الخميس 18 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد بنمبارك: القضية الوطنية.. الدبلوماسية ومفاتيح النجاح

محمد بنمبارك: القضية الوطنية.. الدبلوماسية ومفاتيح النجاح محمد بنمبارك
كثيرا ما حمل العديد من النقاد، سياسيين وإعلاميين ومحللين وباحثين، الدبلوماسية المغربية وزر العثرات التي صادفت المغرب في الدفاع عن قضية وحدته الترابية، وعدم تمكنها من الحصول مبكرا على اعتراف دولي كامل لإقبار المشروع الجزائري الانفصالي في مهده، بدل هذا الطريق الشاق الذي سلكته القضية الوطنية على مدى ما يقرب من نصف قرن، تطلب مجهودا حربيا وكلفة اقتصادية ومالية.
فأين يكمن الخلل؟ هل هناك عطب ما في الجهاز الدبلوماسي هيكلا وأطرا؟ أم في القرار السيادي واختيارات الدولة مرحلة بعد الاستقلال؟ أم أن المسألة تتعلق بسياق دولي وبطبيعة العلاقات الدولية السائدة زمن طرح المغرب لملف الصحراء؟ أم إلى موجة التحرر من الاستعمار الأوروبي وانتشار الأفكار الثورية لدى غالبية دول العالم الثالث مطلع النصف الثاني من القرن العشرين التي لم تكن متناغمة وطبيعة النظام القائم بالمغرب؟ أم أن هذه التحديات الدولية مجتمعة حتمت على الدبلوماسية المغربية خوض معركة طويلة الأمد؟.
في الأدبيات التي طبعت الدبلوماسية المغربية على مدى أكثر من سبعين عاما، ظلت هذه الدبلوماسية مطبوعة بالتروي والاعتدال، واعتماد الحوار كأفضل سبيل لتسوية النزاعات وحل المشاكل. غير أن هذا السلوك الدبلوماسي لطالما تعرض بدوره لانتقادات واسعة بسبب مهادنته المبالغ فيها، لاسيما عندما حلت قضية الدفاع عن الوحدة الترابية على الأجندة الدبلوماسية كبند رئيسي.
الدبلوماسية المغربية التي وجهت لها أصابع الاتهام بالتقصير، كان يقودها رجل مشهود له وطنيا عربيا قاريا ودوليا بالحنكة والحكمة والخبرة والدهاء السياسي، إنه المغفور له الملك الحسن الثاني، الذي ترك بصمة راسخة في التاريخ الدبلوماسي المعاصر بالمغرب وخارجه. هذه الدبلوماسية كانت أيضا معززة بجيل من رجال السياسة أبناء الحركة الوطنية وقادة أحزاب ووزراء من العيار الثقيل، وبفريق محنك من الأطر الدبلوماسية بوزارة الخارجية ومؤسسات أخرى.
لم تغير الدبلوماسية المغربية من نهجها عندما طرحت قضية الوحدة الترابية، فقد ظل الخيار السلمي الطريق الوحيد المعتمد في تدبير ملف الصحراء المغربية. وهو ما يسجله التاريخ عندما تبنى الملك الراحل الحسن الثاني أساليب سلمية لاسترجاع الأراضي المغربية التي ظلت محتلة من طرف الإسبان، بدءا من المطالبة بتصفية الاستعمار داخل الأمم المتحدة أوائل الستينات، ثم محكمة العدل الدولية فاتفاقية مدريد 1975، بل ذهب إلى الأبعد من ذلك حين عزز موقفه بالمسيرة الخضراء كي يعطي زخما شعبيا لهذه القضية، ويثبت للعالم بأسره أن قضية الصحراء ليست قضية نظام بل هي قضية شعب بأكمله تحظى بالإجماع الوطني.
