الجمعة 26 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: الهجوم على دار الباشا

عبد الصمد الشنتوف: الهجوم على دار الباشا عبد الصمد الشنتوف
عاد الباشا القوي من سوق ريصانة تاركا وراءه عبده رابح عرضة للمهلكة، حتى قيل أنه بكى واستوطن الحزن قلبه لما علم أن خادمه قد تم تقطيعه إلى أشلاء وأضرموا النار فيه.
بدى مهزوما ومحطما يتصبب عرقا. سرعان ما اقتحم باب المدرسة الإسبانية المقابل لبيته في حالة حنق شديد لجلب طفله الصغير، ما لبث أن دلف إلى بيته الفسيح لالتقاط أشيائه الخاصة والثمينة، ليمتطي بعدها سيارة "جيب" على عجل، ويفر بجلده نحو مدينة سبتة. أجلس سكرتيره الوفي ولد الرياحية طفل الباشا المدلل بجانبه في الكرسي الخلفي، وأخذ يطمئنه مواسيا دون أن يستوعب ما يحدث، فيما شغل السائق الوجدي محرك السيارة وانطلق كالسهم في سرعة جنونية مارا خلسة عبر طريق خلفي محاذي للمقبرة، متجنبا ملاقاة المحتجين، ومتواريا عن عيون أنصار الحزب العتيد الراغبين في الانتقام.
لبث الباشا مطرقا وهو جالس أمام السائق يلقي نظراته الأخيرة على المدينة التي ساسها بصرامة، عيناه يغشاهما الفزع، كانت حادثة ريصانة في ذاك الصباح لازالت ماثلة أمام عينيه، حتى أدخلته في نوبة اكتئاب حادة. وحين وصلت السيارة منحدر عين أعراب، التفت خلفه ملقيا بصره على صومعة كومندانسيا، فانحبست الدموع في مقلتيه، ولسان حاله يجري عليه قول أم آخر ملوك الأندلس: ابك كالنساء ملكا لم تدافع عنه كالرجال.
انطلقت جحافل الثائرين من وسط المدينة في هيجان صاخب تجاه دار الباشا. يتقدمهم ولد غيلانة ممسكا بشاقور ضخم يلوح به في الهواء، وكأنه في طريقه لمطاردة وحوش مفترسة. بعضهم كانوا مسلحين بفؤوس وهراوات حتى تخالهم ذاهبون إلى معركة الزلاقة لمواجهة جنود ألفونسو السادس.
كان اشويشو يصرخ بأعلى صوته شاهرا خنجره:
- صاط باط الريسوني تحت الصباط!
فيرد عليه بوفناطز بصوت جهوري ملوحا بعصى غليظة:
- عاش السلطان!
- يسقط الباشا!
- يسقط الخونة!
في الطابق العلوي من البيت الجميل تقع مكتبة الباشا، وهي إحدى أضخم مكتبات المغرب أنذاك، لا تضاهيها سوى مكتبة كنون بطنجة. تعلوها سقوف من خشب منقوش، تتوسطها ثريا كريسطال شديدة اللمعان. على جانبها المقابل يقبع صالون أدبي شاسع مؤثث بتحف نفيسة، حيث يجالس زواره الغالين، من علماء راسخين في العلم، ومثقفين بارزين كسلامة موسى، أمين الريحاني وبن الحسن الوزاني. أجمل ما في الصالون الفخم تلك النافذة الواسعة المطلة على نهر لوكوس الغامض، نهر عميق شبيه بذيل ثعبان، تكبر على حواشيه أشجار تفاح بلون ذهبي، ذلك أن الأسطورة تقول: جاء هرقل ذات يوم لقطف التفاحات الذهبية من حدائق هيسبريدس الممتدة على طول ضفاف نهر لوكوس الساحر، قرب ليكسوس حيث يحرسها تنين مرعب.
