Sunday 4 May 2025
كتاب الرأي

رشيد صفـَـر: اليوم العالمي لحرية الصحافة و البونيطة

رشيد صفـَـر: اليوم العالمي لحرية الصحافة و البونيطة رشيد صفـَـر
اليوم يا سادة يا كرام 3 ماي 2025، يحتفل العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة .. وهي مناسبة للحديث عن رمزية هذا اليوم وأيضا حادثة تمزيق بونيطة موقع "آش نيوز"، من طرف المغنية "دنيا بطمة" .. في العرض ما قبل الأول لفيلم البوز.
 
دائما يُقال أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، اعتمدت 3 ماي يوما عالميا لمهنة المتاعب خلال سنة 1993، لكن قليلا ما يُذكر أن هذا الإعلان جاء نتيجة اجتماع صحفيين أفارقة مستقلين في 3 ماي سنة 1991، إذ طالبوا في ذلك اللقاء التاريخي بإعلام حر وتعددي ومستقل في القارة الإفريقية، كما أكدوا حينها على أهمية حرية التعبير كحق أساسي من حقوق الإنسان. وقد اعتُبرت هذه المبادرة حجر الأساس لإطلاق هذا التقليد الرمزي، ويعود الحدث إلى "إعلان ويدنهوك"، الصادر خلال مؤتمر نظمته منظمة اليونيسكو في عاصمة ناميبيا "ويدنهوك"، واليونسكو هي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، ومقرها هو 7 ساحة فونتوني، باريس 75007، فرنسا .. تأسست عام 1945 بهدف تعزيز التعاون الدولي في مجالات التعليم والثقافة والعلوم، وضمان احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وتقوم هذه المنظمة بدور هام في الدفاع عن حرية الصحافة، وتدعو سنويا للاحتفال بهذه المناسبة من خلال تنظيم فعاليات ولقاءات، لتكريم أهل الصحافة ضمن مبادرات إعلامية، تدافع عن الكلمة الحرة وتواجه التضليل والعنف، وقد تزامن هذا السياق التاريخي مع مرور ثلاثة أيام على "حادثة البونيطة" التي وقعت خلال العرض ما قبل الأول لفيلم "البوز"، الذي احتضنته قاعة ميغاراما بمدينة الدار البيضاء، مساء الأربعاء 30 أبريل 2025، في الواقعة التي شغلت الرأي العام، بعد انتشار مشهد سحب بطلة الفيلم، دنيا بطمة، لميكروفون أحد صحافيي موقع "آش نيوز"، وما رافق الواقعة من جدل حول ما وُصف  بـحادثة "تمزيق مغنية لبونيطة صحفي".

بمجرد تصفح الهاتف المحمول، يصلك الخبر، وما قبله، وما بعده، وآراء المؤيدين والمعارضين، وتعليقات وفيديوهات المدافعين والمهاجمين.

لكن، لا يمكن القبول بتمزيق "بونيطة" صحفي كمبرر لرفض الإدلاء بتصريح إعلامي. فحتى في حالة الامتناع عن الحديث مع الصحافة، لا يُعد ذلك مبررا للانفعال أو الاندفاع والعنف، ومن المعلوم أن لا العرف ولا القانون يُلزمان أي شخص بالإدلاء بتصريح صحافي، حتى وإن كان الموقع الإلكتروني حاصلا على الملاءمة القانونية، وهي إذن فرصة للحديث عن البونيطة ..  تلك القطعة الإسفنجية، التي تتعدد ألوانها ورموزها وحروفها، لكنها في جوهرها، تمثل رمزا مهنيا واختزالا بصريا لهوية مؤسسة صحفية.

إنها أشبه بـ"البادج" الدبلوماسي أو الوسام التمثيلي... علامة لا تُعلّق على صدر الصحافي، بل تغلف بها أداة عمله : الميكروفون .. كي نسترجع إسمها ... إنها البونيطة.
 
"بونيطة" هي تعريب دارج مغربي لكلمة bonnette الفرنسية، واستُعملت للدلالة على الغلاف الإسفنجي الذي يُغطي الميكروفونات، وتحمل في تصميمها رمزية لهوية المؤسسة الإعلامية.

وفي الاستعمال الشعبي، قد تحمل الكلمة دلالات أخرى (كقبعة صغيرة، أو غطاء)، لكن في السياق المهني، فهي مرتبطة بالتجهيزات التقنية الخاصة بالتصوير الصحفي.
 
البونيطة إذن، ليست مجرد مادة بلاستيكية تغلف أداة العمل، بل هي هوية بصرية، تُمثل المنشأة الصحفية أو الموقع الإلكتروني الذي ينتمي إليه الصحافيون، من وظائفها الرمزية، تمييز المنبر الذي يشتغل لصالحه حاملو الميكرو، وسط زخم الميكروفونات المحيطة بالوجوه السياسية أو الفنية أو الرياضية، في اللقاءات الصحفية والمواكبات الميدانية، وحتى في جنس "الميكروطروطوار".
 
ويعلم مهندسو الصوت أن وظيفتها التقنية تتمثل في حماية الميكروفون من الضوضاء والرياح، ولهذا تُسمى في لغة موليير bonnette anti-vent.

وظيفتها الأساسية هي امتصاص الضجيج وعزل الصوت بشكل أولي عن المؤثرات السمعية المحيطة، قبل مرحلة "الميكساج" التقني.
 
