نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات والأبحاث في حضارة المغرب و تراث المتوسط " ومؤسسة فهارس لخدمات الكتاب، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف، وذلك يوم الأربعاء 14 ماي بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات والشهادات تضمنها كتاب جماعي بعنوان :" التنوير أفقا " قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية.
" أنفاس بريس " تنشر النص الكامل لمساهمة الأستاذ عبدالله ساعف () التي أختار لها كعنوان : " كمال عبد اللطيف وجرأة الفكر ":
ليــس مــن الســهل الحديــث عــن عاقــة الصداقــة العميقــة والمتواصلــة والممتــدة علـى أكثـر مـن خمسـين سـنة، التـي تربطنـي بكمـال عبد اللطيـف. أعتبرهـا عاقة اسـتثنائية علــى المســتوى الشــخصي والإنســاني والمهنــي، نظــرا لتقاطــع اهتماماتنــا (هــو كأســتاذ فلسـفة، وأنـا كأسـتاذ في علـم السياسـة) أولًا، ونظـرا لمـا تتميّز بـه العاقة تلك مـن توافقات علـى المسـتوى الفكـري والثقـافي العـام ثانيـاً، وليسـمح لـي كمـال أن أضيـف، بـأن عاقتنا تميزت أيضا بوجود كثير من أسباب التوافق على المستوى الإيديولوجي.
أعتـبر كمـال عبـد اللطيـف، اسـما بـارزا، وأثـرا دالا داخـل مشـهدنا الثقـافي، نظـرا لإســهاماته الفكريــة النوعيــة والجــادة والصلبــة. لا يتجلــى الحضــور الفعــال لكمــال في آثـاره المكتوبـة، وإنمـا يتجلـى في الآن نفسـه، في مواقفـه ومسـاره الثقـافي خـال العقـود الأربعـة المنصرمـة. لقـد ارتسـمت مامـح موقعـه الفكـري، منـذ نشـر أعمالـه الأولـى في بدايــات الثمانينيــات، وغيــر خــاف أن تلــك البدايــات، كشــكّلت بالنســبة إلينــا جميعــا حينهــا، فضــاء لتحركاتنــا وآمالنــا وتأماتنــا وكتاباتنــا، كل في مجــال اهتمامــه، وهــي مــا تــزال مفتوحــة علــى آفــاق لــم تقــل كلمتهــا النهائيــة في الوقــت الراهــن، حيــث يواصــل الأخ كمـال عبـد اللطيـف تأكيـد حضـوره الفكـري والثقـافي المتنـوع والمتقـدم والمتميـز، بالرجوع المستمر إليها تأما وتفكيرا وتحليا.
تعـود عاقتـي بكمـال عبـد اللطيـف إلـى مطلـع الثمانينيـات، وبالضبـط إلـى سـنة 1984، حيــث تعرفــت عليــه في مناســبات فكريــة عديــدة، حصــل فيهــا تبــادل للأفــكار بيننــا حــول قضايــا أساســية في حياتنــا الفكريــة والسياســية، الوطنيــة والعربيــة والكونيــة.
كمــا تبادلنــا آراءنــا في القضايــا المرتبطــة بالاشــتراكية والليبراليــة والاســتبداد، وكــذا موضــوع الديمقراطيــة، والقضايــا العربيــة والإســام. لقــد ألفنــا أن نتبــادل الــرأي في أغلـب الأحيـان في إطـار التفاعـل مـع الأحـداث الكـبرى، التـي تحصـل داخـل المغـرب أو في الوطـن العربـي أو في العالـم، الأحـداث التـي كانـت موصولـة بالتحـولات الجاريـة بـدون انقطـاع في المغـرب ومحيطـه القريـب والبعيـد. وقـد وجـدت في كمـال أثنـاء ذلـك منصتا ومحاورا جيداً.
إننـي أشـعر، وأنـا أكتـب هـذه الأسـطر، أن عاقتنـا ترسـخت منـذ بدايتهـا انطاقـا مــن الثمانينيــات إلــى اليــوم، بفعــل هــذا التبــادل والاهتمــام المشـترك بقضايــا السياســية وتحولاتهــا. وزادهــا رســوخا تلــك العــادة المســائية التــي درجنــا عليهــا منــذ تعارفنــا، حيــث كنــا نلتقــي ونتحــاور أكثــر مــن مــرة في الأســبوع بشــكل منتظــم وفي أماكــن ثابتــة، ممــا أدى إلــى نمــو ونضــج العاقــة فيمــا بيننــا، وطبعهــا بطابــع انســاني، يضــاف إلــى محتواهــا الغنــي بالجــدل في الأمــور العلميــة والثقافيــة. ولعــل ذلــك مــا كان يســهل التقــارب الــذي كنــا نحــس بــه فيمــا بيننــا علــى مســتوى الأفــكار والميــولات الفلســفية والسياسـية، حتـى وإن اختلفنـا أحيانـا في بعـض القضايـا، مثلمـا حصـل في موضـوع أزمـة الخليـج في بدايـة التسـعينات، إلا أن تمايزاتنـا واختافاتنـا كانـت تثـري وتعمـق نقاشـاتنا وتســاؤلاتنا، كمــا كانــت تقــوم علــى كثيــر مــن الاحــترام المتبــادل. إن القــول بوجــود توافقــات بيننــا في الفكــر والسياســة، لــم يكــن ليلغــي مــا بيننــا مــن اختافــات أحيانــا في التحليل والتقدير.
