Sunday 8 June 2025
فن وثقافة

محمد الحيرش: ما يُنفَق على الترجمة في العالم العربي يبعث على الأسى

محمد الحيرش: ما يُنفَق على الترجمة في العالم العربي يبعث على الأسى الأستاذ محمد الحيرش ومشهد لمشاركين في المؤتمر العلمي

عقد مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية، التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، يومي 10 و11 ماي 2023 مؤتمره العلمي الخامس في موضوع "تأويلية الترجمة: المرجعيات والمنعطفات"، وذلك تكريما للمفكر المغربي الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي.

فيما يلي نص الحوار الذي أجرته "أنفاس بريس" مع الأستاذ محمد الحيرش، منسق المختبر، حول هذا المؤتمر، وحول أدوار الترجمة وإشكالاتها وعوائقها وحيويتها وارتباطاتها مع حقول معرفية مغايرة، فضلا عن أهميتها في الحوار الحضاري، وأيضا عن واقعها في العالم العربي:

ما هو الهدف من وراء تنظيم مؤتمرٍ في "تأويلية الترجمة"؟ وهل استجاب لانتظارات اللجنة التنظيمية؟

أولا، شكرا لكم في "أنفاس بريس" على كرم المتابعة والاهتمام. أود في البداية أن أشير إلى أن إشكالات الترجمة تعد اليوم من الإشكالات المعرفية التي تحظى في الفكر الإنساني عموما بأهمية بالغة. فالترجمة لم تعد إشكالا تقنيا يمكن أن نلتمس له حلولا في تخصصات محددة كاللسانيات والترجميات فحسب، بل أضحت موضوعا متشعبا تتقاطع في دراسته والعناية به تخصصاتٌ واسعة ومتعددة. ولهذا اخترنا مدخل "تأويلية الترجمة"، لأنه يمثل في الفكر الكوني المعاصر توجها بحثيا ناشئا يستقطب داخل دائرة اهتمامه تخصصات متعددة، بعضها يرتبط بالتأويليات (الهيرمينوطيقا) في حقولها الفلسفية والفيلولوجية والثقافية، وبعضها الآخر يرتبط بالعلوم المعرفية (sciences cognitives) وباللسانيات والتداوليات والعلوم النصية. وهو توجه منفتح يتوافق المشتغلون به على أن أسئلة الترجمة لا تتأتى مقاربةُ تعقيداتها استنادا إلى تخصصات منفردة أو أحادية، بل استنادا إلى تخصصات متفاعلة تجمع بينها أواصر متبادلة من التآزر والتكامل المعرفيين.

لقد كان اختيار هذا التوجه الناشئ من البحث مسوَّغا من جهتين على الأقل: من جهة التفكير في الترجمة في ضوء ما استجد داخل أفق بحثي منفتح هو الأفق الذي تتيحه اليوم تأويلية الترجمة، ومن جهة الرهانات الفكرية والحضارية التي يستدعيها تطوير الدراسات الترجمية في أوساطنا الجامعية. إذ ما من سبيل أمامنا للانفتاح على تجارب الآخرين والإفادة من اجتهاداتهم وإبداعاتهم غير سبيل الاهتمام بالترجمة، والارتقاء بها إلى مطلب حضاري ملح. ولذلك لم يعد مستساغا في بلدنا الذي عرف منذ الاستقلال انفتاحا نسبيا على عدد من اللغات الأجنبية أن تبقى الترجمة نشاطا فرديا لا ينتظم في مؤسسات، وأن تظل طوال كل هذا الوقت شأنا خاصا لا تلتفت سياساتُنا الثقافية والتعليمية على الوجه المطلوب إلى ما يمكن أن يسده من نقص ويجلبه من منافع.

