الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: الوطنيون وفندق زلجو

عبد الصمد الشنتوف: الوطنيون وفندق زلجو عبد الصمد الشنتوف
مرت سيارة الباشا مسرعة عبر منحدر عين اعراب، فرمقها رجل يدعى الشريف "صانطو"، ما لبث أن بدأ يصيح بملء شدقيه، مشيرا بأصبعه:
- ها هو هارب ولد الحرام!
- هرب، هرب الخائن!
استرسل في قصف الباشا وحاشيته بشتائم وكلام بذيء لا يستطيع التفوه بربعه أيام حكم الريسوني. حدث أن كان واقفا بجانبه المقاوم الشوري السريفي، ومن دون تردد، رد عليه بتهكم واضح:
- لماذا لم تجرؤوا على قول هذا الكلام عندما كان حاكما ممسكا بزمام السلطة؟!
- يبدو أن أمثالكم لا يستطيعون فتح أفواههم سوى عند طبيب الأسنان!
- الجبناء!
في المساء، كان يخرج الريسوني من بيته بشارع فيكتوريا متوجها نحو مقهى بيريكو، ليجالس رفاقه من أعيان المدينة، فيصادفه المواطنون وبعض البحارة، ليفسحوا له الطريق بتملق وتزلف مفرط. ثم يتراجعون إلى الوراء منكمشين كالأرانب على أنفسهم من شدة الجبن والرهبة. إذ كان الباشا الصارم يسير ببطء وخيلاء كطاووس منتفخ الريش، ملتحفا سلهامه الفاخر، يدفع بطنا مندلقا، مكتسيا رداء المهابة والعظمة أمام بصر ساكنة مقهورة. فيما المارة من الناس يقفون مشدوهين على الرصيف المقابل، ينظرون إليه بعيون مذعورة وقلوب مرتجفة، كما لو كانوا يرون وحشا مرعبا جبارا.
 
حينما أقدم الاستعمار على تنحية السلطان محمد بن يوسف، وتعويضه بسلطان مزيف، انتفض المغاربة قاطبة وقامت الدنيا ولم تقعد. في غضون أسابيع قليلة( نوفمبر 1953)، قرر المعهد الديني تنظيم حفل عيد العرش بفندق زلجو الواسع. ولما علم الباشا بالخبر لم يرقه الأمر، فأسند مهمة خطرة لمساعده عبد الله بتعطيل الحفل. وما هي إلا ساعة، حتى اقتحم عون الباشا قاعة الحفل مزمجرا بعينين زائغتين ووجه مكفهر. كان يزم شفتيه في غضب، مخفيا أسنانه غير المتراصة. التفت إلى يمينه فألفى الأستاذ أحمد مصوبا إليه نظرات متوجسة، وكأنه على وشك التفوه بكلمات عتاب، إلا أنه بدا مترددا من شدة الفزع. بعد لحظات قليلة، تقدم نحوه وهمس في أذنه بعبارات يشتم منها رائحة الوعيد والتهديد، فلم يملك الأستاذ سوى الانصياع للأوامر والإذعان.
بعدئذ، وفي تحد صارخ أقبل عبد الله على نزع صورة السلطان من الجدار على مرأى المدعوين "الوطنيين"، وكأن لسان حاله يقول: هذا سلطان أصبح في عداد الماضي، عليكم الاحتفاء بسلطان فرنسا الجديد.
بلغت القلوب الحناجر، وخيم على القاعة صمت رهيب. أحجم الجميع عن التحرك والاحتجاج، وتسمروا في كراسيهم، مبتلعين ألسنتهم.
- من يجرؤ على معاكسة قرار الباشا؟ لا أحد!
 
 في الجهة الأخرى من المغرب المحتل، ضرب شابان صنديدان موعدا مع التاريخ، وسطرا لحقبة بمداد من ذهب. كان يصنعان الحدث العظيم بإنشاء أول خلية مسلحة لمقاومة الاستعمار الفرنسي، إذ التقيا بمقاومين أشداء (حسين برادة، شعيب شجاعدين، ومحمد منصور) متعاهدين على الفداء وحمل السلاح. كان الحسن وسليمان شابين وطنيين في مقتبل عمرهما، مفعمين بالتضحية والإقدام، هبت عليهما أولى نفحات الوطنية على يد الأستاذ السبتي بمدرسة (بريماريو) بالعرائش، قبل أن ينتقلا للعمل بمطبعة أطلس بالدار البيضاء سنة 1946.
 في حي درب السلطان كان يصنع قدر المغرب الجديد، حتى صار يطلق عليه قلعة المقاومة.
وبين ردهات المطبعة الضخمة، سيتبلور وعيهما السياسي، ويتقد حسهما الوطني عبر احتكاكهما بأيقونة المقاومة المسلحة الزرقطوني، ليتم انطلاق أولى الشرارات الفدائية بالمغرب.
لم يكن يدور في خلد منظمي حفل فندق زلجو الذين أرعبهم عون الباشا إلى حد اصفرار وجوههم، أن إبن مدينتهم سليمان العرائشي كان للتو نفذ عملية فدائية نوعية بالدار البيضاء، مفرغا خمس رصاصات في رأس عون الباشا "الخائن" بنيس، ثم اختفى في لمح البصر مثل الشبح وسط دروب المدينة العتيقة، ليترك ضحيته صريعا كالذبيحة على الأرض.
 
فجأة، بعد مرور ثلاث سنوات على حادثة الاعتداء على صورة رمز البلاد وتكسيرها، تذكر وطنيو فندق زلجو أن هناك خونة في المدينة وجب تصفيتهم بدم بارد، ومطاردتهم واحدا واحدا إلى آخر رجل.
 استحال الثائرون إلى وحوش منفلتة من عقالها. أبانوا عن "شجاعة نادرة". كشروا عن أنيابهم الخفية، فقرروا الانتقام من بوسلهام الموظف لدى الإسبان، الذي كان قد نحر أضحيته يوم العيد المصادف ليوم خلع السلطان عن عرشه، ونفيه خارج الوطن، متجاهلا نداء الحزب القوي، ومكسرا إجماع المغاربة على مقاطعة عيد الأضحى تضامنا مع سلطان البلاد.
تجمع المتظاهرون والرعاع في وسط المدينة بتحريض من "الوطنيين" معلنين النفير، وهبوا إلى حي الغريسة، ليقوموا بتطويق بيت الموظف "الخائن"، ويرمون نوافذه بقطع من روث البهائم العطن، وطلاء جدرانه بغائط مقرف، حتى كانت روائح كريهة تصل ساحة اسبانيا تزكم الأنوف على مسافة بعيدة.
بعد ذلك، قفز إلى ذهنهم مشهد عون الباشا عبد الله حين اقتلع صورة السلطان الشرعي من الجدار، فقرروا معاقبته على فعله المشين. سرعان ما هبوا في حماس ملتهب قاصدين بيته، ليجدوه قد تبخر وصار أثرا بعد عين. كان قد فر بجلده صحبة الباشا إلى سبتة.
ما لبثوا أن صبوا البنزين على البيت وأضرموا فيه النيران، لتستعر ألسنتها وتزداد اشتعالا إلى أن أتت على كل ما فيه بالكامل...يتبع...