أذكــر في هــذا الســياق أيضــا، حيــث تَرَسُّــخ عاقــة الصداقــة بينــي وكمــال عبــد اللطيـف، أنـه كانـت لنـا سـفريات كثيـرة إلـى العديـد مـن البلـدان العربيـة: الأردن، ليبيـا، الســودان، مصــر، العــراق، لبنــان، الجزائــر، تونــس... وأشــهد كصديــق، و كمخاطِــب لكمــال ومتحــاور معــه، علــى تمســكه وارتباطــه بــكل القضايــا العربيــة الأساســية (فلســطين،بناء الدولــة العربيــة، الإصــاح السياســي)... مــن زاويتــه الخاصــة، المتميــزة بتفعيلهـا لمبـدأ إعمـال العقـل، والمصلحـة، ومتطلبـات التقـدم والحداثـة... وقـد كانـت رحاتنـا هـذه، تمتـزج بوقائـع وأحـدث كـبرى تخـترق المنطقـة، وتتيـح الفرصـة للنقـاش مــع معالــم فكريــة كبيــرة، وخاصــة مــع الأســماء المعروفــة في الوطــن العربــي مــن قبيــل: محمـد عابـد الجابري،كريـم مـروة، الطيـب تيزينـي، محمـود أميـن العالم، السـيد ياسـين، إلياس مرقص، سمير أمين، على سبيل المثال لا الحصر.
توجـد عنـد كمـال عبـد اللطيـف جوانـب مثيـرة لاهتمـام، وعلـى رأسـها ارتباطـه بالسـؤال الفلسـفي، فكثيـرا مـا تميـز كمـال عبـد اللطيـف بنظرتـه الفلسـفية إلـى القضايـا الفكريـة في الثقافـة العربيـة المعاصـرة، حيـث كان ينتقـل إلـى قلـب السياسـة، انطاقـا مـن أسـئلته الفكريـة العميقـة، ويرجـع إلـى قلـب الفلسـفة، مـزودا بأسـئلة السياسـية والواقـع. وقـد أظهـرت أعمالـه أن هـذه المراوحـة بيـن فعـل السياسـة وصرامـة الفلسـفة، مفيـدة في عملية إغناء كليهما.
تعـبر أعمـال كمـال عبـد اللطيـف عمّـا طبـع مسـار صاحبهـا مـن اسـتمرارية مثيـرة، حضـر فيهـا السياسـي والفلسـفيّ معـا، وعندمـا نسـتعرض محـاور هـذا المسـار، يمكـن أن نذكــر: الليبراليــة، والعلمانيــة، والعقــل، والمصلحــة، والأنــوار، والتقــدم، وحقــوق الإنســان، والديمقراطية...إلــخ. إنهــا مجــالات اهتمــام واســعة ومهمــة، تعكــس ثوابــت كمـال عبـد اللطيـف في الفكـر وفي الحيـاة، ولا أعـرف أنـه تخلـى لحظـة واحـدة عنهـا أو نســيها أو حــاذ عنهــا. ولعــل مــا يميــز تجربــة كمــال، وهــو يخــوض في تلــك المجــالات والأسـئلة، هـو قدرتـه علـى الانتقـال مـن الواقـع إلـى الفكـر، ومـن الأفـكار إلـى الوقائـع بساسـة، تنـمّ عـن دربتـه في مواجهـة الوقائـع والأفـكار، بغيـة تحصيـل الفهـم والتحليـل واستخاص النتائج.
لكمــال عبــد اللطيــف خصــال عديــدة، وربمــا يــأتي في مقدمتهــا تواضعــه وقدرتــه علـى الاسـتماع الجيـد لأفـكار الآخريـن، ويكفـي شـاهدا علـى هـذه الخصلـة، مـا أنتجـه معرفيـاً في كتاباتـه الأولـى، التـي شـملت قـراءات وتعاليـق علـى كتـب الجيـل السـابق مـن المفكريــن مثــل العــروي، الجابــري، وآخريــن، وقــد نشــرت في مصنفــات مــن قبيــل: «الحداثـة والتاريـخ»، «قـراءات في الفلسـفة العربيـة المعاصـرة»، «أسـئلة الفكـر الفلسـفي في المغـرب.» إلا أن كمـال عبـد اللطيـف لـم يقتصـر في إنتاجـه الفكـري المتواصـل علـى تقديـم مـا قالـه الآخـرون، وتأطيـر ذلـك في إطـار بيداغوجـي، أو في أعمـال ترجمـة، كمـا فعـل وهـو يترجـم بعـض مقـالات جـان بييـر فرنـان في الثمانينيـات علـى سـبيل المثـال، ولكنــه، ســعى بإصــرار إلــى تجــاوز ذلــك بتأصيــل المواقــف، ومســاءلتها، عـبر ممارســة مختلف عمليات التأمل والتفكير وإعادة البناء حينما يقتضي الأمر كل ذلك.
