الاثنين 29 إبريل 2024
ملفات الوطن الآن

«الوطن الآن» تقتفي تاريخ راهبات المغرب

«الوطن الآن» تقتفي تاريخ راهبات المغرب

مر على وصول الراهبات الفرانسيسكانيات إلى المغرب قرن من الزمان، راهبات أفنين شبابهن خدمة للمحرومين والمرضى واليتامى والفقراء، حيث شكلت دار الراهبات بحي راسين بالدار البيضاء التي كانت مجرد كوخ خشبي إلى أن أضحت تمتد على مدى 14 هكتارا منحها المعمر الفرنسي «راسين» إلى الراهبات، وتضم أيضا خيرية ومدرسة ومصلى النواة المركزية لأنشطة الراهبات الفرانسيسكانيات.رحلة الراهبات بالمغرب ابتدأت في 5 نونبر 1912، سبعة أشهر بعد توقيع عقد الحماية، حين سترسو باخرة فرنسية قادمة من مدينة مارسيليا وعلى متنها ثماني راهبات فرنسيات تتراوح أعمارهن ما بين 20 و25 سنة. راهبات شابات لبين نداء الأب «إيربان»، القس بالكنيسة الوحيدة بالدار البيضاء آنذاك، والمارشال ليوطي، المقيم العام بمغرب الحماية، حيث أسندت إليهن مهمة القيام بأعمال التطبيب في المجتمع المغربي الذي كان آنذاك في وضعية فوضى جراء انعدام سلطة المخزن وتقويض الحماية لكل ما يمت بصلة لهيبة «الدولة» عبر تصريف كل الأعمال بواسطة المقيم العام. لم تكن تلك الراهبات من النوع الذي خبر العمل التبشيري بشكل جيد، بل كان أغلبهن حديثات العهد بعمل لن يكون سهلا، لاسيما وسن الكبريات منهن لم يكن يتجاوز 25 ربيعا، ورغم أن العدد ضئيل وانحصر في 8 أفراد، فقد كان العمل مضنيا في ظل سلطة الأب «إيربان» القيم على الكنيسة الوحيدة للدار البيضاء، وكذا متطلبات العمل وفق مخطط المقيم العام «ليوطي» الهادف في بدايته على تدبير اليومي من حياة الفرنسيين وأسرهم ومحاولة تخفيف وقع صدمة الانتقال من وسط مألوف، إلى آخر لا تعرف خفاياه إلا من خلال ما كتبه الرحالة الأوروبيون في يومياتهم التي نشرت أواخر القرن التاسع عشر.

تركز عمل الراهبات في الدار البيضاء بين جنود الحماية في مستشفيات أقيمت من أجلهم، وكذا في قاعة الصلاة التي كانت تعج يوم كل أحد بمرتادي الكنيسة من الساكنة الأوروبية والجند الذين لم يكن «مخططا» تطويع المغاربة لثنيهم عن إقامة الصلوات. وقد اعتبرت بعثة «الأخوات الفرانسيسكانيات مرسلات القديسة مريم» أول من عبدت طريق العمل المسيحي في الوسط المغربي، تبعتها بعد ذلك عدة بعثات كانت مهامها تنحصر في الغالب على القيام بالإرشاد الصحي ومحاربة الأوبئة التي كانت منتشرة آنذاك بين الطبقات الشعبية المغربية درءا لانتقالها إلى المقيمين من دولة الاحتلال. تبعت هذه البعثة أخريات، كانت آخرها «راهبات مرسلات الإحسان»، وهي رهبنة أسستها الأم «تيريزا» بالهند واختارت أن تعنى بقضية الأمهات العازبات بحي الصخور السوداء الدار البيضاء.

