الأحد 28 إبريل 2024
فن وثقافة

الشاعرة نبيلة حَماني: لحظة الكتابة الشعرية لحظة مخاض وتوجّع تعشقه الذات المبدعة وتتمناه..

الشاعرة نبيلة حَماني: لحظة الكتابة الشعرية لحظة مخاض وتوجّع تعشقه الذات المبدعة وتتمناه.. الشاعرة نبيلة حَماني وأحمد الميداوي
الشاعرة نبيلة حَماني.. لحظة الكتابة الشعرية لحظة مخاض وتوجّع تعشقه الذات المبدعة وتتمناه..
أثثت لها فضاء شعريا فريدا نسجت فيه بمسحة فلسفية أكثر من ديوان. جاءت من بلدتها الجميلة قرية بّا محمد (تاونات) إلى مدينة فاس للدراسة والتدريس، فارتمت راضية مرضية في أحضان مملكة الشعر، تُسمع تغاريد روحها لمن هم حولها، وتعزف بأوتار قصائدها مآسي الذوات الإنسانية المكتوية بهيمنة الرداءة وتوحش العولمة الثقافية. تعتبرها الصحف والمجلات الثقافية العربية في مصر وبلاد الشام وفي ليبيا وتونس والجزائر، قامة شعرية متفوقة، من حيث جوهر العطاء وقيمته، على بنات جنسها من المغرب والوطن العربي. إنها الشاعرة نبيلة حَماني التي لم يُصرفها الإبداع عن مشاغل الناس وعن العمل الجمعوي والثقافي والحقوقي كرئيسة ل"معهد صروح للثقافة والإبداع" ورئيسة "مركز حقوق الناس المغرب" (جهة فاس مكناس)، وعضوة ب"فدرالية مراكز حقوق الإنسان بالعالم العربي"، وعضوة ب"شبكة المناصرة الدولية للعمال"..
استحوذ عليها فعل الكتابة الشعرية بلحظاته الجامعة لكل المتناقضات: الأمل، الألم، الشوق، المرارة، الخيبة، العشق، الحياة، الفناء.. لحظة الكتابة بالنسبة لنبيلة هي "لحظة مخاض ممتع، لحظة ألم وتوجع تعشقه الذات المبدعة وتتمناه.. هي لحظة وجود فعلي حقيقي.. لحظة جرح وشفاء.. تطهير وتفريج، لحظة لا تنتهي إلا مع أخر حرف في القصيدة".
في قريتها الهادئة تشكلت البذور الأولي لرؤيتها المستقبلية للعالم. فكان للتراب والشجر والزهر والنهر والعشب، ما أسِرها وظل حاضرا معها يقوي لديها حب الكلمة وعشق الكتابة بدعم وسند قادم من أغلى ما لديها في الكون، المرحومة والدتها، التي كانت أمنيتها أن تحقق نفسها في ابنتها.
في "قرية العشق"، كما تسميها، تمَلّكها عشق الكتابة ورافقها بلا انقطاع. فيها تعلمتْ معاني الصمود والرسوخ والأمل. "أجمل لحظات الحياة بالنسبة لي هي تلك اللحظة الخارجة عن الزمان، اللحظة الفارقة بين الوجود واللاوجود.. اللحظة التي تمنحني سعادة الحياة في عوالم أخرى لتغدو لحظة الكتابة بالنسبة لي لحظة مقدسة ألج فيها معابد الكلمة وأخشع في حمى الحرف المنصهر قصيدا والمحتفل باتحاد الروح والنفس والجسد.. إنه عالم سامي يرفع إلى سماوات الخلق والإبداع، مع تجسيد للواقع بكل متناقضاته، آلامه وآماله.. شغفه وتبرّمه.. مشاعره الكامنة التي لا يبوح بها سوى الإبداع"..
وكل ذلك مع حرص الشاعرة الهرم على أن تُميط اللثام عن حروف متواضعة تمنّت أن تصل أعماق قُرائها وتكون مشتركا إنسانيا معهم. وكان التحدي الذي فتح أبواب الإصرار بداخلها من خلال ديوانها الأول "تيه بين عرصات زمن مغتال "(2011)، وبعده الإصدار الثاني "احتراق في وريد الصمت" (2015)، وقد عُرض في "دار روائع للنشر" بمعرض الكتاب الدولي للقاهرة سنة 2017، ثم "مرايا من ماء" (2017) وبعده ديوان "لك أن تحيا في دمي" (2018) ثم ديوان "اعتكاف في مقامات عاشقة"، وديوان "شظايا من رفات عاشقة" وديوان "غربة الظل " ثم ديوان "على ضفاف الحلم ". إضافة إلى هذه الدواوين الشعرية، شاركت نبيلة في دواوين جماعية كثيرة كديوان" لآلئ" الذي طبع في مصر، وديوان "ترانيم تاء التأنيث"، وديوان" نون النسوة" وغيره كثير..
 