وأعتقد أن المداخلات التي قُدمت في المؤتمر أسهمت بدرجة واضحة في التشديد على أن أي مشروع للنهوض الحضاري لا يمكن إلا أن تشغل فيه الترجمةُ منزلةً جوهرية، فعلى مر العصور اضطلعت الترجمة بهذا الدور سواء في حضارتنا العربية الإسلامية أو في الحضارة الأوروبية الحديثة. ويكفي أن نعاين اليوم مدى الاهتمام الذي يوليه بلد كبير كالصين للترجمة، من خلال اعتماد سياسات طموحة وناجعة مكنت المترجمين الصينيين على امتداد السبعين سنة الأخيرة من ترجمة نصوص صينية أساسية في الأدب والتاريخ والعلوم والفنون وغيرها إلى لغات مختلفة لترويج صورة جديدة عن بلدهم في كل بقاع العالم. كما مكنتهم أيضا من نقل كل ما رأوه مفيدا في لغات أخرى بما فيها اللغة العربية لإثراء تجربتهم الحضارية وتطويرها. وفي هذا الخصوص أتذكر أن مؤتمرا حول الترجمة انعقد قبل أربع سنوات في بلد عربي، وتميز بمشاركة بعض المترجمين الصينيين. ومما لفت انتباهي أن الباحثة المتخصصة في الترجمة وعميدة كلية اللغة العربية ببكين تشانغ هونغ يي (المعروفة بزاهرة) أكدت في مداخلتها أنه إلى جانب اعتناء المترجمين الصينيين بنقل نصوص الأدب العربي شعره ونثره، قديمه وحديثه، فإنهم أخذوا يعتنون أكثر بنقل العلوم العربية الكلاسيكية الدقيقة كالرياضيات، والبصريات، والطب، وغيرها. وهو ما يدل على أن الاهتمام المتنامي بالترجمة في بلد يريد أن تكون له مكانة حضارية فاعلة في عالم اليوم ليس اهتماما فرديا، بل يندرج في سياسة عامة ثقافية وتعليمية واعية أشد ما يكون الوعي بالمكاسب الحيوية التي يمكن للإقبال المدروس على الترجمة أن يحصِّلها ويظفر بها.

ولهذا لا يمكن لنا أن نحيا في عالم يتسم بتنافسية حادة لغوية وثقافية واقتصادية من دون أن نجعل من الترجمة إحدى أدواتنا في هذه التنافسية، ومن دون أن نتخذ منها أيضا نافذتنا على الآخر وطريقنا المفضي إلى الانخراط في العصر والمشاركة المنتجة فيه.

ألا يعني هذا الحاجة، في وقتنا الراهن، إلى بيت حكمة جديد في عالمنا العربي؟

مهما كانت الترجمة اختيارا ذاتيا يخضع لميول الأفراد واهتماماتهم، فإنها تظل مع كل ذلك قرارا استراتيجيا تؤول مسؤولية اتخاذه إلى مؤسسات بلد له مشروع حضاري يسعى إلى تنميته وتعميقه. فالتسليم بأهمية الترجمة والاقتناع بجدواها في النهوض لا يؤديان تلقائيا إلى آثار قريبة أو فورية، بل يتطلب الأمر امتدادا كافيا من الوقت وتراكما وافيا من الإنتاج والبحث. فلئن كانت الترجمة فعلا يُنجَز في الحاضر، فإن رهاناتها الكبرى تبقى مفتوحة على المستقبل ومتطلعة إليه.

  • إننا نلجأ إلى الترجمة في كثير من المواقف والسياقات الحياتية المباشرة للوفاء بأغراض تواصلية طارئة، أو لتلبيةِ حاجات وظيفية ماسة. لكن الآثار البعيدة للترجمة من حيث هي اختيار حضاري استراتيجي تستلزم متسعا من الوقت حتى تتحقق الأهداف والغايات المرجوة منها. ولذلك يتعين الاستثمار الجاد من الآن في الترجمة إن من خلال مؤسسات وطنية أو مؤسسات عربية، وذلك باعتماد برامج بتوجه عقلاني، وبطموح قادر على تدارك الخصاص والتأخر الملحوظين على أصعدة ترجمية متعددة. فما صار اليوم يتهدد أبحاثَنا الجامعية، وبخاصة ما يُنجَز منها في الإنسانيات، هو الأحادية اللغوية المنذرة بالانغلاق والمحدودية. إذ أمام تفاقم هذه الأحادية، وندرة الترجمات الموثوقة أصبح بحثنا العلمي في جملة من التخصصات المتصلة بالعلوم الإنسانية يشكو من مآزق بيِّنة.