في هــذا الصــدد، ســأغامر بالتمييــز بيــن بعــض التمظهــرات التاريخيّــة للإنتــاج الفكري لكمال عبد اللطيف:
- يتسـم التمظهــر الأول بتركيـزه علـى دراســة الأوجـه الأساســية للفكـر العربـي المعاصــر مــن خــال الاهتمــام بشــخصيات ولحظــات معــبرة ومؤسســة (ســامة موســى، الطهطــاوي، خيــر الديــن التونســي، الآداب الســلطانية)..، كمــا اعتنــى في هــذه المرحلــة بمفاهيــم دالــة (الهوية،الحريــة، الدولــة العربيــة، المواطنــة)..، وبإشــكالية مؤسســة (الإصــاح السياســي، الفكــر الفلســفي، النهضـة العربيـة.).. ومـن الواضـح أن هـذا الصنـف مـن الكتابـات لـم يتوقـف ولن يتوقف..
- لكــن في محطــة مــا، بــدأ الأســتاذ كمــال ينشــر عــددا مــن النصــوص، تمتــزج بالفعـل السياسـي والمواقـف. وقـد تابـع قـراءه، وأنـا منهـم، باهتمـام بالـغ، مـا ينشــره مفكرنــا مــن نصــوص لهــا فرادتهــا وجاذبيتهــا شــكا ومضمونــا، حــول القدس، المقاومة، الحروب...إلخ.
أريـد أن ألفـت النظـر في هـذا السـياق، إلـى كـون كمـال عبـد اللطيـف يعيـش الآن في المســتوى الفكــري انطاقــة جديــدة، عـبر أعمالــه الصــادرة مؤخــرا مــن قبيــل أســئلة النهضــة العربيــة الصــادرة ســنة 2003، وأســئلة الحداثــة في الفكــر العربــي الصــادر ســنة 2010، حيـث تكشـف هـذه الأعمـال نوعيـة التطويـر الـذي بلغـه صاحبهـا، وهـو يقـارب أســئلة الحداثــة والنهضــة والإصــاح في الفكــر العربــي.. كمــا تتجلــى هــذه الانطاقــة الجديــدة في مشــاركته الفاعلــة في التقاريــر الصــادرة عــن برنامــج الأمــم المتحــدة للســنوات الأخيــرة حــول المنطقــة العربيــة في مواضيــع المعرفــة، الحكامــة الجيــدة، المــرأة.. الــخ، وفي تماريــن أخــرى مــن الطبيعــة نفســها، مثــل التقريــر الثقــافي العربــي، الــذي كان يصــدره المجلــس القومــي للثقافــة العربيــة في موضوعــات المشــروع الثقــافي العربـي، مشـروع النهضـة العربيـة، وذلـك في انسـجام تـام مـع منطلقاتـه وقناعاتـه الثابتـة، وهــو مــا يؤكــد قــدرة كمــال علــى الانتقــال الســلس بيــن أســئلة الواقــع السياســي، والموجهات الفلسفية للنظر والتحليل:
أريد أن أختتم هذه التحية بالتذكير بجانبين أساسيين:
أولا، عـبر لقـاء كان مـع الأصولـي حسـن الترابي في بيـت هذا الأخيـر في الخرطوم، في أواخــر الثمانينيــات، وكان الترابــي آنــذاك في أوج نفــوذه السياســي. نمــا بيننــا نقــاش قــوي حــول المرجعيــات في الفكــر والسياســة، حيــث لــم يــتردد كمــال في التعبيــر عــن
مواقفـه، وهـو يتموقـع في قلـب الحداثـة والعقانيـة والعلمانيـة والتاريـخ ...إلـخ، حينمـا كنــت أنــا ألتــف عــن المواضيــع الخافيــة نظــرا لمــا أعرفــه عــن حربائيــة السياســي، وحـدود الفكـر في السياسـة كمـا كان يمارسـها الترابـي. وهـذا الجانب المتعلـق بالوضوح الفكري وشجاعة الجهر بالرأي من الخصال الأساسية لشخصية كمال.
الجانــب الثــاني، يتجلــى في حرصــه علــى التفاعــل المســتمر مــع القضايــا العربيــة الكـبرى، حيــث لمســت في مقالاتــه وكتبــه وآرائــه، إصــرارا علــى معــاودة النظــر في هــذه القضايــا وتحييــن طــرق مســاءلتها، في ضــوء مــا يطــرأ عليهــا مــن تطــورات، خاصــة بعــد تلـك الهزائـم والانكسـارات وخيبـات الأمـل الأخيـرة، في القضيـة الفلسـطينية ومحطاتهـا المختلفــة، وفي القضايــا اللبنانيــة، ثــم القضايــا التــي توالــت في العــراق، وفي المشــرق العربي بعد أزمة الخليج.