يفكّك محمد خطابي، أستاذ جامعي سابق، تمظهرات الفساد داخل المجتمع المغربي، والذي ظل مستعصيا على التحقق، حتى أن المفسدين راكموا ثروات واجتهدوا في إحداث ثقوب في المساطر والقوانين".
ويرى الجامعي والكاتب الخطابي، في حواره مع جريدة "أنفاس بريس"،أن الفساد أخطبوط متعدد الأطراف يبيض ويتوالد ويتمدد كلما توافرت له البيئة المساعدة على النموّ والتَّعَمْلُق –لو جاز هذا التعبير- ولولا اتصافه بكل ما سبق لما تعددت المؤسسات الموضوعة لمحاربته؛ أي أن تعددها اعتراف بأنه تغوّل واستشرى".
ويرى الجامعي والكاتب الخطابي، في حواره مع جريدة "أنفاس بريس"،أن الفساد أخطبوط متعدد الأطراف يبيض ويتوالد ويتمدد كلما توافرت له البيئة المساعدة على النموّ والتَّعَمْلُق –لو جاز هذا التعبير- ولولا اتصافه بكل ما سبق لما تعددت المؤسسات الموضوعة لمحاربته؛ أي أن تعددها اعتراف بأنه تغوّل واستشرى".
أُذَكّر بداية بأن أحد الشعارات المركزية التي رفعت في حراك فبراير 2011 شعارُ «الشعب يريد إسقاط الفساد»؛ فاتخذته بعض الأحزاب شعارا محورياً في دعايتها الانتخابية. كان هذا منذ أربعة عشر عاماً. وبين ذاك اليوم واليومَ تناوب على رئاسة الحكومة حزبان قضى أحدهما عشر سنوات في تدبير الشأن الحكومي، والآخر أربع سنوات حتى الآن.. والملاحظ أن الحزبين معاً «تمتعا» بأغلبية مريحة «لم تتوافر لمن سبقهما» في مجلس النواب. لكن المستغرب أن الشعار المركزي «إسقاط الفساد» ظل شعاراً مستعصياً على التحقق. هل الحكومات جادة في مسعاها لمحاربة الفساد أو القضاء عليه أو حتى تقليص درجة تغوّله؟ أشك في ذلك. هذا إن لم تكن آلة الفساد أقوى وأكبر من الحكومات المعنية؛ وهذا أمر مستبعد. في ظني أن دلالة ذلك وجود بنية قوية، أو لوبيات قوية وجودها رهين بوجود الفساد، وكلما اتسعت رقعته راكم هؤلاء «أعني المفسدين» ثروات واجتهدوا في إحداث ثقوب في المساطر والقوانين..
شعارات ترفع وثقوب في المساطر والقوانين
على أن الموضوعية تقتضي إضفاء نسبية مهما كانت ضئيلة على الأمور. لو كانت كل المؤسسات فاسدة، أو العاملون فيها جميعهم فاسدين لانهارت تلك.. لذا وجب التنبيه إلى أن في المؤسسات المغربية رجالا ونساء يعضون على الاستقامة والنزاهة والعفة والقناعة بالنواجذ؛ على اختلاف درجاتهم في السلم الإداري والمسؤوليات. بيد أن هذا لا يعني الاستمرار في التعويل على هذه القلة؛ ولذا وجب على الساهرين والساهرات على احترام القانون وتنفيذه أن يضاعفوا جهودهم لألاّ يأتي المفسدون على الأخضر واليابس، أو على الأقل ما تبقى من الأخضر... وعلى الجملة لو لم توجد أطراف وجهات تذكي الحماس في الفاسدين والمفسدين، وربما توفر لهم الحماية لما استفحل الأمر وعمّ البرّ والبحر بل حتى الجبل! كل ذلك لم يمنع من وجود مؤسسات بلغ فيها التخليق درجة كبيرة، ولذا تحظى عند المواطنين المغاربة بثقة كبيرة، وفي الطرف الآخر ثمة مؤسسات تحتل الدرجات الدنيا في سلم ثقة المواطنين المغاربة. هذا ما تدل عليه نتائج الاستبيانات التي تنشر في الناس بانتظام. أعتقد جازما أن انهيار التعليم – هذا الانهيار بعضه مقصود وبعضه عرَضي لكنه نَجَمَ عن المقصود، تجلى ذلك في تواتر مِعْول «الإصلاح» منذ العقد الثامن من القرن الماضي حتى يوم الناس هذا - في المغرب وتلاشي بنيات موازية له كانت تسهم في أداء الدور المنوط بالتعليم... كل ذلك أنْبَت «في غفلة من الأُسر» قيماً وأنماطَ سلوك وفّرت تربة خصبة لنموّ «علم» الفساد والغش وتكاثر المفسدين حتى اتسع الخرق على الراقع.
