ما حدث في ما بات يعرف إعلاميا بفضيحة "قيلش"، التي يتهم فيها أستاذا جامعيا بتزوير شواهد أكاديمية، ليس مجرد حالة فساد عابرة أو خطأ فردي معزول. بل هو تجلٍّ صارخ لانهيار منظومة من القيم، وتواطؤ ضمني – أو معلن أحيانا – مع ثقافة الريع والاحتيال، التي باتت تتغلغل في مؤسسات يفترض أن تكون الحصن الأخير لحماية النزاهة والكفاءة، وعلى رأسها الجامعات.
من يفترض أن يكون حارسا للعلم، وراعيا لتكافؤ الفرص بين الطلبة، يتحول إلى سمسار يبيع الوهم مقابل المال أو النفوذ. إنها خيانة مضاعفة: خيانة للمهنة، وللطلبة، وللمجتمع بأسره. فالشهادة الجامعية لم تعد تعني شيئا إن كانت قابلة للتزوير أو الشراء، ولم تعد مقياسا للكفاءة إن كان الحصول عليها لا يمر عبر الاستحقاق.
الخطير في الأمر أن تزوير الشهادات لا يقف عند بوابة الجامعة. بل إنه يسمح لأشخاص غير مؤهلين بولوج مناصب المسؤولية، أو ممارسة مهن حساسة كالهندسة، التعليم، الطب، أو القضاء. تخيل مثلاً قاضيا أو طبيا أو أستاذا أو مهندسا بشهادة مزورة، وكم سيكون الثمن باهظا من حيث الأخطاء، والظلم، وحتى الأرواح. هذا النوع من التزوير هو تهديد مباشر للأمن المجتمعي والاقتصادي.
قضية "قيلش" ليست أولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة إن لم يكن هناك تحرك حازم. سبق أن تابعنا قضايا من قبيل "الماستر مقابل المال" في أكثر من جامعة، أو حوادث تسريب الامتحانات الوطنية، أو حتى بيع نقط التقييم داخل بعض الكليات. هذا يدل على أن الخلل بنيوي، لا يقتصر على شخص أو مؤسسة بعينها، بل يعبّر عن ثقافة فساد منتشرة و ربنا مسكوت عنها.
الأستاذ الذي يزور شهادة يجب أن يتابع قضائيا. ولكن الشخص الذي يشتريها يجب أيضا أن يُعاقب ، لأنه شريك في الجريمة، بل مستفيد مباشر من الغش. كما يجب التحقيق في دور المؤسسات الجامعية التي لم تكتشف التزوير إلا بعد فضحه في الإعلام، ما يطرح تساؤلات حول ضعف المراقبة، أو ربما تواطؤ بعض الجهات.
من الضروري تشديد العقوبات على كل من يدان بتزوير أو استعمال وثيقة جامعية مزورة، و إحداث لجان مستقلة تراقب وتتبع طرق منح الشهادات والماسترات والدكتوراه. و اعتماد نظام رقمي يمكن من تتبع مصدر كل شهادة ومن وقعها وبهذا يغلق باب التزوير.
ما وقع في فضيحة "قيلش" ليس استثناء، بل مرآة تعكس حجم الخلل في التعليم العالي. وإذا لم نبادر بإصلاح جذري، فسنُسلم زمام المستقبل لجيل من "الشكليات"، بلا علم، ولا قيم، ولا كفاءة. إنقاذ الجامعة من هذا التردي يبدأ بتطهيرها من المتلاعبين، وتحصينها ضد البيع والشراء، لأنه حين تُشترى الشهادات، تُباع الأوطان.