وقد جعلت الراهبات من «العمل الخيري» أيقونة لها بين «الأهالي»، خاصة في الأماكن التي لم تكن بنياتها التحتية قادرة على مسايرة التطور في ظل المحتل، زيادة على متطلبات القيام بتقديم الخدمات للمعمرين مدنيين وجنودا في أماكن بعيدة عن المدن، وهو ما عبر عنه الأب «هنري كوهلر» راهب مكناس بداية القرن العشرين، في الحاجة إلى العمل وسط «الأهالي» لإبراز العمل «الخيري» وإعطاء صورة مخالفة للتصور الذي يحمله السكان عن الرهبان والراهبات، وفي الوقت نفسه الاعتناء بهم باعتبارهم «ثروة» يحتاجها المحتل في ما بعد، حيث جاء في رسالته «إنه الداخل الذي يجب أن يكون هدفا وليس الساحل، حاجة الأهالي للتمريض من جهة، والحفاظ على الإرث الثقافي الفني للساكنة المحلية»، حيث قرر عدد هام من الراهبات شد الراحل الى مختلف المناطق المغربية: فاس ومكناس ومراكش والأطلس المتوسط وجنوب المغرب وشماله، مرورا بالقنيطرة والرباط وتازة والراشيدية و ميدلت.وللتذكير، فجل البعثات من الراهبات كن «فرانسيسكيات»، وهو ما يجعل الباحث في مهام الكنيسة يصدم بهذا المعطى، إذ على مستوى التأريخ للبعثات الكنسية نجد أن أغلبها ينتمي لهذا التيار داخل الكنيسة، مما يجعلنا نقر بأن الفرانسيسكيين بدأ عملهم واشتغالهم على المغرب منذ قتل البعثة التنصيرية الأولى داخل أسوار مراكش في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي.

 

مساهمة راهبات «قلعة مريم» بميدلت في حفظ الحياكة التقليدة للزرابي

 

عرفت ميدلت ميلاد تجربة فريدة من نوعها في حفظ إرث الحياكة التقليدية للزرابي المغربية، تشهد عليها «قلعة مريم» التي مازالت قائمة إلى اليوم. فبجانب الدير قررت «الأخت ماري رين كوليت»، رفقة «الأخت إليزا شارل»، سنة 1917، حفظ الإرث الفني للحياكة المغربية للزرابي. وتحكي عميدة الراهبات «الأخت سيمون» أن راهبتين ذهبتا إلى قرية أكوراي بضواحي مكناس من أجل تعلم الطريقة الأمازيغية لاستعمال الصوف في الحياكة ونقل الأشكال التقليدية لتزيين الزرابي. بعد تمكنهما من فن الحياكة الأمازيغية ستفتح الراهبتان ورشة لتعليم فتايات المنطقة صنعة حياكة الزرابي، وستصبح منتوجات الورشة ذائعة الصيت، ليتم نقل التجربة إلى فاس ومكناس ومراكش. ومن يزور، اليوم، «قصبة مريم» يقف على جانب من تلك المغامرة التي دشنتها الراهبات، ومكنت نساء المنطقة من الخروج من التهميش والاندماج داخل المجتمع. وقد خلف أول معرض لمنتوجات نساء الأطلس المتوسط بمقر الإقامة العامة بالرباط خلال الثلاثينيات انبهارا حقيقيا وسط الزوار.

 

