الأربعاء 24 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

إدريس الأندلسي: معالم كبرى قد تعزز الثقافة بطنجة وبمدن أخرى.. والباقي مسؤولية مدبري الشأن العام

إدريس الأندلسي: معالم كبرى قد تعزز الثقافة بطنجة وبمدن أخرى.. والباقي مسؤولية مدبري الشأن العام إدريس الأندلسي
 كان حلم كثير من المثقفين، ومبدعي المسرح والموسيقى، أن يتمكنوا من عرض إنتاجاتهم على مسارح، وفي قاعات عروض، وفي فضاءات قد تتسع لأكبر معارض الكتاب عبر تراب المملكة المغربية. ومن غرائب الصدف ذات البعد المكاني، في زمن تراجع الإبداع.. أصبحت المسارح جاهزة، وأماكن العروض الفنية متعددة، وضعفت قدرة صمود أهل الفن والثقافة على مواجهة من حاربوا الثقافة والفن منذ سنين.
كانت الإنتاجات كثيرة خلال قمة عطاء "مسرح الهواة"، الذي كانت تشرف عليه وزارة الشبيبة والرياضة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين. كان التلاميذ يحجون بالمئات إلى القاعات السينمائية وقاعات دور الشباب لتتبع مسرحيات يؤديها شباب بحرفية عالية. ولم تخلُ هذه العروض من جمالية في تناول موضوعات سياسية واجتماعية بكثير من النقد والتحليل. ولم تخلُ التظاهرات الثقافية من آثار على المسّ بحرية المبدعين من التلاميذ والطلبة بسبب نص، وسيناريو، وأداء دور في مسرحية.
واختلفت أمور الثقافة في وقتنا الحالي. لم يعد هناك خصاص في قاعات العروض. تكاد كل جهات المغرب أن تتوفر على مسارح ومركبات ثقافية. وأصبح الأهم هو خلق العرض الفني والثقافي. وما يهم الآن هو التعريف بالبنيات الثقافية التي تم إنجازها في بلادنا بكل حرفية.
والأمر يتعلق في هذا المقال بما اكتشفته في طنجة من إنجاز يتضمن التقدم في إعادة الحياة لمسرح "سيرفانتيس"، الذي يبلغ من العمر أكثر من قرن، ويتعلق الاكتشاف الثاني بإنجاز كل الأعمال المتعلقة بـ"حلبة مصارعة الثيران" التي يعرفها أهل طنجة بـ"بلاصا طورو". زرت أكبر معلمة في طنجة تتسع لاستقبال أكبر المعارض الثقافية والتجارية بشمال المغرب. تأكدت بأن طنجة يمكن أن تستقبل أكبر التظاهرات التجارية والثقافية في مركزها الجديد الذي كان مركزًا تجاريًا للخضروات والفواكه.
تعتبر هذه المعالم مكملة لما تم إنجازه في إطار المشروع الملكي لإعادة هيكلة المدن المغربية ذات التاريخ الموغل في القدم. تم تكليف وكالة تنمية أقاليم الشمال بتنفيذ مشاريع كثير من مدن الشمال، مثل تطوان والحسيمة وشفشاون وطنجة، وكانت النتائج مطابقة للتوجيهات الملكية على مدى سنوات من متابعة إنجاز المشاريع.
زرت مسرح سيرفانتيس التاريخي، ورأيت ما تم إنجازه في وقت وجيز. ولكن إصرار وكالة تنمية أقاليم الشمال على أن يتم التنفيذ وفق رؤية تعتبر أن إعادة الحياة إلى هذه المعلمة الفنية تتطلب أعمالًا فنية تطابق ما كان عليه هذا المسرح قبل دخوله مرحلة غياب طالت. ويظل مستوى الإنجاز مثيرًا للاهتمام. وسيظل الإصرار على إعادة الروح إلى كافة اللوحات الفنية التي توجد في سقف المسرح، وفي كواليسه وخشبته، ورشًا مفتوحًا لإعادة رونق جماله الذي هام به فنانون عالميون قبل عقود من الزمن.
ومن جميل الصدف اقتران هذا الورش الثقافي مع إعادة هيكلة "سوق الشجرة" القريب من مسرح ذي تاريخ، وتحويل الفضاء المحيط به إلى مجمع تجاري عصري، ومستودع للسيارات، وحدائق في قلب الأحياء العتيقة لطنجة.
وسيظل السؤال، بعد هذه الإنجازات، هو كيفية تدبير البنيات التي أصبحت واقعًا يؤشر على وجود بنيات تحتاج إلى مبدعين ومدبرين للشأن الثقافي المحلي والوطني. سيظل هذا السؤال مركزيًا ومحرجًا للحكومة ولكافة القيادات السياسية محليًا ووطنيًا. سيظل غياب تشغيل مسرحين كبيرين في الرباط والدار البيضاء محرجًا لنا جميعًا بعد أن كنا نشتكي من غياب المسارح.
نعم، يجب أن نستمر في بناء كل مكان يستوعب مبدعي الثقافة، ولكن الضرورة، في الوقت الراهن، تفرض أن نهتم جميعًا بدعم الإبداع في كل المجالات. لقد أصبحت واجهة المسرح الملكي بمراكش صورة تقابل محطة القطار الجميلة، ولكن هذا المسرح الذي بُني قبل ثلاثة عقود، ولا يزال يشكو من تشوهات فنية ومعمارية، وأخطاء في تتبع الإنجاز منذ زمن طال، وكرّس غياب كفاءة المجالس البلدية التي لا تزال تتوالى، بضعف، على القرار في مراكش، ولا يزال الأمر على ما هو عليه.
ولهذا لا يجب أن يظل مستوى إنجاز ما تم بطنجة حبيس ملفات تخضع لمقاييس لا علاقة لها بالتنمية الثقافية. ولا يزال الاستثمار في الحقل الثقافي ضروريًا ما دام يربط بين المكان وبين الإنسان. المكان ضروري لاحتضان التعبير، والإنسان سيظل هو منبع خلق المسرحية، وصنع وتوزيع موسيقى الأغنية، ورسم اللوحة بكل ألوان الحياة. والمكان يكتسب روحه بفعل ذلك الذي يحمل فكرًا يتسع لحمل مشاريع اقتصادية وثقافية. ولا يتمنى المواطنون المغاربة سوى تجدد النخب المسيرة للشأن العام على أسس الولاء للوطن، والتسلح بالكفاءة، وتملك فكر ذي أبعاد إستراتيجية.