سيلمس المراقب المتمعن في الصيرورة التاريخية لنشاط الدبلوماسية المغربية منذ حقبة الستينيات وحتى اليوم، أن المغرب لم يكن بمقدوره حسم الموقف من قضية الصحراء بالضربة القاضية منذ الجولة الأولى، فقد واجه تحديات كبرى في مساعيه لإقناع العديد من دول العالم بمشروعية معركته. لاسيما بعدما اصطدم بخصم، النظام الجزائري، مسلحا بالنفط والمال كوسيلة لكسب/شراء الولاءات ومسكونا بأحقاد دفينة. كما أن المد الإيديولوجي الثوري السائد وقتها بالعديد من أنظمة العالم الثالث كان لا يشاطر توجه النظام الملكي الموالي للغرب والامبريالية، هذا فضلا عن أن دولا لم تكن مطلعة على حقيقة وجوهر القضية فكانت مواقفها مبنية على مصالح مالية أو ميول إيديولوجي ليس إلا.
من جهة ثانية تقاسم الأوروبيون والأمريكان والروس منذ البداية وجهة نظر شبه موحدة، تتمثل في تثمين الموقف المغربي، مع عدم التفريط في الموقف الجزائري حفاظا على مصالحهم بهذا البلد النفطي، موقف ينم عن رغبة في الحفاظ على ورقة الضغط الإستراتيجية لاحتواء طرفي الصراع، وهي سياسة قديمة ومتجددة. وفق القاعدة الاستعمارية المعروفة، ترك بؤر الصراعات مفتوحة بمستعمراتها القديمة للتدخل والابتزاز والاستغلال متى وكيفما شاءت.
رغم هذه الانطلاقة المتعثرة، نسجل أن المغرب نجح إلى حد بعيد، في تدبير ملف الصحراء المغربية، من خلال العديد من المعطيات، التي أبانت عن قدرته على التطور والتكيف مع مسار القضية قاريا ودوليا، مراهنا على عامل الزمن القاهر للخصوم، واشتغل بكل حرص وحدس ويقين وحذر وترقب واستباق على تفتيت وبعثرة أوراق خصومه. وتعامل مع المنتظم الدولي بلغة دبلوماسية مرنة جمعت بين الرفض المطلق والقبول المتحفظ والمسايرة المهادنة عند ارتفاع درجات الضغط عليه قاريا أو أمميا.
فتمكن بذلك من التعاطي مع المتغيرات التي عرفها الملف مرحلة بمرحلة، بالانفتاح على الحلول المطروحة دون التفريط في الجوهر، إلى أن استطاع حسم موقفه النهائي الثابت، في خطوة استباقية، بعدما عرض سنة 2007 على الأمم المتحدة مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية في إطار السيادة الوطنية، ليقفل بذلك الباب أمام تعدد المبادرات الأممية والابتكارات العبثية من هنا وهناك، والتي لم تكن تخدم مصالح المغرب بالمرة.
ويمكن القول، بأن أهم عامل نجحت الدبلوماسية في تدبيره، يكمن في تجنيب المنطقة برمتها حربا مع الجزائر. وهو التوجه الذي لم يساير فيه الملك الراحل الحسن الثاني حكام الجزائر الذين كانوا يدفعون بالصراع مع المغرب إلى حد المواجهة العسكرية. وهو النهج الذي تبناه خلفه الملك محمد السادس حتى يومنا هذا عبر سياسة اليد الممدودة والدعوات المتكررة لتدبير الأزمة بالوسائل الدبلوماسية.
الحفاظ على حالة اللاحرب مع نظام الجزائر والدفع به إلى الاستنزاف المادي والإنهاك الزمني فرض عليه حربا بأسلحة سلمية دبلوماسية ساحاتها المنتديات القارية والدولية، عزز من خلالها المغرب موقعه على الأرض، وبات المنتظم الدولي مع الوقت يكتشف مدى خطورة زرع دويلة على أمن واستقرار المنطقة التي ستتحول لا محالة إلى بؤرة للإرهاب والانفلات الأمني. عامل الوقت أيضا مكن المغرب من إحداث تغيير نوعي في صيغة العديد من القرارات الأممـية وجعلها أكـثر واقعية وصوابا، لا أدلها شطب مصطـلـح " "الاستفتاء" من مداولاتها وإقباره وبات الحديث الدولي يجري حول آفاق أخرى للحل تصب في صالح بلادنا. وهـو الواقع الذي لم تعد ترغب الجـزائر في مسايرته بعـدما شعـرت أن أطروحتها آخذة في التآكل ومواقفها دوليا وإفريقيا تتقزم، فلجأت إلى الخيار التصعيدي بالشكل الذي لمسناه خلال السنتين الأخيرتين حد التهديد بإشعال الحرب.
