حين يكون الحديث عن التاريخ، فإننا بالضرورة نتحدث عن معركة الحق والباطل، تمامًا كما نتحدث عن ميزان الواقع والوهم... فمنذ فجر الإنسانية، ظل هذا الصراع يتكرر: صراع الخير والشر، والحق والباطل، والواقع والوهم ، قد ينتصر الوهم في معركة أو معارك، لكنه باستقراء صفحات التاريخ ، لم ينتصر يومًا في حرب واحدة.
فمهما طال ليل الباطل، ففجر الحق لا بد أن يشرق، لأن عدالة القضايا تُقاس بعمق الإيمان بها وقوة النضال من أجلها.
من المسيرة الخضراء إلى معركة البناء :
نحن جيل الستينيات من القرن الماضي بالمملكة المغربية، عشنا فصول قضية الصحراء المغربية مع مهندسها وناسج خيوطها، الملك الراحل الحسن الثاني، طيب الله ثراه.
في يوم 16 أكتوبر 1975، وبالتزامن مع صدور رأي محكمة العدل الدولية حول الصحراء، أعلن جلالته من مدينة مراكش عن تنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع الأقاليم الجنوبية من الاستعمار الإسباني.
وهكذا، في 6 نوفمبر من السنة نفسها، انطلقت المسيرة التاريخية بمشاركة 350 ألف متطوع ومتطوعة من مختلف جهات المملكة، في مشهد حضاري وسلمي أبهر العالم. لم يكن سلاحهم سوى القرآن الكريم، وكان قسمهم الخالد: "أقسم بالله العلي العظيم أن أبقى وفيا لروح المسيرة الخضراء، مكافحا عن وحدة وطني من البوغاز إلى الصحراء..."
لقد كانت المسيرة الخضراء ملحمة وطنية جمعت المغاربة حول هدف واحد: استرجاع الأرض وصون الكرامة.
تحديات ما بعد الاسترجاع :
لكن بعد جلاء الاستعمار الإسباني، لم تتوقف المعركة. إذ سرعان ما وجدت المملكة نفسها أمام مؤامرة جديدة من بعض جيرانها، وعلى رأسهم الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، الذي تبنى أطروحة تقسيم المغرب انتقامًا من حرب الرمال وسعيًا لزعزعة استقراره.
تدفقت بذلك أموال ودعم لوجستي من دول المعسكر الاشتراكي آنذاك، كالاتحاد السوفيتي، وليبيا القذافي، وكوبا فيدل كاسترو، وأنغولا ونيكاراغوا، في محاولة لفرض كيان انفصالي في الجنوب المغربي.
ومع قلة الإمكانيات، خاض المغرب حربًا ضروسًا دامت سنوات، قدم خلالها مئات الشهداء والأسرى، لكن عزيمة المغاربة لم تلن، وإيمانهم بعدالة قضيتهم لم يتزعزع.
استمرار السيادة تحت راية الحكمة :
رحل أولئك الزعماء الذين سعوا لتقسيم المغرب، وبقي المغرب في صحرائه، وبقيت الصحراء في مغربها.
وجاء الملك محمد السادس، حفظه الله، ليواصل مسيرة والده، مستندًا إلى الإيمان العميق بقوله تعالى:
"وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"
فبحنكته السياسية وحكمته الهادئة، قدم جلالته سنة 2007 مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية إلى الأمم المتحدة، باعتبارها حلًّا واقعيًا ومنصفًا ينهي هذا النزاع المفتعل.
وقد لاقت المبادرة ترحيبًا دوليًا واسعًا، وتُوجت باعتراف مجلس الأمن في 31 أكتوبر الماضي، ليكرس رسميًا مغربية الصحراء ويغلق ملفًا دام عقودًا.
ولم يكن غريبًا أن يُعلن الملك محمد السادس هذا اليوم عيدًا وطنيًا جديدًا تحت مسمى "عيد الوحدة"، رمزًا لوحدة الشمال بالجنوب، ووحدة المغاربة من طنجة العالية إلى الكويرة الغالية، تحت راية واحدة وشعار خالد: "الله، الوطن، الملك"
والخلاصة لقد رحل عشرات الرؤساء وهم يحملون حلم تقسيم المغرب، وماتت معهم أوهامهم.
أما المغرب، فقد ظل شامخًا بثوابته، ثابتًا في صحرائه، متشبثًا بوحدته.
ورحل الملك الحسن الثاني وهو يؤدي قسم المسيرة، فجنى ابنه الملك محمد السادس ثمار ذلك القسم.
وكما يقول التاريخ: ما ضاع حق وراءه مطالب، فالحق لا يموت ولو طال الزمن...
