Tuesday 4 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: ديبلوماسية "الملك والشعب"

عبد الرفيع حمضي: ديبلوماسية "الملك والشعب" عبد الرفيع حمضي
 الجغرافيا  لم تتغير في الجنوب المغربي، لكن نظرة العالم إليها تغيّرت. وما كان يُقدَّم يومًا كملفٍ سياسي تقليدي، أصبح اليوم أفقًا جديدًا لذكاءٍ استراتيجي وصبرٍ تاريخي. فالمغرب اختار ألا يخوض معركته بالحكمة الهادئة وبإيمانٍ ثابت بعدالة قضيته. فالمعارك الجادة تُربح بالتراكم الهادئ، والانتصارات الاستراتيجية لا تُعلن دفعة واحدة، بل تُبنى داخل الوعي الدولي خطوةً خطوة، إلى أن يتحول الحق إلى حقيقة راسخة لا مجرد رأيٍ للنقاش.
أذكر أن أستاذ العلاقات الدولية في منتصف الثمانينيات كان يردد علينا قول "إدوارد كار "حين كتب في مطلع القرن العشرين "أن الدولة هي الفاعل الوحيد في السياسة الخارجية، وأن مسرح العلاقات الدولية كان حكراً على الوزارات والسفراء."
غير أن الزمن تغيّر؛ فالقرن الحادي والعشرون أعاد توزيع الأدوار. ظهرت الدبلوماسية العامة، والدبلوماسية الرقمية، وقوة السرد، وأصبح للمجتمعات الوطنية والمحلية حضورٌ مؤثر في صناعة الموقف الدولي. وبالتالي فهذه  المفاهيم لم تعد زينة أكاديمية، بل أدوات صلبة في هندسة النفوذ والسيادة، خاصةً مع ثورة الاتصال وتعاظم ما يسميه جوزيف ناي «القوة الناعمة» و«قوة القيم».
في هذا السياق، لم يكتفِ المغرب بالتكيّف مع العالم الجديد، بل ابتكر تجربته الخاصة: ديبلوماسية تبدأ من الدولة، وتتغذى من المجتمع، وتتحرك عبر مستويات متعددة تتكامل ولا تتعارض.
ولأن القضايا الكبرى لا تُختزل في خرائط وحدود، فإن الصحراء بالنسبة للمغرب لم تكن قضية ترسيم جغرافي، بل قضية وجود. دفاعٌ عن هوية، وشرعية تاريخية، وامتداد حضاري. والتاريخ يعلّمنا أن قضايا الوجود وحدها هي التي تصنع لحظات الالتفاف الكبرى. حين يتهدد معنى الوطن، يتحول الجميع إلى جبهة واحدة؛ الدفاع يصبح واجبًا لا تعليمات، والانتماء يتحول من شعار إلى سلوك يومي. كما التحم الإغريق دفاعًا عن كيانهم الحضاري في مواجهة الفرس، وكما توحّد البريطانيون مع تشرشل دفاعًا عن روح الديمقراطية في وجه النازية، اليوم التحم المغرب  — ملكًا وشعبًا — لأن القضية ليست نزاعًا سياسيًا عابرًا، بل رهانًا على الوجود ومعنى الوطن نفسه.
هكذا تتقدم ديبلوماسية الملك والشعب برؤية ملكية واضحة وثابتة، يقابلها انخراط وطني واسع. من القاعات الجامعية إلى المدرجات الرياضية، ومن المنتديات الدولية إلى المنصات الرقمية، ومن الحقل الفني والثقافي إلى المبادرات المدنية. 
وهذا الأمر لم يكن مجرد صدفة تاريخية، بل امتداد طبيعي لروح مغربية عميقة فكما توحّد المغاربة في «ثورة الملك والشعب» دفاعًا عن الاستقلال، يتوحدون اليوم في حماية الوحدة الترابية، بالمنطق نفسه: قيادة توجه ، وشعب يستوعب ويدافع ويشارك.
وقد فهم المغرب مبكرًا أن الوجدان وحده لا يكفي، وأن الانتماء يحتاج إلى معرفة. لهذا كان للجامعة وللباحثين دورٌ محوري؛ هم من جمع الوثيقة، وفكك السرديات المضادة، وقدّم للعالم رواية راسخة تستند إلى القانون والتاريخ والجغرافيا. خلف كل خطوة دبلوماسية هناك باحث ومؤرخ وأستاذ قانون وطلبة يناقشون ويكتبون ويبنون حجة الدولة بصرامةٍ هادئة.
وبالموازاة، لم يقف المجتمع متفرجًا ولم تترك الدولة الساحة لوحدها. الأحزاب، النقابات، الجمعيات، الاتحادات الشبابية، الجالية المغربية  بالخارج، الفنانون والمثقفون والإعلاميون، والرياضيون الذين رفعوا راية الوطن… جميعهم كانوا جزءًا من هذا الجهد التراكمي الذي جعل الدبلوماسية المغربية تعبيرًا عن وعيٍ جماعي لا مجرد أدوات رسمية.
هذه القوة الناعمة المركبة هي التي أنتجت لغة دولية جديدة حول النزاع، قائمة على قناعة حقيقية لا على مجاملة، وعلى رؤية واقعية للحل لا على حسابات ظرفية. فالعالم اليوم لا ينظر للصحراء كمسألة تدبير حدود، بل كقضية استقرار وشرعية ومشروع تنموي داخل دولة أثبتت نضجها وصدقيتها
. فالقضايا الكبرى لا تنتهي عند الاعتراف، بل تبدأ منه. وبالتالي  ف 2797 ليس نهاية قصة. بل  بداية فصل جديد يُكتب بثقة وهدوء، وتُمارس فيه السيادة كما تُمارس الحكمة.