السبت 20 إبريل 2024
فن وثقافة

أوراق تاريخية.. تعليم الرماية وصناعة البارود على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب (5)

أوراق تاريخية.. تعليم الرماية وصناعة البارود على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب (5) المرحوم العلامة محمد المنوني بجانب فرسان الصحراء

أرّخت سنة 1972 ، لبداية إصدار مجلة الأبحاث العامة "الباحث"، وهي السنة الأولى التي رأى فيها النور المجلد الأول الذي أصدرته وزارة الثقافة والتعليم العالي والثانوي والأصيلي وتكوين الأطر ـ مديرية الشؤون الثقافية بالرباط ـ

وكان ضمن مواد مجلة "الباحث" وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة على مستوى التقديم والتحقيق، عنوانها البارز: "قطعة عن نشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي"، على اعتبار أن صاحب هذا العمل التوثيقي هو العلامة محمد المنوني، والذي كان يعد من أعلام المغرب، بصفته حارسا على التراث الثقافي، بعد أن خبر المخطوطات والوثائق والكتب، وأصبح رحمه الله خزانة متحركة، ومرجعا أساسيا لكل الدارسين والباحثين في التاريخ والتراث.

في هذا السياق تنشر جريدة "أنفاس بريس" الحلقة الخامسة من مساهمتها في النقاش العمومي الذي تعرفه الساحة الثقافية والفكرية عامة، والمشهد التراثي المغربي خاصة، بعد إدراج فن التبوريدة ضمن قائمة التراث اللامادي بمنظمة اليونيسكو، على اعتبار أن الوثيقة التي بين أيدينا تشكل مرجعا أساسيا لتاريخ مدارس تعليم "الرِّمَايَةْ"، وشيوخها من أهل الحكمة الذين برعوا في تعليم الرماية وصناعة البارود.

  تعليم الرماية الشعبية بالجنوب المغربي سنّة ونعمة

في الحلقة الخامسة من حلقات جريدة "أنفاس بريس"، اعتمادا على (قطعة عن نشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي) التي قدمها وحققها المرحوم العلامة محمد المنوني بمجلة "الباحث" الصادرة بالمجلد الأول سنة 1972، سنقدم للقارئ مواصفات وشروط "اَلْمَشْيَخَةْ". ونجيب عن سؤال صفات الشخص الذي يحمل لقب "الشِّيخْ" المعلم بمدرسة الرّماية؟ حيث أورد في الفصل الرابع الذي تحدث فيه عن صفة الشيخ الذي يلقن ويعلم أصول الرماية ما يلي: "اعلم أن منصب الرماية منصب شريف، ونعمة عظيمة".

 وشدد المؤلف على أن "الرّامي" الملتزم والمنضبط لأصول وعادات وتقاليد الرماية الشعبية في الجنوب المغربي، التي كان الأجداد "الأَشْيَاخْ" يعملون بها في حقل الرماية، لا يمكنه قطعا الإنسلاخ عن سُنَّتِهَا، والتنكر لمبادئ شيخه ومعلمه، حيث أوضح في هذا الباب بقوله: "إن من ترك الرَّمْيَ بعدما تعلمه، فقد ترك سُنَّة، وفي رواية فقد ترك نِعْمَة". ويستطرد المؤلف موضحا نعمة الرماية الشعبية في الجنوب المغربي بقوله: "فإذا علمت أنها من النّعم التي يجب الشكر عليها، فعليك أن تبادر إلى شكرها بالنّية الصالحة في تعلمها لنفسك، فإذا فسدت نيّة الشّيخ، قلّ من ينتفع على يديه، والغالب على أشياخ زماننا فساد نيتهم...".

في هذا السياق شدد أشياخ أحمر، (في عدة مراجع تاريخية) على أن الرماية الشعبية بالجنوب المغربي كانت تخضع لعدة شروط لابد من احترامها والعمل بها في ميدان الرماية، حيث يتم ترسيخها من طرف الشّيخ/المعلم، الذي أنيطت به مأمورية ومهمة تعليم وتلقين أصول الرماية للراغبين فيها. واستشهد المؤلف بما ورد في أوراق (قطعة من نشاط الرماية في الجنوب المغربي) حين أوضح قائلا: "وقد أدركنا أشياخا كبارا أخيارا أجلّة ببلاد احمر وحوزها، يعلمون الناس الرّماية بنيّة صالحة، وحالة مرضية رحمهم الله تعالى".

النِّيَةْ والْمَحَبَّةْ والتَّسْلِيمْ شروط أساسية في الرماية الشعبية

لقد أورد المؤلف في الوثيقة التي بين أيدينا هذه الشروط حيث أدرجها بالتتابع بقوله: "وأعلم أن الرماية لها ثلاثة شروط". مؤكدا على صحتها وترابطها قولا وفعلا: "لابد من هذه الشروط للشيخ وللمتعلم، فإن ترك شرطا من هذه الشروط بطلت رمايته، وكانت ناقصة البركة، ولا ينتفع أحد على يده".

 و اعتبر أن الشرط الأول يتمثل في "النِّيَّةْ، فمن لم يكن له نِيَّةْ لم ينتفع بشيء". ثم انتقل إلى شرط "اَلْمَحَبَّةْ، من لم يكن له فيه مَحَبَّةْ لم ينتفع بشيء"، وبعدها شرط "التَّسْلِيمْ، من لم يكن فيه التَّسْلِيمْ ويكون قلبه صافيا على كل أحد، يحب للناس ما يحب لنفسه، لا ينتفع بشيء، ولا ترجى فلاحته".