كما أن ما يُنفَق على الترجمة في العالم العربي من إمكانات هزيلة، وما يخصَّص لها من برامج محدودة الأثر يبعث على الأسى والتذمر، ويكشف عن القيمة المتدنية التي تُسنَد إلى الترجمة في جدول أولوياتنا الثقافية والحضارية.

بالنظر إلى أن الحاجة إلى الترجمة في عالم اليوم باتت تشتد أكثر من أي وقت مضى، هل تتصورون أن بإمكان المرجعية الفلسفية واللسانية للترجمة أن تسهم في إنضاج وعي ترجمي عربي كفيل برفع التحديات الآنية والمستقبلية؟ ثم إلى أي حد تمثل الترجمة أداة لتنمية الانفتاح والتواصل بين الثقافات؟

لعل ما يميز الترجمة على وجه الإجمال في أهم التصورات الفلسفية واللسانية أنها فعلا أداة للانفتاح على لغات وثقافات أخرى بغاية الاستفادة مما تتسع له من خبرات وتذخره من إبداعات. فقد مثلت الترجمة منذ البدايات الأولى لميلادها ذلك الإمكان الذي يسمح للإنسان بالخروج من مضايق الأحادية اللغوية، ويدفعه إلى الانعتاق مما تعرفه هذه اللغة أو تلك من انطواء أو تطابق.

الترجمة هي الفعل الذي بقدر ما يضعنا وجها لوجه أمام اختلافِ اللغات وتعدد معانيها، يضعنا أيضا أمام محدودية اكتفائنا بلغتنا وتعذر استغنائنا عن لغات غيرنا. وبهذا المعنى تؤول كل ترجمة إلى أسلوب في مقاومة الانغلاق اللغوي، وإلى أداة لمواجهة ما يسميه البعض بــ"عولمة اللغات". فضدا على هذا النزوع التنميطي الكاسح يعاد الاعتبارُ في أكثر من تصور فلسفي ولساني إلى الترجمة، واعتراضا عليه تُنتقد خلفياتُه القائمة على التضحية بتفاوت اللغات وتنوعها. ولذلك ظلت الترجمة بطبيعتها فكرا يأبى ما يفضي باللغات إلى الاستواء والتطابق، لأنها تتغذى من نسغ الاختلاف وترتوي من منابعه.

وبهذا تغدو الترجمة شكلا من التفاعل الحواري بين اللغات، وهو تفاعل يتخذ بعدا تذاوتيا (intersubjectif) تراعى في نطاقه الاختلافاتُ الواقعة بين هذه اللغات، وينتفي معه ما يقود إلى تماهي بعضها مع بعض. الترجمة إذن تجربة حوارية وتأويلية لا يمكن أن نعثر فيها إلا على لغات تتفاعل مع لغات، ونصوصٍ تتحدث إلى نصوص، وثقافات تتحاور مع ثقافات. إنها ما يتجسد داخلها تقاطبُ الأطراف وتمايزها لا ما يتحقق فيها تكرارها لتطابقها واستنساخها لغيرها.

  • بعض من الأسئلة والأفكار التي يجري من خلالها التفكير في الترجمة تفكيرا فلسفيا ولسانيا، ولهذا نفترض أن الاشتباك الفعال مع مختلف المرجعيات المعرفية التي تنهض عليها الترجميات في كل من التقاليد الفكرية الكونية وتقاليدنا العربية الكلاسيكية هو أحد السبل الكفيلة بإنضاج وعي ترجمي عربي يعاد فيه إلى الترجمة اعتبارُها وحيويتها.

