Saturday 18 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الحي السملالي: الاختباء وراء الرمز السيادي: تآكل الحقل السياسي وتشويه الشرعية

عبد الحي السملالي: الاختباء وراء الرمز السيادي: تآكل الحقل السياسي وتشويه الشرعية عبد الحي السملالي
مقدمة: بين شرعية الرمز وإشكالية الاستغلال
في المشهد السياسي المغربي الراهن، تتجلى ظاهرة متنامية تُهدد المعنى الأصيل للشرعية: تحويل الرموز الوطنية إلى أدوات تبريرٍ بدل أن تبقى ركائز للسيادة والمساءلة. بالاستناد إلى منهج تحليل الخطاب السياسي ومفاهيم فلسفة السياسة، نسعى إلى تفكيك هذه الآلية التي تسيء إلى الرمز أكثر مما تحميه. إنّ تحوّل الملكية من حاملة للشرعية التاريخية والدستورية إلى غطاءٍ لغياب الإنجاز، يطرح إشكالاً فلسفياً عميقاً حول حدود الاستخدام المشروع للرموز السيادية.
 
المحور الأول: الملكية بين رداء السيادة وفخّ التوظيف
تُجسد الملكية في المغرب مؤسسةً سياديةً ترمز إلى وحدة الدولة واستمراريتها، غير أنّ الممارسة السياسية أفرزت انزياحاً خطيراً في وظيفتها العملية. وقد عبّر الملك محمد السادس عن هذا الانزلاق بوضوح في خطابه يوم 20 غشت 2017 حين قال:
“أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي يتم الاختباء وراء القصر الملكي.”
بهذا التحذير الدالّ، يضع الملك حدّاً فاصلاً بين الشرعية التاريخية ومنطق التبرير والهروب من المسؤولية. ويجد هذا السلوك صداه في مفهوم “التمويه السياسي” عند عبد الله العروي، حيث تتحول الرموز من حاملةٍ لقيم تاريخية إلى ستارٍ يغطي غياب الفعل الحقيقي. فالعروي يُحذّر من لحظةٍ يتحول فيها التاريخ إلى شعار، والمعنى إلى طقسٍ بلا مضمون.
 
المحور الثاني: آليات التوظيف الانتقائي للخطاب الملكي
شهدنا في السنوات الأخيرة ظاهرة دالة بعد كل خطاب ملكي: تسابق فاعلين سياسيين إلى ترديد شعارات مثل “الملكية المواكبة للعصر” أو “الإصلاح”، دون ترجمة هذه الشعارات إلى برامج ملموسة أو ممارسات مؤسساتية.
إنّ هذا التوظيف الانتقائي والمجتزأ ينتج ما وصفته حنّة أرندت بـ “أزمة الحقيقة في السياسة”، حيث يتحول الخطاب من أداة للمساءلة إلى وسيلة للتنصل من المسؤولية.
ومن أبرز مظاهر هذا التوظيف:
    •    تبرير التعيينات غير الكفؤة بشعارات الولاء الأعمى للقصر.
    •    استخدام مضامين الخطابات الإصلاحية كغطاءٍ لممارسات متناقضة ومنافية لروحها.
    •    تحويل الخطابات ذات العمق الفكري إلى شعارات جوفاء تُردَّد دون التزامٍ أو ممارسة.
وهكذا يتحول الخطاب من دعوةٍ إلى الإصلاح إلى واجهةٍ شكلية تُخفي غياب الإرادة الفعلية.
 
المحور الثالث: الاستعارة السلطوية وتشويه المنظومة الرمزية
إذا كان الرمز الملكي قد خضع لتوظيفٍ مفرط، فإن الرمز الديني بدوره لم يسلم من الاستغلال السياسي، خصوصاً من خلال مؤسسة إمارة المؤمنين. هذه “الاستعارة السلطوية” تسمح باستعارة هيبة الرمز وقدسيته لتبرير غياب الفعل الأخلاقي والمهني.
وكما يرى بيير بورديو، فإن هذا المسار يؤدي إلى “تشويه الحقل الرمزي”، حيث تختلط المعايير، وتفقد الرموز دلالاتها الأصلية والنافعة. في هذا السياق، يصبح المطالب بالتطبيق الصادق للقيم متهماً بالانتهازية أو المعارضة، بينما يُكافأ المتمسك بالشكليات على حساب الجوهر. هكذا تتقاطع السلطتان الرمزية والدينية لتُنتجا خطاباً يُخفي أكثر مما يُظهر.
 
المحور الرابع: أزمة التمييز بين الولاء والانتهازية
لقد أسهمت هذه الممارسات المتكررة في إنتاج أزمةٍ حقيقية في التمييز بين الولاء الوطني الصادق والانتهازية السياسية الخالصة. المفارقة أنّ من يُفترض أن يخضعوا للمحاسبة هم أنفسهم من يسارعون إلى استخدام الرموز التي يفترض أن يجسّدوها بأمانة كدروعٍ ضد النقد.
بهذا المنطق، يُعاد تعريف الولاء ليغدو أداةً انتقائية لتصفية الخصوم، لا ميثاقاً أخلاقياً لخدمة الوطن. وهو تشويه لا يطال السلوك السياسي فحسب، بل يضرب في صميم الشرعية الرمزية ذاتها، ويفقد المنظومة القيمية والأخلاقية مرتكزاتها وثقة الشعب.
 
خاتمة: نحو مصالحةٍ حقيقية بين الرمز والممارسة
إنّ دعوة الملك إلى تغيير العقليات تمثّل مدخلاً فلسفياً عميقاً لإعادة بناء العلاقة الجوهرية بين الرمز والممارسة. فالدفاع الحقيقي عن الملكية لا يتم بترديد الشعارات، بل بالالتزام بمضامين الخطابات الملكية، واحترام ميثاق الشرف، والاصطفاف إلى جانب خدمة الشعب لا فوقه.
وكما يؤكد عبد الله العروي: “الحداثة لا تُستورد، بل تُمارس.” والممارسة تبدأ بالصدق في القول، والوضوح في الموقف، والقطع مع التبرير الرمزي للفساد.
إنها معركة لاستعادة الشرعية الأخلاقية، لأن السياسة بلا صدقٍ تُفرّغ الرمز من معناه، وتُضعف الوطن من داخله.