Thursday 4 December 2025
منبر أنفاس

عمر المصادي: عندما يصل الإنحدار مداه.. عراك كاد أن ينفجر داخل البرلمان.. ووفاة الأخلاق السياسية

عمر المصادي: عندما يصل الإنحدار مداه.. عراك كاد أن ينفجر داخل البرلمان.. ووفاة الأخلاق السياسية عمر المصادي
في مشهد يعكس انزلاقا غير مسبوق في السلوك السياسي، كاد خلاف بين وزير وبرلماني أن يتحول إلى عراك جسدي داخل مجلس النواب، بعد تلاسن حاد وعبارات حادة خارجة عن اللياقة الديمقراطية.

ما حدث لم يكن مجرد لحظة انفعال، بل علامة دالة على تآكل منظومة الأخلاق السياسية، وتراجع الدور المؤسساتي للبرلمان باعتباره فضاء للحوار والتوافق وصياغة السياسات العمومية.
 
وتؤكد لقطات الجلسة أن الخلاف الذي بدأ بطرح سؤال شفوي حول تدبير ملف حكومي انقلب إلى مشهد أقرب إلى العنف اللفظي كاد أن يتحول إلى جسدي، لولا تدخل وزير الداخلية في اللحظة الأخيرة.

ويصف علماء السياسة مثل جون رولز هذا الإنزلاق بأنه تعبير عن غياب “العقل العام”، أي غياب القدرة على إدارة الخلاف وفق قواعد مؤسساتية مشتركة.

أما يورغن هابرماس فيشير إلى أن النقاش الديمقراطي حين يفقد طابعه “التواصلي”، يتحول إلى صراع هيمنة لا إلى بحث عن الحقيقة أو المصلحة العامة.

ما وقع داخل البرلمان يؤكد أن البرلمان فقد في تلك اللحظة وظيفته في إنتاج نقاش برهاني، وبدلا من ذلك تحول إلى ساحة توتر شخصي.
 
ويأتي هذا الحادث ضمن سلسلة أحداث تظهر تدريجيا انحدار الخطاب السياسي من خلال:
- تنامي التهجم الشخصي وغياب الإحترام المتبادل.
- حضور قوي للخطاب الشعبوي الذي يعتمد الإثارة بدل البرهان...
ويصنف الباحث الأمريكي لارّي دايموند، أحد أبرز منظري الديمقراطية، مثل هذه الإنزلاقات ضمن “علامات الإنحدار الديمقراطي”، حيث تفقد المؤسسات احترامها وقواعدها وتبدأ الثقة العامة في التآكل.
أما ماكس فيبر، في حديثه عن “أخلاق المسؤولية”، فيرى أن السياسي الذي لا يضبط انفعالاته ولا يزن كلماته وفق عواقبها، يتحول إلى عنصر تهديد للمؤسسة التي ينتمي إليها.
 
ويشير مختصون في العلوم السياسية إلى فرضيات تفسيرية رئيسية:
1ـ ضعف الثقافة السياسية المؤسساتية:
- تكوين جزء من النخبة السياسية يعتمد على الولاء الحزبي والإنتخاب المحلي أكثر من اعتماده على التكوين الأكاديمي والسياسي، ما يؤدي إلى هشاشة في تقنيات التواصل والحوار.

2 ـ تأثير الإعلام ووسائل التواصل:
- الإحتكاك المستمر بمنصات التواصل الإجتماعي التي تكافئ الخطاب الصدامي يجعل بعض الفاعلين السياسيين يعتقدون أن “الفرقعة اللفظية” هي وسيلة لاكتساب الشعبية.

3ـ الإستقطاب الحاد داخل المشهد السياسي:
- عندما يصبح الخصم السياسي عدوا، ينكسر جسر الحوار. ويشير تشانتال موف إلى أن الديمقراطيات عندما تفشل في تحويل “العداوة” إلى “خصومة”، تنتقل إلى مساحات الصراع.

4ـ ضعف دور رئاسة الجلسات في ضبط الإيقاع:
يجمع عدد من المتابعين للشأن البرلماني على أن رئاسة الجلسات تتحمل جزءا مهما من مسؤولية الإنفلاتات المتكررة داخل قاعة البرلمان، باعتبارها الهيئة المخول لها دستوريا وقانونيا ضبط النظام الداخلي وتوجيه مجريات النقاش، غير أن ما حدث خلال الجلسة الأخيرة كشف بوضوح عن ضعف واضح في قدرتها على التحكم في الإيقاع العام للنقاش، سواء من حيث التدخل في الوقت المناسب لوقف التصعيد، أو من حيث فرض الإنضباط.
 
ولقد ترك حادث الإشتباك اللفظي أثرا بالغا على الرأي العام، وتنامت التعليقات التي تتساءل عن جدوى المؤسسة التشريعية.

ويعتبر عالم الإجتماع السياسي بيير بورديو أن المؤسسات عندما تفقد “هيبتها الرمزية”، فإنها تفقد قدرتها على إنتاج السلطة الشرعية.

وهذا بالضبط ما يخشاه المتابعون: أن يؤدي تكرار مثل هذه الحوادث إلى هشاشة صورة البرلمان والحكومة وانخفاض ثقة المواطنين في الفعل السياسي.
 
والسؤال الذي يطرح، هل يمكن إنقاذ الأخلاق السياسية؟
الإجابة ليست مستحيلة، لكنها تحتاج إصلاحات على مستويات عدة:
مدونة سلوك برلماني ملزمة للنواب وأعضاء الحكومة، كما هو معمول به في عدد من البرلمانات الغربية، مثل البرلمان البريطاني الذي يفرض “Code of Conduct” يحدد السلوك المقبول وغير المقبول بصرامة.

تكوين إلزامي في التواصل السياسي، تكوينات في إدارة الخلاف وفن الخطابة والتفاوض يجب أن تصبح جزءا من تأهيل النواب والوزراء.

تعزيز دور الصحافة الرقابية، إعلام مهني مستقل يفضح الإختلالات ويسمي الأشياء بأسمائها يساهم في حماية المؤسسة من الإنحدار.

إشراك المواطنين عبر آليات الديمقراطية التشاركية، فكلما شعر المواطن أن صوته مسموع، قل استعداده للإنفصال عن المؤسسات.
 
وفي الأخير فإن ما وقع داخل البرلمان لا يجب أن يقرأ كحادث معزول، بل كمرآة تعكس هشاشة في الثقافة السياسية وتراجعا في القيم التي بنيت عليها المؤسسات الديمقراطية.

إن إحياء الأخلاق السياسية ليس عملا نخبويا، بل ضرورة لحماية الدولة والمجتمع.
فالسياسة، كما يقول هابرماس، إما أن تكون “فعلا تواصليا يسعى لبناء التوافق”، أو تتحول إلى “صراع نفوذ يفقد فيه الجميع”.

ما جرى هو إنذار، وعلى الفاعلين السياسيين التقاطه قبل أن تتحول الإنزلاقات العرضية إلى عادات ثابتة، وقبل أن يفقد المواطنون ثقتهم بالكامل في السلطة التشريعية والتنفيذية.