Sunday 4 May 2025
كتاب الرأي

مصطفى عنترة: المغرب ومبادرة الأطلسي.. رؤية ملكية لتوازنات جيوستراتيجية جديدة في إفريقيا

مصطفى عنترة: المغرب ومبادرة الأطلسي.. رؤية ملكية لتوازنات جيوستراتيجية جديدة في إفريقيا مصطفى عنترة
في خضم التحولات المتسارعة التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء، ومع تراجع النفوذ الفرنسي التقليدي، يبرز المغرب كفاعل محوري لا يكتفي بمتابعة الأحداث، بل يشارك في صياغة ملامح النظام الإقليمي الجديد، مستندًا إلى رؤية ملكية متبصّرة واستشرافية.

تعيش المنطقة المغاربية والإفريقية ديناميات عميقة تُعيد رسم خرائط التوازنات الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق، يواصل المغرب تفعيل دبلوماسية نشيطة وذكية، يقودها جلالة الملك محمد السادس، قوامها رؤية تنموية عابرة للحدود تُعلي من شأن التعاون الإقليمي وتُقدّم الأمن والاستقرار كمدخلين رئيسيين للتنمية المستدامة.

ويأتي اللقاء الذي جمع جلالة الملك بوزراء خارجية مالي وبوركينا فاسو والنيجر ليؤكد البعد الاستباقي للمبادرة المغربية، في لحظة تشهد فيها المنطقة محاولات متكررة لتشكيل تكتلات بديلة، كقمة الجزائر التي جمعت تونس وليبيا. لم يكن اللقاء الملكي مجرد ردّ دبلوماسي، بل تعبيرًا عن فعل استراتيجي يراهن على بناء تحالفات عقلانية ومستقبلية.

وتُعزّز متانة العلاقات المغربية مع القوى الأوروبية، وخصوصًا فرنسا وإسبانيا، هذا التوجّه، إذ أصبح دعمهما لمبادرة الحكم الذاتي في الصحراء أكثر وضوحًا وتماسكًا. في المقابل، تبدو الدبلوماسية الجزائرية محاصَرة بين شمال أوروبي يتقارب مع الرؤية المغربية، وجنوب إفريقي يشهد انفتاحًا متزايدًا على المقاربة التنموية التي يقترحها المغرب.

وسط هذا الحراك الجيوستراتيجي، تتشكل توازنات جديدة إثر الفراغ الذي خلّفه انسحاب فرنسا من مناطق نفوذها التقليدية، في وقت تحاول فيه قوى دولية مثل روسيا، والصين، وتركيا ملأ هذا الفراغ من خلال توسيع علاقاتها بالقارة الإفريقية وتنظيم قمم شراكة استراتيجية معها.

وفي هذا السياق، يُقدّم المغرب نفسه كقوة إقليمية صاعدة لا تسعى إلى الهيمنة أو فرض النفوذ، بل إلى دعم التعاون جنوب-جنوب، وهو ما شكّل العمود الفقري للسياسة الإفريقية للمملكة طيلة العقدين الأخيرين.

ويكتسي الساحل الأطلسي اليوم أهمية استراتيجية متزايدة، بعدما تحوّلت الأقاليم الجنوبية إلى بوابة المغرب نحو إفريقيا ونافذته على الأطلسي، إلى جانب كونها ركيزة جديدة للربط الجغرافي والاقتصادي مع أوروبا والأمريكتين.

وتندرج المبادرة الأطلسية، التي أعلن عنها جلالة الملك محمد السادس، ضمن هذا التوجه الرامي إلى تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي، عبر ربط بنياتها التحتية المحدودة بالشبكات المغربية المتطورة من موانئ وطرق وسكك حديدية. إنها مبادرة تتجاوز الأبعاد الاقتصادية، لتُعبّر عن مشروع جيواستراتيجي متكامل يُسهم في فكّ العزلة، وتعزيز الاندماج الإقليمي، وتكريس التضامن جنوب–جنوب.

وتؤكد هذه المبادرة عمق الرؤية الملكية وبعد نظرها، كما تعكس دينامية وفعالية الدبلوماسية المغربية بقيادة وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي ناصر بوريطة، الذي نجح في تسويق المبادرات الملكية في المحافل الدولية، خاصة ما يتعلق بمقترح الحكم الذاتي في إطار مسار سياسي يحظى بدعم متزايد.

ويُعدّ مشروع ميناء الداخلة الأطلسي أحد الركائز الأساسية لهذه المبادرة، إلى جانب شبكة الطرق السريعة، والمنصات اللوجستيكية، ومشاريع الربط الكهربائي، التي تعزّز مكانة المغرب كقاطرة اقتصادية لمنطقة الساحل وغرب إفريقيا.

ولا تنحصر دينامية المغرب في الجوانب الدبلوماسية فحسب، بل تمتد إلى المستويات الأمنية والاقتصادية، حيث يبرز كمساهم رئيسي في جهود مكافحة الإرهاب ضمن الاستراتيجية الدولية بقيادة الولايات المتحدة. هذا التموقع الجديد يكرّس نجاعة المقاربة المغربية التي تمزج بين الحكمة السياسية والفعالية الاقتصادية.

لقد ولّى زمن الاكتفاء بالمراقبة، وبدأ عهد المغرب المُبادر. وتُعدّ المبادرة الأطلسية حلقة جديدة في سلسلة مبادرات استراتيجية تُعزّز الحضور المغربي في إفريقيا، وتُجسّد رؤية ملكية تؤمن بأن السياسة الخارجية يجب أن تُسخّر لخدمة التنمية، وأن الجغرافيا يمكن أن تتحول إلى فضاء للتكامل بدل الصراع.

فالرهانات الجيوسياسية لا تُواجه بالشعارات ولا بالمواقف الظرفية، بل تُجابه برؤية استراتيجية بعيدة المدى، كما يفعل المغرب اليوم. وحين تتحوّل السياسة إلى رافعة تنموية، نكون أمام دولة بحجم رؤية ملكها.