هكذا ساهمت الراهبات في ميلاد جمعية التضامن النسوي

عند الحديث عن تأسيس أهم الجمعيات النسوية بالمغرب: جمعية التضامن النسوي لابد من استحضار دور الراهبات في تأسيس هذا المولود الجمعوي الذي ألقى على عاتقه مهمة التكفل بالأمهات العازبات الذي ظل يجسد طابوها في المغرب. قليلون من المغاربة يعلمون أن أوراق الإيداع القانوني للجمعية تتضمن أسماء راهبتين. ورغم ذلك منحتهن السلطات وصل الإيداع والترخيص. وتروي عائشة الشنا، حسب موقع «وجهات نظر»، حكاية تأسيس جمعية التضامن النسوي، حيث كانت «الأخت ماري» جو منشغلة بأوضاع النساء المهمشات، وكانت تفاتح عائشة الشنا دائما في انشغالها بوضعية الأمهات العازبات، لكن وضعها كـ«أجنبية»، إضافة إلى كونها راهبة، كان يعيق إقدامها على تأسيس أي جمعية في هذا الشأن. هكذا قادتها رفقتها الطويلة مع عائشة الشنا إلى جانب «الأخت ريجان» و«الأخت لودي» إلى الإعلان عن تأسيس جمعية «التضامن النسوي» سنة 1985، حيث تكفلت «الأخت ماري جو» بإيجاد مقر للجمعية بعين السبع بالدار البيضاء، لما اكتشفت وجود مقر فارغ خلف الكنيسة، كما تلقت جمعية التضامن النسوي الدعم المادي والمعنوي من كنيسة «نوتر دام» بالدار البيضاء، التي كانت تؤدي عن الجمعية مصاريف الـتأمينات، إضافة إلى الدعم العيني الذي جلبته الراهبات من مؤسسة «شارل دوفوكو»، على شكل كراسي وتجهيزات الطبخ، وهو الأمر الذي لا تخفيه رئيسة الجمعية عائشة الشنا.

 

كم عدد الراهبات في المغرب؟

 

بعد أن كان عدد الراهبات يصل إلى المئات من مختلف الطوائف الكاثوليكية، فإن عددهن لا يتعدى الآن 129 راهبة أغلبهن يمارسن نشاطهن بدار الراهبات في حي راسين بالدار البيضاء النواة الأولى لأنشطتهن. وقد انحصر عمل الراهبات في مناطق عدة في تقديم المساعدة لمحتاجيها، في الوقت الذي كان الرجال من الرهبان يقومون بالتبشير ومحاولة إقناع المغاربة باعتناق الديانة المسيحية باعتبارها منقذة لهم من مختلف ما يعيشونه من ويلات، وهو ما جعل الرهبان مبشرين بامتياز عكس الراهبات اللواتي داومن على القيام بمهام «إنسانية» بعيدة عن إقاماتهم وفي بعض الأحيان مرافقة الرحل في تنقلاتهم التي لم تنقطع طيلة السنة مؤثرات البقاء إلى جانبهم مع تفانيهم في تعلم اللغة الأمازيغية التي ستصبح لغتهن في الخطاب اليومي. ويمكن الرجوع لحكايات رحل آيت يافلمان مع هؤلاء الراهبات للتأكد من العلاقة الحميمية التي ربطتها الراهبة مع وسطها الذي أصبح مصدر إلهام لها، ورافعا لتحدي العزلة وانعدام شروط دنيا للاستقرار.

 

راهبات المغرب في قفص الاتهام

«أرسلوا لي أربعة أطباء، أرجع لكم أربعة فيالق». مقولة الماريشال ليوطي هاته تلخص بوضوح الدور الهام الذي قام به سلك الأطباء في حملته الإستعمارية على المغرب من خلال التقرب إلى الأهالي وضمان بيئة صحية سليمة لتحرك الجيوش الغازية. كان المغرب قبيل الاستعمار يعرف دورات مميتة من الأوبئة والقحط، كادت في العديد منها أن تدفع بالمغاربة إلى حافة الانقراض، لولا سياسة الحجر الطبي التي مورست منذ القدم لتطويق تلك الأمراض ذات الفتك الجماعي. لكن مع قدوم المحتل سواء الفرنسي في منطقة «المغرب النافع» أو الإسباني في المنطقة الخليفية، سوف تعرف الوضعية الصحية والغذائية للمغاربة تحولات جذرية، كان لها الأثر على التزايد المطرد في معدلات التكاثر الطبيعي وارتفاع عدد السكان الذي كان مطلبا ملحا للرأسمالية الاستعمارية في بحثها عن «قوة عمل» بشرية لمشاريعها وطموحاتها التوسعية بالمغرب. فإلى جانب الأطباء العسكريين، الذين اعتنوا بصحة الأهالي، -في تمييز واضح- عن الطب المدني الذي استفاد منه الأوربيون، كانت هناك أعداد مهمة من الراهبات اللواتي اشتغلن بدورهن في قطاع الصحة العمومية بالمغرب، أغلبهن ينحدرن من كنائس كاثوليكية سواء فرنسية منها أو إسبانية، وقمن بدورهن الإنساني -المشوب بكثير من الغموض- في رعاية المغاربة وتحسين وضعيتهم الصحية والغذائية. بالرغم من كل هذا، يحتفظ جل المغاربة بذكرى طيبة عن فترة التطبيب الاستعماري، وعن صرامة الطبيب الاستعماري وتنويه الراهبات للأمهات المعتنيات بصحة أولادهن.