لكن، هل يعلم كل من يحمل بونيطة، أو يتحدث من خلالها إلى الجمهور، متى وأين ظهرت؟.
ظهرت البونيطة في ثلاثينيات القرن الماضي، في الولايات المتحدة الأمريكية، في سياق التنافس المحتدم بين محطات الراديو، إذ اقتضى الأمر آنذاك تمييز كل ميكروفون بهوية المؤسسة التي ينتمي إليها.
 
ومع انتشار التلفزيون، تحولت البونيطة إلى رمز مرئي للنفوذ الإعلامي، كما يظهر في صور تاريخية مثل ميكروفون CBS إلى جانب الرئيس الأمريكي الراحل فرانكلين روزفلت، أو في توثيق تغطيات فضيحة "ووترغيت"، حيث حملت كاميرات الشبكات بونيطات توثق سقوط إمبراطورية سياسية كاملة.
 
وفي منعطفات أكثر حدة، خلال قصف أمريكي لمكتب قناة الجزيرة سنة 2003 في بغداد أثناء غزو العراق، قُتل المراسل طارق أيوب، ومزّقت صحافية بونيطتها على الهواء احتجاجا على استهداف الصحافيين، وفي سنة 2018 قام البيت الأبيض بطرد صحافي شبكة CNN جيم أكوستا من مؤتمر صحافي وسحب اعتماده المهني وتجريده من "بونيطته"، في خطوة رمزية تعكس التضييق على الإعلام المعارض للرواية الرسمية.
 
خلال بطولة أمم أوروبا سنة 2016، وأثناء جولة صباحية للمنتخب البرتغالي، اقترب صحفي من قناة CMTV من كريستيانو رونالدو لطرح سؤال، لكن الأخير انتزع الميكروفون من يد المراسل وألقاه في بحيرة مجاورة، تعددت القراءات حينها بين من صنف ردة فعل نجم المنتخب البرتغالي في خانة التصرفات العفوية أو الحماقات التي تتميز بها شخصية اللاعب من حين لآخر .. و رأى البعض أن المراسل عكر على الفريق لحظات التركيز داخل المعسكر، بينما ذهبت تفسيرات أخرى إلى أن رمي كريستيانو لبونيطة الصحفي في ذلك الحادث كان نتيحة احتجاجه على تعرض القناة لحياته الخاصة، وقد أثارت الحادثة جدلا واسعا، وتم تصنيفها كدليل واضح على توتر العلاقة بين رونالدو والإعلام في تلك الفترة.
 
تشهد هذه الأحداث على أن البونيطة ليست زينة تقنية، بل تمثل خط تماس بين الإعلام والمشاهير والسلطة أيضا.
حين تُمزّق بونيطة ميكروفون يحمل اسم مؤسسة إعلامية، لا يُقرأ ذلك كحادث عرضي، بل كفعل ذي حمولة رمزية، يمكن قراءته بمنظار علم الاجتماع، ضمن ما يمكن تسميته بـ"الرموز المصادرة" (les symboles confisqués)، أي في هذا السياق .. محاولة سحب الشرعية من مؤسسة صحفية، لا فقط برفض التفاعل معها، بل بإلغاء تمثيليتها الرمزية ... البونيطة.
 
ومع ذلك، فإن تمزيق البونيطة لا يلغي رمزيتها، بل قد يُضاعف من حضورها ودلالتها.
البونيطة ليست جماد .. صامتة نعم، لكن عندما يتم ربطها بكابل التقاط الصوت تصبح واجهة لنقل المنطوق والعبارات، وتنقل أيضا ما عجز أو احترز الواقف أمامها في التعبير عنه، لكن بتواطؤ تقني مع الكاميرا التي تنقل الصورة .. أي البونيطة و القريبات والقريبين منها.
إنها شارة إعلامية، سواء كانت مربعة أو مثلثة،  أو شفافة أو ملونة .. بيضاء أو سوداء !!.
تُعبّر البونيطة عن سلطة الكلمة، ومسؤولية السؤال، وحق الجمهور في المعلومة، وحق المتضرر في الشكوى، بل وحتى حق البعض في تمرير الخطابات الملغومة أحيانا.
 
ليست فقط "مايك ملوّن"، بل علامة تمثيلية لشرعية السؤال و الجواب و قبلهما شرعية الحضور في زمن ما ومكان ما.
تمزيق "البونيطة" خلال قيام الصحافي بمهامه، لا يُقلّص من رمزيتها، بل يُعيدها إلى الواجهة، بوصفها رمزا للمواجهة المهنية بين من يسأل ومن يرفض أن يُسأل.
لذلك، حين تُمزّق، يصعب رتقها، فالفعل في ذاته ينطوي على رمزية لا يُمكن محوها، لا بالإصلاح، ولا بلصق الأجزاء المبعثرة لدى المختص، ولا حتى باستبدالها بأخرى جديدة .. لأن تمزيق البونيطة فعل يتجاوز المظهر، ليمسّ جوهر الصورة والموقف.
فالبونيطة ليست مجرد غطاء لميكروفون، بل غطاء معنوي لحضور الصحافة في الفضاء العمومي.

 
تتنقل البونيطة باسم المؤسسة، أينما حل وارتحل حاملها، لتُسائل المسؤولين والفنانين وغيرهم... باسم الجمهور.
البونيطة إذن ليست "إسفنجة" تُعزل بها الضوضاء فحسب، بل مرآة تعكس بوضوح حدود التعبير في زمن الصورة، و ليست أداة عمل فقط ... إنها شاهدٌ صغير على معركة كبرى، عنوانها .. حرية الصحافة.