لكن إذا تجاوزنا أسئلة الوعي الترجمي في عالمنا العربي وانتقلنا إلى قضايا التأويل ومعضلاته، ماذا يمكن القول عن مختبر التأويليات التابع لكلية الآداب بتطوان؟ وهل لهذا التخصص الذي تشتغلون به في هذا المختبر من إمكانات يساعد بها على تجديد الوعي، وتنسيب النظر إلى المحيط الإنساني، وتعزيز روابط العيش المشترك؟

حين فكرت بمعية مجموعة من الزملاء في تشكيل بنية بحثية ضمن ما تقتضيه اللوائح الجامعية الجاري بها العمل، اخترنا بعد تفكير أن نقترح بنية موسعة يلتئم داخلها باحثون تتقاطع اهتماماتهم وتتكامل. فالمختبر يضم باحثين ينحدرون من مجالات تخصصية متعددة، من الفلسفة واللسانيات والتأويليات، ومن العلوم النصية الحديثة والقديمة كالسرديات والشعريات والسيميائيات والبلاغيات والكلاميات، إضافة إلى الدراسات الثقافية والفيلولوجية. لكن ما كان مهما بالنسبة إلينا وتطلب منا في البداية نقاشا مستفيضا هو الاهتداء إلى ناظم معرفي يجمع بين هذه التخصصات، ويدفع المشتغلين بها إلى تعميق أواصر التفاعل فيما بينهم بما يسمح بالاستفادة المتبادلة من دون أن يفقد أيُّ باحث هويته التخصصية. ولم يكن هذا الناظم إلا التأويليات باعتبارها أضحت تمثل اليوم "مشتركا فلسفيا" تستمد منه طائفة واسعة من العلوم الإنسانية والنصية حوافزَ تفكيرها في أسئلتها وموضوعاتها. ذلك أن التأويليات في السياق المعاصر لم تبق مجرد تخصص يزود المفسرين بقواعد ناجزة للتفسير وآليات صارمة للفهم، بل غدت عبارة عن "أفق منفتح للفكر" لا ينشد الدفاع عن دعاوى مذهبية مثلما كنا نُلفي ذلك في فلسفات مادية أو مثالية أو غيرها، ولا يميل إلى إقرار يقينيات معرفية.

لذلك تتسم فاعلية التأويل في هذا الأفق بتعارضها الجذري مع كلِّ نزعة منهجية مغلقة تؤول فيها النصوص إلى بنيات مجردة لا روح فيها ولا حياة، أو تستحيل فيها المعاني إلى مقولات نمطية متطابقة. إنها فاعليةٌ تأخذ على عاتقها البحث عن أقوم الممكنات المعرفية والأخلاقية المفضية إلى فهم كل خبرة بالمعنى بوصفها خبرة إنسانية حية تنتسب إلى العالم، وتتلون بأبعاده الزمنية والدنيوية. ومن هذه الزاوية إذن يمكننا القول بأن التأويليات تتسع لمجال رحب من الاجتهادات الفكرية التي نستطيع الإفادة منها في مقاربة خبراتنا المختلفة بالمعنى سواء في مجالات التواصل الإنساني، أو في المجالات الفلسفية والأدبية والتراثية وغيرها. ومن ثم، فإذا ما كان للتأويليات من عرض فكري تقترحه علينا اليوم فهو المتمثل في تمكيننا من حوافز للتفكير بالمعية، ومن ثقافة تأويلية مرنة ومتسامحة تجعل من توخي التنسيب ومن الاعتداد بالاختلاف بعضا من مسالكها المعرفية والأخلاقية لفهم القضايا والإشكالات المتنوعة التي تُعنى بها.

ضمن هذا الأفق الجماعي المتسامح يشتغل المختبر، ولهذا أود الإشارة هنا إلى أن ما تحقق فيه من تراكم لا يعود الفضل فيه إلى الأعضاء المنتسبين والمشاركين فحسب، بل يعود أيضا إلى كافة الباحثين والأكاديميين المغاربة والعرب الذين انخرطوا معنا في مجهود نرجو أن نكون قد أسهمنا به في الوفاء ببعض واجباتنا تجاه جامعتنا المغربية.