لكن قضية الراهبات «المبشرات» اللواتي تم إيقافهن بعين اللوح أعادت موضوع التبشير ذي اللبوس الإنساني إلى الواجهة، فدار الأطفال التي شيدت في أربعينيات القرن الماضي لم تكن سوى ستار، حيث أعلنت وزارة الداخلية في مارس 2010 عن ترحيل 16 شخصا وضمنهن راهبات ينحدرون من الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا وجنوب إفريقيا ودول أخرى بتهمة التبشير مستغلين الفقر المدقع بالمناطق الفقيرة علما أن القانون المتعلق بكفالة الأطفال المهملين ينص على اعتناق الكفيل لدين الإسلام كشرط أساسي للأشخاص الراغبين في كفالة الأطفال المغاربة.

 

حين تورطت راهبة مليلية في سرقة الرضع المغاربة

سيظل 12 أبريل 2012 راسخا في الأذهان، ففي هذا التاريخ تفجرت فضيحة سرقة رضع مغاربة وبيعهم إلى أسر إسبانية من أجل التبني ومن ثم تغيير أسمائهم ودياناتهم، حيث لم يكن من المتوقع أن تكون الخدمات الإنسانية التي تقدمها الراهبة الإسبانية ماريا غوميز فالبيونا لفائدة الأطفال مجرد غطاء للمتاجرة في الرضع المغاربة.

وبدأ التحقيق من قبل القاضي الإسباني في محكمة مدريد أدولفو كاريتيرو مع الراهبة الإسبانية المتزعمة للشبكة لمعرفة شركاء الراهبة التي لم تكن سوى عنصر واحد في شبكة مافيا اختطاف الأطفال في إسبانيا.

سيدة مغربية بسبتة المحتلة فجرت القضية، وهي تعلم السلطات الأمنية أنها تتعرض لضغوطات من طرف زوجين من إحدى المدن الإسبانية، من أجل بيعهما رضيعها الذي لم يمض على ولادته سوى يوم واحد فقط، بالمستشفى المدني لسبتة المحتلة.

السلطات الأمنية تحركت سريعا لاعتقال الزوجين، وقالت في بلاغ لها إنها اعتقلتهما لارتكابهما جناية الاتجار بالقاصرين وتهريبهم دون أي رابط عائلي بينهما. تحرك الأمن الإسباني بالثغر المحتل بهاته السرعة، لم يكن فقط «قياما بواجب» بعد تلقيه الشكاية، لكنه جاء نتيجة معلومات مؤكدة بوجود شبكات متخصصة في بيع وشراء قاصرين، جلهم حديثو الولادة يتم تهريبهم إلى دول أخرى وإلى مدن إسبانية وفق الطلب.

لم يمض على هذه الواقعة أكثر من حوالي ثلاثة أشهر حتى تفجرت فضيحة تورط رهبان إسبان في عملية اختطاف رضع مغاربة ابتدأت منذ العام 1975 وبيعهم للتبني من قبل أسر إسبانية في إسبانيا أو في مدينتي سبتة ومليلية.