ينتحي الباشا ركنا بجوارها ليقف مطلا متأملا طلوع الشمس من جهة شوميس. بين أذرع هضابها ترتاح مدينة الفنيقيين ليكسوس التي تعاقبت عليها حضارات الإغريق والوندال والرومان. مدينة يفوح من أحجارها وترابها عبق التاريخ، وحكمها ملك نوميديا يوبا الثاني طوال القرن الأول قبل الميلاد.
يمد بصره إلى أفق بعيد تجاه جبال بني عروس الشاهقة، وإلى قلعة تازروت الصامدة تحديدا، وقد تسللت إلى مخيلته ذكريات وأحداث بعيدة. عند سفوح تلك الجبال جلس الكولونيل المتعجرف سلبيستري على ركبتيه يشكو ألم الهزيمة، وشراسة المقاتلين الجبليين، حيث تحطمت أحلامه بصخرة المقاومة الباسلة التي قادها والده مولاي أحمد الريسوني. يأخذ الباشا شوق وحنين إلى موطن ولادته، إلى ثنايا تضاريس الجبال الوعرة التي تخترق قمم السحاب، هناك نشأ وترعرع حتى اشتد عوده.
تقفز إلى ذهنه ذكريات مريرة لمعركة تازروت التي انهزم فيها والده أمام جيش عبد الكريم، كما يتحسر ألما حين يذكر محاصرة القائدان الجبليان خريرو والشاوني لبلدة تازروت، فيعتصر قلبه وجعا وهو يتخيل القائد الشاوني مقتحما حجرة والده المقعد لإرغامه على الإفصاح عن أماكن تخزين صناديق الكنوز والمجوهرات بالقلعة، قبل نقله عنوة على الأكتاف، ونفيه مدحورا إلى قرية أجدير بالريف.
يقتعد الباشا العلامة أريكته الفارهة ممسكا بسبحته، مرددا أوراد الصباح بعد صلاة الفجر، بعدها ينهض إلى رفوف مكتبته العملاقة، ليقع اختياره على مخطوطات قديمة صفراء وكأنها قناني خمر معتقة. يغوص في بطونها وينهل من علومها. كتب عتيقة ومجلدات نادرة تعج بها مكتبة الباشا الشهيرة. بعدئذ يتمدد على أريكته رافعا عينيه محدقا في زخارف خشب العرعار، قبل أن يشغل جهاز راديو عتيق يشبه صندوق "جدتي" العجيب، ثم يتصفح جرائد إسبانية كي تطلعه على آخر مستجدات وأحداث العالم الملتهب.
كان الباشا قد أوصى حراسه بالدفاع المستميت عن بيته الفاخر قبل إقدامه على الفرار، ما لبثوا أن سمعوا أصوات المتظاهرين تقترب منهم رويدا رويدا. فما كان منهم إلا أن صعدوا السطح مسلحين ببنادقهم استعدادا لصد أي هجوم  مرتقب.
في البداية، حاول المحتجون اقتحام البيت بالقوة، لكن عون الباشا الخراز حذرهم من ذلك، محذرا إياهم بأنهم سيكونون عرضة لإطلاق نار من طرف الحراس الغلاظ. وما هي سوى لحظات حتى سمعت طلقات رصاص في الهواء لدب الرعب في قلوب الثائرين تأكيدا على هول الأمر.
بعد هنيهة، اندفع إلى فناء الحديقة بخطى حذرة، شاب أسود يتطاير الشر من عينيه، ضخم الجثة، طويل القامة، عريض المنكبين، يدعى صالح. سرعان ما طفق في محاورة الحراس المسلحين عن بعد في محاولة يائسة لإقناعهم بالاستسلام.
كان يصيح بصوت قوي:
- سلموا أنفسكم، سلموا أنفسكم!
لكنها صيحة في واد، ذهبت مع الريح، وخاب ظنه!
ظل الحارسان مبارك وقادري وفيان لسيدهما، ومصممان على الدفاع عن دار الباشا إلى آخر نفس بصدريهما
 
...يتبع..