من هم شيوخ الرماية من أهل قبيلة أحمر؟

واستحضرت الوثيقة أسماء أشياخ كان لهم الفضل في تعليم مبادئ وأصول الرماية الشعبية نذكر من بينهم "الشّيخ سِيدِي سْعِيدْ بَنْ محمد النَّاصِرِي، القاطن فوق زِمَيةْ، بموضع يقال له رَأْسْ عَيْنْ عُرِّيضْ".

 وعن أوصاف شخصية سِيدِي سْعِيدْ بَنْ محمد النَّاصِرِي أضاف قائلا: "وكان ـ رحمه الله ـ خَيِّرا ناسكا عابدا، مشتغلا بجهاد نفسه، ممن ترضى أحواله، ويقتدى به في الرّماية والفروسية، كانت ترد عليه الوفود لتأخذ عنه الرّماية وركوب الخيل". لذلك يؤكد المؤلف على أن "رماية قبيلة أهل احمر، فمأخوذة عن الشيخ سيدي أحمد وموسى الشريف السملالي السوسي، وكان سيدي سعيد بن ناصر الحمري وأخوه سيدي علي بن ناصر المذكور، من أصحاب الشيخ سيدي أحمد بن موسى".

وكذلك ورد اسم الشيخ الْعَابَدْ، السيد أَبُو عَزَّةْ بَنْ عَبُّو بَنْ دَبَّاجْ الْيَرِيوِي، وأخوه السيد امحمد بن عبد الله بن دبّاج، وولد عمهم الشيخ المحب الخير، الشيخ علي المكنى وَلْدْ مَنَّانَةْ، وأمثال هؤلاء مما يطول علينا ذكرهم من قبيلة احمر، من السادات النْوَاصَرْ ومن عامة القبيلة".

وفي زاوية سيدي أبي زيد بن إلياس بواد شوشاوة (شيشاوة حاليا) من قبيلة دُوبْلَالْ، ذكر اسم الشيخ البركة المسن، الشيخ أحمد الرْزٍيقٍي". وعن أوصافه وسلوكه تحدث قائلا: "كان ـ رحمه الله ـ رجلا كبير السن، (إلى درجة أن أسنانه نبتث مجددا)، وكان يوم الخميس يأتي إلى سوق الخميس قرب ضريح سيدي أبي زيد بن إلياس، ويجلس في طرف السوق، ويأتون إليه الناس يتبركون منه، ويدعو لهم بخير، ويأخذون من بَارُودِهِ بقصد التبرك، لأنه كان يصنعه، ويأتي به للإخوان المحبّين في الرّماية، ويأخذون عنه الرّماية المذكورة".

وعن مهاراته في الرماية وحديثه للزائرين في مجالسه الخاصة يقول: "...يحدثني بما كان يفعل في حالة صحته وشبابه في صيادة الغزلان وغيرها، ويصف لي كيفية الصيادة وكيف يؤخذ الوحش في حالة غرته، ويصف طبائعه، لأن كل وحش له طبع مخالف عن الآخر، فإذا كان الصياد عارفا بطبائع الوحوش كلها سهل عليه أخذها". لقد كان الشيخ أحمد الرْزِيقِي "قصير القامة، نحيل الجسم، إذا مشى على الأرض لا ستمع له حسا لصغر ذاته، ورطوبة أعضائه، وكان يحدثني في شأن الصيد وكيفية أخذه بما يبهر العقول، وكان يحضنا على الكياسة والبطر وأخذ الوحش في غرته وغفلته، وكان رجلا حرطاني، جده سيدي على الرزيقي من تلاميذ الشيخ سيدي عبد الله الغزواني صاحب القصور بمراكش، مرافق له ومن خيار أصحابه..".

انتقال شيوخ الرماية من أهل قبيلة احمر إلى الغرب

وللتوضيح أفادت الوثيقة بأن أول من دخل من قبيلة أحمر بلاد الغرب "السيد سعيد الحمري البهيسي نزيل حوز زيمة جوفا منها، ودخل الغرب في زمان الباشا لحبيب المالكي (كان يتولى قيادة الغرب أيام السلطان العلوي محمد الثالث واشتهر اسمه بموقفه البطولي في صد الهجوم الفرنسي ضد مرسى العرائش "1179 هجرية"، وورد ذكره في حوادث هذه السنة في تاريخ الضعيف، ثم الاستقصاء)".

ويعتبر السيد سعيد الحمري البهيسي ممن "أخذ عنه خلق كثير بالغرب وبني حسن وغيرهما، وتوفي رحمه الله وترك هناك ولد السيد محمد بن سعيد...ثم دخل الغرب رجل من فقراء النواصرة النازلين في بلاد احمر، هو الشيخ ناصر بن عبد المولى الحمري الناصري" وعن أحواله يذكر: "وله حالة حسنة، ونية صالحة في تعليم الإخوان الرماية، وله نفس عالية عما في أيدي الناس، ويحض أتباعه على الصلاة والنية الصالحة برمايتهم، ومحبة بعضهم بعضا". وعن تعريفه لـ "الْحَمْرِي" جاء في نفس الوثيقة أنه "إذا خفا عليك الحمري، فانظر أحواله، فإن الحمري لا يكون إلا كثير المحبّة، كثير التأدب مع الإخوان، قليل الدعوة، لا يزعم بنفسه في أمر من الأمور، وأشياخ أهل غربنا على خلاف هذا كله، فلذلك قل الانتفاع بهم".

يتبع