القضية تفجرت بعد تحقيق بثته قناة «أنتينا تريس» الإسبانية الواسعة الانتشار، وأظهر شهادات شباب وشابات مغاربة الأصل أكدوا أنهم من أبناء عائلات إسبانية دفعت أموالا مقابل تبنيهم من قبل أسر إسبانية. القضاء الإسباني ومباشرة بعد بث البرنامج التلفزيوني شرع في التحقيق في القضية لتبيان التفاصيل الكاملة حول طرق تهريب الأطفال المغاربة، وكانت البداية مع الراهبة ماريا غوميز فالبيونا متزعمة الشبكة بعد اتهامها بـ«الاحتجاز غير الشرعي لقصر وتزوير مستندات في قضية اختطاف أطفال من أمهاتهم، في الوقت ذاته شرع الأمن الإسباني بدوره وبالموازاة في البحث عن مدى تورط أطباء وممرضات يعملون في العديد من المستشفيات الإسبانية بمافيها مدينتي مليلية وسبتة.وقد ذكرت التقارير أن عدد الرضع المغاربة الذين يشتبه في سرقتهم من مدينتي سبتة ومليلية حوالي 20 ألف رضيع اعتمادا على قاعدة بيانات أعلنتها الحكومة الإسبانية للأشخاص الذي تم الإبلاغ عن سرقة أطفالهم.

 

حين لجأ فرانكو إلى وصف راهبات شمال المغرب بـ «المؤمنات» لتجييش المغاربة

 

لعبت الخدمات الصحية الإسبانية، بالمنطقة الخليفية شمال المغرب دورا حاسما في تقرب السلطات الإستعمارية الإسبانية من الأهالي عبر تقديم خدمات متنوعة في المجالين الصحي أو التعليمي. لكن الجانب الصحي حظي بأولوية المستعمر الإسباني لاعتبارات عديدة، نظرا لانتشار الأوبئة والأمراض في صفوف المغاربة -آنذاك- والتي كانت تخلق غالبا حالة من الهلع والرعب بين السكان. وكان على رأسها تلك الأمراض التي فتكت بالرضع، مما أجبر سكان الشمال المغربي على التعامل مع الإدارة الصحية الاستعمارية. فعلى طول المركبات الاستشفائية التي أنشأتها بالمنطقة الخليفية مثل تطوان والعرائش وأصيلا، حرصت على إدماج العنصر النسوي في الأطقم العلاجية، حتى يتسنى لها اختراق المجتمع المحلي الذي لم يكن ليسمح -مثلا- بفحص نسائه وفتياته من لدن رجل أجنبي ولو على سبيل الاستشفاء.

فأعيان مدينة تطوان قدموا ملتمسا إلى السلطات الاستعمارية، عقب انتشار وباء سنة 1922، بإيفاد ممرضات للكشف عن نسائهم، وهو الأمر الذي استجابت له الإدارة الإستعمارية. ازدادت وتيرة الخدمات الصحية بالشمال، انطلاقا من سنة 1933، بعد صعود اليمين الفاشي (فرانكو) الذي كان من جملة أهدافه الاستراتيجية تأمين الجبهة المغربية، التي طالما اعتبرها بمثابة قاعدة خلفية لتمرده العسكري على الحكومة، والذي انطلق من مدينة تطوان. ورغبة في التقرب من السكان وتجنيدهم في حربه، قام بإنشاء العديد من المستشفيات والمدارس.