رافق هذا النهج الثابت للدبلوماسية، محاولة تغيير صورة الأقاليم الصحراوية المسترجعة، من بؤرة نزاع إلى منطقة أمن واستقرار وتنمية واستثمار وتعايش وانفتاح على العالم، بغية ربط التدبير الدولي لهذا الملف بالتدبير الداخلي، وهي عملية تطلبت بدورها الكثير من الوقت والجهد والإنفاق والتخطيط والتدبير على مستوى البنيات التحتية والساكنة. والواقع الذي تعيشه المنطقة اليوم اجتماعيا وتنمويا وسياسيا ودبلوماسيا شاهد على ذلك. وهي النظرة التي تكرست مع مرور الوقت لدى المنتظم الدولي.
بالأمس انسحب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية للأسباب المعروفة، فقرر العودة سنة 2017 بعدما وجد أن الظروف السياسية باتت مهيأة. اقتحام مكنه من الشروع في مخطط تصحيح الأخطاء التاريخية لأفارقة الأمس. مما أربك الحسابات الجزائرية داخل المنظومة الإفريقية وأبطل مفعول مناوراتها. وهي خطوات سياسية ودبلوماسية توفق في تدبيرها إفريقيا، في انتظار بلوغ الهدف المنشود طرد الانفصاليين من الاتحاد الإفريقي.
نفس النهج يمكن أن نقيسه على تحركات الدبلوماسية المغربية داخل المجال الجغرافي لدول أمريكا اللاتينية والكاراييب، من خلال عمل دءوب تطلب عدة سنوات بغاية سحب اعترافات بعض الدول بجمهورية الوهم، وتعزيز الشراكة التعاونية والتضامنية. وقد تكللت هذه الجهود بالنجاح بفضل عده خطوات ملموسة نذكر منها: الزيارة الملكية سنة 2004، زيارات الوزير الأول لحكومة التناوب الراحل عبد الرحمن يوسفي، نشاط الدبلوماسية البرلمانية، توسيع التمثيل الدبلوماسي.
هذه التحركات كسب من خلالها نتائج جد إيجابية، من بينها تسجيل حضوره، كعضو ملاحظ بعدد من المنظمات الأمريكوــ لاتينية، وحدوث تغير نوعي في مواقف دول هذه المنطقة من القضية الوطنية، بعدما باتت من بين أهم الوجهات الداعمة للمغرب.
بالرغم من المكاسب التي حققها المغرب في الدفاع عن سيادته ووحدته الترابية، فالطريق لازال غير سالك فخصوم المغرب يتربصون به. ويجب أن لا يغفل المغرب أو يتغافل عن السياق الدولي السائد اليوم المعبأ حول مسألة حقوق الإنسان وشعارات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. فكلما حصن المغرب ومواقفه بالاعتماد على سياسة شفافة في مثل هذه المجالات الحيوية والحساسة، كلما تمكن سد الطريق على مناورات الأعداء التي تحاول النيل من سمعة بلادنا.
وتكاد تجمع آراء المراقبين، على أن المنتظم الدولي أصبح أكثر تفهما وانفتاحا على مواقف المغرب، وهذا التحول يعود إلى صمود دبلوماسية الأمس التي راهنت على الزمن واقتناص الفرص وإنهاك الخصم، ودينامية دبلوماسية اليوم، التي طورت من الأداء واقتحمت مجالات جد متقدمة أربكت حسابات الخصوم.
 
محمد بنمبارك،دبلـوماسي سـابق