Sunday 6 July 2025
اقتصاد

عبد الواحد غيات: البُعد الجيوسياسي لندرة المياه.. تحديات وفرص حكامة عالمية للموارد المائية

عبد الواحد غيات: البُعد الجيوسياسي لندرة المياه.. تحديات وفرص حكامة عالمية للموارد المائية عبد الواحد غيات ومشهد لأحد السدود المغربية

مقدمة

تعتبر المياه العذبة من أهم الموارد الطبيعية التي لا يمكن الاستغناء عنها للحياة البشرية، فهي الأساس في الزراعة، الصناعة، والصحة العامة. ومع الزيادة السكانية السريعة، والتوسع الصناعي، وتغير المناخ، أصبح الطلب على المياه العذبة يفوق بكثير الإمكانيات المتاحة في العديد من المناطق حول العالم. ويُضاف إلى ذلك التوزيع الجغرافي غير المتساوي للمياه العذبة، حيث تتقاسم العديد من الدول أحواض أنهار وجداول مائية، ما يؤدي إلى تعقيد إدارة هذه الموارد وتحولها إلى نقطة احتكاك سياسية وجيوستراتيجية.

يُركز هذا المقال المقتضب على البُعد السياسي والجيوسياسي لندرة المياه، مع تحليل أسباب الأزمة المائية المتفاقمة، وأثرها على العلاقات الدولية، وإمكانية تطوير نظام حكامة دولي فعال وعادل، لتفادي النزاعات المحتملة وضمان توزيع عادل ومستدام للمياه بين الدول المتشاطئة.

 

ندرة المياه: بين العرض والطلب

تشير الدراسات العالمية إلى أن حوالي 97.5% من مياه الأرض مالحة، ولا تصلح للاستخدام المباشر، بينما يشكل الماء العذب نسبة 2.5% فقط من إجمالي الموارد المائية، ومعظمها غير متاح للاستهلاك البشري بسبب تواجده في الأنهار الجليدية أو المياه الجوفية العميقة (UNESCO, 2020). في المقابل، تضاعف الطلب العالمي على المياه أكثر من ثلاثة أضعاف خلال القرن الماضي نتيجة للنمو السكاني والتمدن والتطور الصناعي والزراعي.

تُشير التقديرات إلى أن أكثر من 2 مليار شخص يعيشون اليوم في مناطق تعاني من ضغوط مائية شديدة، وأن هذا العدد مرشح للارتفاع مع استمرار تغير المناخ وزيادة التصحر وتدهور جودة المياه بفعل التلوث (UN Water, 2019). كما أن ندرة المياه لا تنجم فقط عن قلة الكميات، بل كذلك عن ضعف البنية التحتية ونقص التمويل وعدم الكفاءة في إدارة الموارد.

 

الأحواض المائية المشتركة: بؤر صراع محتملة

واحدة من أكبر التحديات في إدارة المياه العذبة تكمن في كون أكثر من 260 حوض نهر دولي مشترك بين دولتين أو أكثر حول العالم (Wolf et al., 2003). هذه الأحواض تُغذي ملايين السكان، وتُستخدم للملاحة، الزراعة، والصناعة. ومن أبرز الأحواض المشتركة نهر النيل بين دول شرق أفريقيا، ونهر دجلة والفرات في الشرق الأوسط، ونهر الميكونغ في جنوب شرق آسيا.

تؤدي الطبيعة المشتركة لهذه الأحواض إلى تنافس شديد بين الدول على حصص المياه، حيث يمكن لأي تعديل في مجرى النهر أو بناء سد أن يؤثر بشكل مباشر على دول المصب. في ظل غياب آليات تعاون فعالة أو اتفاقيات ملزمة، يصبح هذا الوضع بيئة خصبة للنزاعات. فقد شهدت العقود الأخيرة أكثر من 500 نزاع مائي بين الدول، 20 منها وصلت إلى اشتباكات عسكرية (UN Water, 2013).

 

البُعد السياسي لندرة المياه

رغم وجود حلول تقنية متقدمة مثل تحلية المياه، وإعادة التدوير، والري الحديث، إلا أن جوهر أزمة المياه يكمن في البُعد السياسي. إذ تلعب عوامل القوة السياسية والاقتصادية دورًا محورياً في توزيع الموارد المائية، ويُصنف بعض الباحثين هذه الديناميات تحت مصطلح "الهيمنة المائية" (Hydro-Hegemony) (Zeitoun & Warner, 2006).

