ويتأمل. إن العودة إلى فكر ابن رشد اليوم لا تعني الحنين إلى الماضي أو تمجيد الرموز، وإنما تعني مساءلة الحاضر من خلال مرآة عقلانية صلبة، تعي تعقيدات الواقع وتعرف كيف تنفذ إلى جوهر الأشياء.
 
لم يكن ابن رشد فيلسوفًا معزولًا في برج عاجي، بل كان متورطًا في أسئلة عصره: الانقسام السياسي، صعود التشدد، أزمة العلاقة بين الدين والعلم، بين النص والعقل. لكنه لم يختر الاصطفاف مع أحد طرفي النقيض، بل مضى في طريق ثالث، حيث العقل والدين ليسا ضدين، بل حليفين متكاملين. حين كتب شروحه على كتب أرسطو، وحين دافع عن الفلسفة في مواجهة اتهامات الغزالي، لم يكن يدافع عن فئة ضد أخرى، بل كان يبحث عن مخرج مشترك من دائرة التبسيط والتعصب، نحو أفق يتسع فيه الدين للعقل، ويتسع العقل للإيمان.
 
في عمق فكره، لا نجد دعوة إلى تقديس العقل أو تحجيم النص، بل دعوة إلى الفهم، إلى التأويل، إلى الاجتهاد. وهذا بالضبط ما نفتقده في حاضرنا. مجتمعاتنا اليوم لم تعد تتوجس فقط من الفلسفة، بل أصبحت تتشكك في التفكير ذاته، كأن التفكر صار مرادفًا للضلال. ابن رشد، في زمنه، واجه هذا النوع من الخوف المعمم، ورد عليه بشجاعة، حين قال إن النظر العقلي فريضة دينية، وإن الحقيقة الواحدة لا تتناقض، سواء وردت في كتاب الطبيعة أو في كتاب الله.
ما يجعل فكر ابن رشد ملحًا اليوم هو تلك القدرة العجيبة على الجمع بين الانفتاح والحذر، بين الجرأة والمسؤولية.
 
فهو لم يفرّط في مقومات التدين، ولم يذُب في فلسفات الآخر، لكنه في الآن ذاته، لم يُقيد نفسه بسلاسل التقليد أو تقديس الشروح. دعا إلى الاجتهاد في فهم الشريعة، وإلى تحرير الفقه من الحرفية، وإلى قراءة النصوص قراءة عقلية، تُحاور الواقع ولا تهرب منه. وفي عالم يزداد فيه حضور الخطابات الدينية المتشنجة، والتأويلات العنيفة للنصوص، فإن فكره يُمثل صمام أمان لفهم متوازن، ينقذ الدين من اختطافه، ويحرر العقل من عزلته.
 
إن إعادة إحياء الفلسفة العقلانية لابن رشد لا تعني تحويله إلى رمز مقدس أو بطل خارق، بل تعني إعادة بعث الروح النقدية التي ميزته، ذلك الإصرار العنيد على أن الفكر لا يهدد الإيمان، وأن الجهل وحده هو الخطر الحقيقي. لقد استطاع الغرب أن يرى في ابن رشد ما لم نره نحن: الفيلسوف الذي أسّس لجسر بين العقل والدين، فترجموا كتبه، وتلقّفوا شروحه، وبنوا عليها تقاليد فكرية جديدة ساهمت في تشكل عقل التنوير الأوروبي. أما نحن، فقد أدرنا له ظهورنا، كأننا خفنا من مرآة تُظهر لنا ما لا نريد رؤيته.
 
ولا يتعلق الأمر هنا بمحاولة لإعادة ابن رشد كما هو، بل باستلهام ما هو حيّ في تجربته الفكرية: الشجاعة في الطرح، الانفتاح على الآخر، التواضع أمام العقل، الإيمان بأن التفكير ليس خيانة، بل عبادة. فكر ابن رشد لا يدعونا إلى نبش الماضي، بل إلى إعادة امتلاك أدوات التفكير التي فقدناها. يدعونا إلى بناء ثقافة لا تعيش على الأجوبة الجاهزة، بل تطرح الأسئلة بصبر ومسؤولية. إلى تعليم لا يُلقّن، بل يُحرّك العقول، ويُشعل المصابيح بدل أن يطفئها.
 
إن مجتمعاتنا لن تخرج من مأزقها إلا إذا تخلّت عن تقديس الجمود، وواجهت بأسئلة صريحة معضلاتها المزمنة: ما حدود العلاقة بين الدين والعقل؟ من يملك حق تفسير النص؟ هل نُعلّم أبناءنا كيف يفكرون أم ماذا يفكرون؟ في قلب هذه الأسئلة جميعًا، يقف ابن رشد، لا بوصفه نموذجًا تاريخيًا، بل باعتباره وعدًا مؤجلًا، وفرصة أضعناها، وما زال الوقت ممكنًا لاستعادتها.
 
في زمن صار العقل فيه غريبًا، صار التفكير فيه متهمًا، وصار الدين مطية للسلطة أو مطرقة للقمع، يبدو صوت ابن رشد أشبه بنداء من المستقبل، يدعونا لأن نعيد ترتيب علاقتنا بالحقيقة، لا على أساس الخوف، بل على أساس الفهم. وكما قال هو نفسه: "الحكمة صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة، وهما المصطحبتان بالطبع، المحبتان بالجوهر." فهل نملك الشجاعة لنسمع هذا النداء من جديد؟
 
ذ- محمد بوفتاس /باحث في الفكر والدين والمجتمع