مع بداية إدماج الراهبات في سلك الصحة العمومية بالشمال، كان هناك تخوف، إلى درجة أن صحف المرحلة وهي «الريف» و«الحرية» عكست هذا الشك والارتياب، لكن تدريجيا سوف يأنس المغاربة بالطب العصري وخدماته على يد الأطباء الإسبان والممرضات الراهبات، إبان ما عرف بــ «الحملة الفرنكوية» حين أشاع أتباع الجنيرال كنية «المؤمنات» لنعت الراهبات، محاولا إقناع المغاربة بأنهن «موحدات» العقيدة مثلهم، في تمييز عن الشيوعيين الملاحدة الذين اعتبرهم بمثابة أعداء مشتركين لهم. وقد كان لهذه الإشاعات صدى كبير في تجييش المغاربة إلى جانب فرانكو، مما ساهم في انفتاح شرائح كبيرة على خدمات الراهبات الإنسانية.

 

د. الحسن الغرايب، أستاذ التاريخ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بصفرو

 

هجرة المسيحيين إلى المغرب هاجسها إعادة مجد الكنيسة

 

حذر الدكتور الحسن الغرايب، أستاذ التاريخ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين- صفرو، من إمكانية توظيف الخدمات الإنسانية والاجتماعية من طرف الراهبات كغطاء للتبشير، مؤكدا أنه في ظل الخصاص الذي تعرفه بلادنا في البنيات الصحية والتعليمية والإجتماعية وارتفاع نسبة الفقر والهشاشة يبقى الباب مفتوحا على جميع الاحتمالات. فالحملات التي استهدفت الجنوب المغربي أساسا، لم يكن هدفها إنجاز مشاريع تدر الربح على الساكنة في ظل تنامي البطالة والأمية بقدر ما كان هدفها الرجوع بالكنيسة إلى سابق عهدها في الدعاية للمسيحية بشكل صريح أحيانا ومبطن أحيانا عدة

 

 

- متى انطلقت رحلة الراهبات بالمغرب وماهي أبرز الشخصيات السياسية والكنسية والمنظمات المسيحية التي ساهمت في ذلك؟