تعتمد بعض الدول القوية على المياه كأداة ضغط سياسي أو اقتصادي على جيرانها الأضعف، عبر التحكم في مصادر المياه أو تعديل تدفقها. وينعكس ذلك على العلاقات الدبلوماسية، ويُشكل تهديدًا للأمن الإقليمي. فعلى سبيل المثال، يعتبر ملف سد النهضة الإثيوبي في حوض نهر النيل نقطة توتر رئيسية بين إثيوبيا ومصر والسودان، حيث تصر كل دولة على حقوقها المائية في ظل غياب إطار قانوني دولي ملزم.

 

أهمية الحكامة المائية الدولية

أمام هذه التحديات، يتضح أن الحلول التقنية وحدها لا تكفي لضمان الأمن المائي. فالحكامة الفعالة تتطلب إنشاء إطار قانوني وسياسي دولي يحكم توزيع المياه ويشجع التعاون بين الدول المتشاطئة. وينبغي أن تستند هذه الحكامة إلى مبادئ العدالة، الشفافية، والمشاركة، وتعترف بالمياه كحق إنساني أساسي.

تُشير الأمم المتحدة إلى ضرورة تعزيز مؤسسات التعاون الإقليمي وتفعيل الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن استخدامات الأنهار الدولية للأغراض غير الملاحية (UN Watercourses Convention). كما تدعو إلى دمج إدارة المياه في استراتيجيات الأمن الوطني والدولي، وتبني ممارسات مستدامة تراعي التحديات البيئية والاجتماعية.

 

دور المجتمع الدولي والتحديات المستقبلية

يُعدّ المجتمع الدولي شريكًا حيويًا في دعم الحكومات على تطوير سياسات مائية متوازنة، عبر توفير الدعم المالي والفني، ونقل التكنولوجيا، وتعزيز الحوار السياسي. ومع ذلك، تظل هناك تحديات عدة تعيق تنفيذ ذلك، منها:

  • عدم تكافؤ القوى بين الدول المتشاطئة، مما يعرقل التوصل إلى اتفاقات عادلة.
  • ضعف الالتزام القانوني وعدم وجود آليات تطبيق فعالة على الصعيد الدولي.
  • تغيرات المناخ التي تزيد من تقلب وتوزيع الأمطار، مما يجعل إدارة الموارد أكثر تعقيدًا.
  • النزاعات السياسية القائمة التي تحول دون التعاون، وتزيد من مخاطر التصعيد.
  •  

نحو مستقبل مستدام: فرص التعاون

على الرغم من التحديات، يمكن للمياه أن تكون عاملًا موحدًا بدلاً من سبب للتنازع، إذ إن العديد من الدراسات وأمثلة التعاون الإقليمي أثبتت قدرة الدول على تجاوز الخلافات وتحقيق مكاسب مشتركة.

من ذلك، إنشاء لجان مشتركة لإدارة الأحواض المائية، تبادل البيانات والمعلومات، تنفيذ مشاريع مشتركة لتحسين البنية التحتية، وتبني تقنيات حديثة للترشيد في الاستخدام.

في ظل تزايد ندرة المياه، تتحول هذه الموارد الحيوية إلى عنصر محوري في السياسة الدولية، إذ يشكل التحكم في المياه أداة استراتيجية ذات أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية. إن غياب حكامة عالمية عادلة وفعالة يزيد من احتمالات تصاعد النزاعات، ويهدد استقرار العديد من المناطق.

لذلك، يبرز ضرورة العمل المشترك على بناء نظم حكامة دولية تراعي العدالة والاستدامة، وتعزز التعاون بدلاً من الصراع. إن مستقبل الأمن المائي العالمي يعتمد بشكل أساسي على مدى قدرة المسؤولين والحكام على تجاوز الخلافات السياسية، وتبني رؤية شاملة تدعم السلام والتنمية المستدامة.

عبد الواحد غيات ، باحث في العلاقات الدولية والجيوسياسية