في منحى الحديث مع نبيلة الإنسانة، تسكنك القناعة بأن طريقها لم يكن مفروشا فقط باليسر والسهولة. فهناك مسؤولية العمل الجمعوي، والمسؤولية التدريسية كأستاذة للآداب العربية، ثم المسؤولية الأُسرية (الزواج في 18 سنة)، وبعدها مسؤولية الأمومة وتربية الأبناء (خليل، زياد وأيمن) التي تنازلت من أجلها عن طموحاتها في الحصول على الشواهد العليا. ومع تعدد المسؤوليات، تمكنت الشاعرة من اختراق الحيز الزمني الذي رسمته الأقدار لحياتها، إلى زمان إبداعي جمالي خالد.
وفي كل هذا الخضم أيضا، ظل الإبداع يسكنها في عملية تأثير وتأثر بالمحيط الإبداعي الخارجي. وفي هذا المجال، أثبتت الشاعرة التاوناتية قدرة عالية على الانصهار مع ثقافة الآخر، حيث التلاقح الثقافي بالنسبة إليها، مصدر غنى وإثراء لتجربة المبدع، وحيث شموخ الإنسان هو غير ذي قيمة إذا لم يتفاعل مع الأغذية الوافدة من الغير. فلسفتها في الإبداع كما في الحياة تقوم على قاعدة أن لا وجود لإسهام واحد في الحضارة الإنسانية، بل إسهامات، حيث كل جنس وكل شعب قدم، برأيها، مظهرا متميزا من مظاهر الحضارة، وهو مظهر غير قابل للإلغاء أو الطمس مادام من صنع الإنسان. ومن هنا حمل شعرها على الدوام الإحساس بأن الانغلاق يعني الموت. "لا يمكن أن ننغلق على أنفسنا ونولي ظهورنا لما ينتجه الآخر بسبب الاختلاف اللغوي أو العرقي أو الديني، بل إننا نكمل بعضنا، وكل واحد منا ليس واحدا بل هو كثير متعدد، وأن الشعر لا يمكن أن يكون كلمة بالمفرد بل جمعٌ يلغي المسافات ويلغي أيضا الحدود المرسومة بين الشعوب"، تقول الشاعرة نبيلة، مع التأكيد على أن "الناس من مختلف الأجناس ينتمون لهذا العالم دون تفرّد ولا غيرية، بمعنى كلنا واحد متعدد. واختلافنا في الجنس وفي الأوطان لا يتنافى مع الانفتاح على الآخر والاستفادة من موروثه الابداعي والثقافي والتاريخي. وما الحضارة الإنسانية الا سلسلة متصلة فيما بينها تنبني من مجهودات البشرية جمعاء. ثم كيف لا نؤمن بقيمة التلاقح والتبادل وبلدنا المغرب شكّل على الدوام ملتقى لحضارات وثقافات مختلفة، ومحطة فاصلة بين العديد من تيارات الفكر والأدب في مختلف بقاع العالم". وضمن هذه الرؤية التنوعية والتلاقحية للإبداع، نلمس في شعر نبيلة حماني نوعا من الميول إلى استيفاء دلالات العولمة الثقافية، من خلال الكتابة التنافرية والاستعارية التي تميز بعض قصائدها.
حين تسألها عن واقع الإبداع في المغرب، تعثر فورا على الجواب الموضوعي المقنع: "لا يمكننا من باب الإنصاف، سوى الاعتراف بما راكمته الثقافة المغربية فكرا وأدبا وفنونا من إنجازات هامة على طريق التحديث الفكري والنهضة الثقافية المأمولة، وذلك رغم مختلف العوائق والإكراهات الموضوعية والذاتية، ورغم مقاومة قوى التقليد والمحافظة لكل جديد وتنويري في حقل الفكر والإبداع"، تقول نبيلة مستدلة علي ذلك بمشاريع ثقافية كبرى أضحت، على حد قولها، " مرجعا لا غنى عنه"، من قبيل مشروع عبد الله العروي، ومشروع الراحل محمد عابد الجابري، ومشاريع عبد الفتاح كيليطو ومحمد مفتاح في الحقل الأدبي، إضافة إلى إسهامات جيل جديد ونوعي من المفكرين والباحثين في مختلف المجالات الفلسفية والأدبية والاجتماعية".
وبناء على هذا الإقرار بخصوبة الحقل الثقافي المغربي بشقيه الفرنكفوني والعربي وقدرته على التقاط تعقيدات العالم الغربي ومفارقاته بلغة أكسبته نقطة ارتكاز قوية لدى النقاد والمهتمين، لا تتردد الشاعرة نبيلة في وصف الوضع الثقافي المغربي بأنه "دينامي، تراكمي ومتعدد، يتبارى فيه أكثر من مشروع ومدرسة، ويحتضن خطابات متنوعة ومختلفة بل ومتعارضة كذلك".
في ظل هذا المشهد الثقافي بنوعيته وإنتاجيته وتراكماته المعرفية والإبداعية، ظلت المرأة في شعر نبيلة حاضرة مع كل حرف من حروف القصيدة. "المرأة، تقول نبيلة، تكتبني بفكرها، بثقافتها، بقوتها وضعفها، بإصرارها وعنادها، بدفاعها عن حقها في الوجود.. بكل ذرة في هي حاضرة.. المرأة هي من أعبر عني من جوانب عديدة ومختلفة. المرأة هي نور الحياة، هي العطاء والخصب والنماء والبقاء، هي من تؤسس للازدهار وللمحبة والتآخي بين الآدميين".