+ لا يمكن الحديث عن وجود للراهبات في المغرب الحديث، دون الرجوع للفترات السابقة على إرساء الدولة المغربية ومكونات ساكنتها من مسيحيي القبائل والجاليات، التي استقرت فيما بعد بالسواحل والمدن التي لها ارتباطات تجارية مع دول المتوسط بدءا من الفترة الوسيطية التي شهدت حضورا متميزا للعنصر المسيحي المحلي والوافد بفعل عوامل عدة تبدأ بالحروب التي خاضتها الجيوش المرابطية والموحدية آنذاك في الأندلس أو بفعل تجارة الرقيق التي كان للأسواق المقامة لها في المدن الكبرى دور أساسي في توسيع المجال الجغرافي لوجود هو في الأصل عاد، رغم ما أثير من حوله من نقاشات لا تأخذ المعطى التاريخي لمكونات ساكنة المغرب في الفترات السابقة على العصرين الحديث والمعاصر اللذان عرفا وجود كنائس بكل من مراكش ومكناس وفاس التي وإن لم يتم التطرق لها بشكل مسهب فإنها ارتبطت بأقدم نص للعهد الجديد برواية راهب تم تغريبه من الأندلس نحو فاس وأقام بين أزقتها ممارسا لمهامه الدينية وجامعا حوله كل من دان بالمسيحية أو من له ارتباطات بهذه الديانة إلى أن غادر المدينة بعد أن سمحت له السلطة الموحدية فيما بعد بذلك. وهو نفس ما كان يقام بكنيس مراكش في فترة الموحدين وإن كانت هناك من الحوادث ما يؤثر على المناخ العام لممارسة طقوس الصلوات والقيام بالقُداسات، والتي مردها التبشير وسط الساكنة دون الأخذ بعين الاعتبار الوسط المستهدف والتي انتهت كل هذه العمليات بالسجن والقتل سواء من طرف الساكنة أو السلطة، مما جعل الكنيسة المسيحية تقر بكون طريق التبشير عبد بالدم في الوسط المغربي. فالهجرة للمغرب ورحلات المسيحيين من الجنسيات المختلفة إلى مدنه، ارتبطت أساسا بإعادة مجد الكنيسة الذي أفل بعد عملية الأسلمة التي طالت كل المناطق، وإن كانت في بعض الأحيان بطيئة لنوعية المجال، وتمسك الساكنة بتراثها وتقاليدها التي بقيت حصنها الوحيد أمام زحف ثقافة ارتبطت في مجملها بالمكون الديني، مما جعلها في تصادم مع موروث يقدس كل عناصر المجال، بمنأى عن انتماءات لدين بعينه، وهو ما شكل «الشخصية القاعدية» في ما بعد للمغربي المؤمن بالتعدد، والانفتاح على الوافد دون توجس. ظلت هذه الرؤية حاضرة في اليومي لكل الساكنة من المستقرين والرحل من القبائل، مما جعل من عملية الوصول للمغاربة مقتصرا فقط على العنصر الذكوري المسيحي ولم يكن في نية الكنيسة بمختلف توجهاتها المجازفة بنسوة في عمليات التبشير التي انطلقت منذ أواخر دولة المرابطين وعرفت ازدهارا في الفترات التي رهن مصير السلطة المركزية بدعم من القوى الأجنبية خاصة الإسبان والبرتغاليين وبعدهم الإيطاليون في شكل جمعيات خيرية وأخرى لشراء الأسرى وغيرها من المهام التي تدخل ضمن التوجهات الخفية للقائمين على هذه الرحلات. وتاريخ المغرب لم يشر إلى وجود راهبات في كل الحملات التي قام بها المسيحيون لقراه ومدنه، ولم يتم التطرق إلى ذلك إلا بعد عملية الاحتلال الفرنسي التي كانت بمثابة إعلان عن عملية ترويض للشخصية المغربية وتقويض لأسس الانتماء لثقافة تنأى بموروثها عن كل دخيل يحاول أن يجعل منه ثقافة للفرجة وخلفية لثقافة الاستعلاء غير المؤمنة بالخصوصية والاختلاف والتكامل.

 

- إذا استحضرنا مقولة ليوطي في بداية عمله في المغرب «أرسلوا لي أربعة أطباء أرجع لكم أربعة فيالق» هل يمكن القول إن نشاط الراهبات كان يدخل ضمن أجندة سلطات الاحتلال الفرنسي للمغرب؟