الفساد أخطبوط متعدّد الأطراف يبيض ويتوالد ويتمدّد
الفساد أخطبوط متعدّد الأطراف يبيض ويتوالد ويتمدّد
إن الفساد أخطبوط متعدد الأطراف يبيض ويتوالد ويتمدد كلما توافرت له البيئة المساعدة على النموّ والتَّعَمْلُق «لو جاز هذا التعبير» ولولا اتصافه بكل ما سبق لما تعددت المؤسسات الموضوعة لمحاربته؛ أي أن تعددها اعتراف بأنه تغوّل واستشرى. لكن هل تمكنت من تطويقه بلْه القضاء عليه؟ الواقع أبلغ نطقاً وحكماً. الفساد ثقافة له «علماؤه»، و«فقهاؤه»، و«أساتذته» و«منظروه»، و«محاموه»، و«باحثوه»، و«مفكروه»، و«مستشاروه»، و«المدافعون عنه» و«مزكّوه»... وهؤلاء يُعدون بالآلاف؛ وفي الضفة المقابلة: كم عدد أفراد النيابة العامة؟ كم عدد قضاة المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية؟ كم عدد أعضاء الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة؟ كم عدد المفتشين العامين في كل قطاع وزاريّ؟ ويمكننا التساؤل أيضاً عن الصلاحيات القانونية المخوَّلَة لبعض هذه المؤسسات. هل ينتهي عملها بنهاية التحقيق في واقعة من الوقائع «بحكم القانون المنظم لعملها»؟ ما مصير تلك التحقيقات؟ وأقوى مثال على هذا تقارير المجلس الأعلى للحسابات. بحسب علمي، معظم الملفات التي أحيلت على القضاء أحيلت بدعاوى رفعتها جمعيات حماية المال العام، أو جمعيات حقوقية... علاوة على هذا كم تمثل الملفات المحالة على القضاء من مجموع التقارير؟ (أما إذا وُضِع حدّ لانتصاب الجمعيات المذكورة طرفاً في حماية المال العامّ فانتظر الساعة !!). كم عدد الملفات التي أحالها الوزراء «بحكم إشرافهم على قطاع ما؟» على القضاء ليبت فيها؟ كم عدد الملفات التي أحالها البرلمان على القضاء نتيجة لجان التحقيق التي يحدثها؟ وفي الأخير ما مآل المحكومين؟ وهل الأحكام الصادرة قادرة على الردع؟ «مع التذكير بأن القاضي يُصدر الحكم بناء على القانون الساري». ثمة شِقٌّ آخر قد لا يلفت الانتباه. أعني ما يحدث في القطاع الخاص.. هو الآخر لا يمكن أن يستثنى من هذا الأمر إما باعتباره ضحية أو «فاعلاً».
هل صار الفساد ركيزة خامسة في البلاد؟
هل صار الفساد ركيزة خامسة في البلاد؟
على كل حال، بإمكان المجتهد أو المؤوّل أن يعتبر الأمر كذلك، أعني بخصوص الركيزة والعقيدة. أما في رأيي فلا أصادق على هذا، وإلا لاعتبرنا البلاد كلها والمجتمع كله فاسداً، وهذا أمر لا يستقيم. إذ لو صحّ ذاك لوجب الاستغناء عن جميع المؤسسات الرقابية والرادعة.
في اعتقادي أن الدواء يكمن في إعمال آلات الهدم والتفكيك في بنيات الفساد وأسبابه، وأن يكون ذلك إحدى أولويات المؤسسات الدستورية، علاوة على مراجعة الجزاءات. ذلك أن من يخون الأمانة، ويُخلّ بمسؤوليته عن سبق علم وإصرار، أو يُعمِل النهب في المال العام... قد أسقط عن نفسه حقوق المواطنة إلى أجل مسمّى، على الأقلّ (كالذي ينهب الأموال المرصودة للتنمية البشرية، أو محاربة الفقر، أو يغش في مشاريع البنيات الأساسية، أو يبيع الشهادات) بمختلف أشكالها، وتنوّع الجهات المُصْدرة لها «التعليم، الصحة...»، أو ينشر المخدرات والأقراص المهلوسة في أفراد المجتمع، أو يصرّ على بيع المواد الفاسدة أو احتكارها، أو يأكل أموال الناس بالباطل... وتلك أمثلة فحسب سقناها لينوب المذكور عن غيره...). هذه آفات تفتح الباب مُشرَعاً أمام الفتنة بل الفتن. وجه الفتنة في هذا أن مرتكب الفعل فرد أو أفراد معدودون، غير أن من يدفع الثمن يعدون بالآلاف إن لم نقل الملايين.. ومن ثمة يكون الثمن غالياً نراه بالعين المجردة مجسَّداً في المفقَرين، والمهمَّشين، والمحرومين، ومظاهر الغش بكل أنواعه الظاهرة والخفية...