+ أولا، لا يمكن فصل ما كانت تخطط له الإقامة العامة والتصور العام لمغرب تحت عهدة فرنسا، وجدلية التصور العام والواقع المعيش هي التي حتمت الالتفات إلى الصحة كمعطى قادر على جعل التغلغل الاستعماري «سلميا» في وسط معاد كليا لما هو غريب، خاصة وأن السياسة العامة لفرنسا راهنت على «التهدئة» للقيام بمهامها في ظل التقسيم الإمبريالي لمناطق النفود. دخل الطب من بابه الواسع في مخطط «ليوطي»، وفي هذا الصدد تم خلق «مصلحة الصحة العمومية» المرتبطة أساسا بالجيوش الفرنسية ولم تكن تابعة لجهازها المدني، وسعت من وراء ذلك خلق الأنوية الأولى للتغلغل في المجالات البعيدة عن المدن الكبرى وخلق تربة لتقبل المحتل دون إراقة للدماء وهو ما تم التعبير عنه بـ«التسرب السلمي والسياسي» للمحتل والامتنان لأطباء الوحدات الصحية المتنقلة بملاحظاتهم الهامة جدا وتقاريرهم عن كل ما يحيط بممارسي مهمة الطب حسب كولومباني Colombani في مداخلة له سنة 1931 بباريس في «الايام الطبية الاستعمارية». و«كالييني Galieni» يمكن اعتباره إلى جانب «ليوطي» منظرا للتهدئة عن طريق الصحة، ولوصول هذا الهدف استخدمت أكثر الطرق نجاعة خاصة تلك المتمثلة في الوصول إلى عقر الأسر المغربية وهو الاعتناء بالنساء والأطفال، وتم وضع كل هذا على عاتق الراهبات الفرانسيسكيات اللواتي عملن لاستمالة الأسر إلى الانخراط في دورات التغطية الصحية والاعتناء يشكل رئيس بالمواليد الجدد. وهناك مثال قوي يتجلى في ما قامت به الراهبات بمركز ميدلت في أواخر العشرينيات من القرن العشرين لصالح الساكنة بالإقامة بين ظهرانها والاعتناء بشكل خاص بأجساد النساء والأطفال عبر ترميم القصبة القديمة التي ستحمل في ما بعد «قصبة مريم» تيمنا بالعذراء. لم يكن أمر الاستقرار بهذه المنطقة النائية بالأطلس الكبير بالشيء الصعب، بل تم استغلال كرم الضيافة الذي يتمتع به الأمازيغي للوصول إلى ربط علاقات متينة ترتب عنها القيام بالزيارات المتعددة للمداشر البعيدة عن مركز ميدلت وإنجاز المهام الصحية التي تم التخطيط لها. ويعتبر هذا المثال نموذجا لعدة مواقف في مناطق متعددة من المغرب العميق التي لم تعرف بنية تحتية صحية ولو أولية، مما فسح المجال أمام الراهبات لسد النقص الحاصل في ذلك وتعبيد طريق التهدئة السياسية قبل عملية التنصير التي لم نجد لها صدى بين الساكنة إلا ما تم الترويج له بعد ذلك وفق معطيات شفوية لا ترقى إلى اليقين في غياب لوثائق تثبت العكس. إن نشاطا من هذا النوع يمكن أن نعتبره من وجهة نظر المستعمر إنجاز مهمة ترتبط بالسياسة العامة للإقامة الفرنسية، لكن مع ذلك لايمكن التغاضي عن كون نفس الأنشطة لم يكن من هدف وراءها سوى إبراز الانتماء إلى إنسانية واحدة وإن أساءت إليها الأطماع الإمبريالية بنظرتها التي لا تقبل المساعدة إلا بعد أن تستنزف ما فوق الأرض وما تحتها.

 

- البعض يقول إن العمل الإنساني مع الفئات الهشة مجرد غطاء للتنصير في المغرب فما رأيك؟

+ في ظل الخصاص، كل شيء يمكن أن يؤدي إلى هدف ما. فالحملات التي استهدفت الجنوب المغربي أساسا، لم يكن هدفها إنجاز مشاريع تدر الربح على الساكنة في ظل تنامي البطالة والأمية بقدر ما كان هدفها الرجوع بالكنيسة إلى سابق عهدها في الدعاية للمسيحية بشكل صريح أحيانا ومبطن أحيانا عدة. فسياسة اليد الممدودة للشباب بالدرجة الأولى أملته ظروف اليأس التي يحسون بها من جراء الأزمات المتتالية للمجتمع وكذا انهيار قيم الدعم والمساعدة التي كانت مجسدة سابقا في» التويزا» وكفالة الأسرة بأبنائها، وبداية تغلغل الفردانية الفجة بشكل جلي جعل من عملية التنصير في وسط لا يمكن من تحقيق قوته أن يرتمي في حضن «مخلص» مهما كان أصله، علما أن هذه العملية محفوفة بانقلاب على الداعي لها لأن الوقائع تثبت انعدام استمرارية الخاضعين للتنصير في ممارسة الطقوس المسيحية بتفان، إذ بمجرد انقطاع الدعم ينقطع الإيمان، في لوحة سوريالية يتحكم فيها المعزز وفي غيابه يرجع السلوك إلى طبيعته السابقة وهو أمر اشتكى منه المبشرون أنفسهم قبل غيرهم.