Tuesday 4 November 2025
Advertisement
مجتمع

رشيد مقتدر.. رؤية فكریة تجمع بین التحلیل النقدي والواقع المیداني لتعزيز الوعي

رشيد مقتدر.. رؤية فكریة تجمع بین التحلیل النقدي والواقع المیداني لتعزيز الوعي الدكتور رشيد مقتدر
يقول عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران: “ليست أزمة الإنسان في جهله بالعلم، بل في عجزه عن توجيه علمه نحو المعنى". عبارة تختصر عمق الأزمة الحضارية التي نعيشها، وتفتح الباب أمام نموذج المفكر الذي يسعى إلى إعادة وصل الفكر بالفعل، والمعرفة بالمعنى.

في هذا السياق، يبرز اسم الدكتور رشيد مقتدر كواحد من تلك النماذج النادرة التي لا تكتفي بالتحليل من وراء الزجاج الأكاديمي، بل تمارس الفهم كمشروع حياة، وتحول الفكر إلى طاقة تغيير.
 
فالرجل لا ينتمي إلى فئة الأكاديميين التقليديين الذين يحتمون بالمصطلحات، بل إلى أولئك الذين يغامرون بالفكرة في الميدان، ويضعون النظرية في مواجهة الغبار اليومي. في زمنٍ أصبحت فيه السياسة مشهدًا للاستهلاك لا للتفكير، يطلّ الدكتور مقتدر كمثقفٍ يقظٍ يرفض الانبهار ببريق الخطاب، ويفكك ما وراء الكلمات بعينٍ نقدية ترى أن السلطة ليست فقط ما يُمارَس في المؤسسات، بل ما يُبنى في العقول. بالنسبة إليه، التعليم ليس مجرّد عملية تلقين، بل فعل سياديٍّ لصناعة الإنسان القادر على التفكير، والفاعل في مجتمعه.
 
حين يتحدث عن المدرسة، لا يراها مجرد فضاء إداريٍّ أو هندسة بيداغوجية جامدة، بل جبهة استراتيجية في معركة بناء الدولة. فكرُه في هذا الباب يذكّر بما قاله أنطونيو غرامشي: “المثقف الحقيقي هو من يقف في قلب الصراع الاجتماعي، لا على الهامش.” وهذا ما يجسده مقتدر في مسيرته الأكاديمية والسياسية، إذ جمع بين دقة التحليل وجرأة الموقف، مؤمنًا بأن الإصلاح لا يبدأ من القرار، بل من الفكرة، وأن التغيير الحقيقي يمر عبر الوعي لا عبر الخطاب.
 
في تحليله للشأن العام، لا يقع مقتدر في فخّ الأخلاقوية السطحية ولا في نزعة التبرير السياسي، بل يوازن بين الواقعية والمبدئية، بين المصلحة والمبدأ، مدركًا أن السياسة ليست فن الممكن فقط، بل فن تهذيب الممكن. فهو يرى أن الإصلاح لا يتحقق بالشعارات، بل بإعادة هندسة الإنسان ذاته، وبغرس ثقافة التفكير النقدي بدل ثقافة التكرار.
 
يمتاز خطابه الفكري بأسلوب يجمع بين الدقة الأكاديمية والدفء الإنساني. فهو يكتب بلسان المفكر الذي يفكر، لكنه يخاطب قلب المواطن الذي يعيش ويتأمل. كلماته لا تُقرأ فقط، بل تُصغي إليها العقول. إنها دعوة دائمة للتفكير، وجرس إنذار ضد السطحية، ومحاولة لإيقاظ ما خمد فينا من حسّ السؤال. لا يقدم أجوبة جاهزة، بل يزرع الأسئلة كمن يحرك ساكنًا في بحيرة راكدة.
 
من يتتبع مسار الدكتور مقتدر يكتشف مشروعًا فكريًا متكاملاً يتجاوز أسوار الجامعة، مشروعًا يؤمن بأن المعرفة مسؤولية، وأن التعليم ليس قطاعًا إداريًا بل قضية وجودية. لذلك يقف ضد كل نزعةٍ تُحوّل المدرسة إلى سوقٍ أو المختبر إلى شعار. بالنسبة إليه، المثقف الذي لا يدافع عن كرامة العلم يشارك، بصمته، في جريمة تجهيل الأمة.
 
في زمنٍ تطغى فيه الضوضاء على العمق، يصبح أمثال رشيد مقتدر نُدرة. فهو من أولئك الذين يكتبون للعقل لا للمنصة، ويخاطبون الوجدان قبل الجمهور. يذكّرك دائمًا بأن الفكرة ليست زينة لغوية، بل موقف وجودي، وأن الإنسان الذي لا يسائل ما يعتقد، يعيش على هامش التاريخ.
 
إن حضوره لا يُقاس بعدد المناصب أو طول السير الذاتية، بل بقدرة أفكاره على الصمود في وجه النسيان. فكم من مسؤولٍ مرّ، وكم من اسمٍ طواه الغياب، لكن من يزرع الوعي لا يُمحى أثره. وهذا هو سرّ التفرد في مسيرة الدكتور رشيد مقتدر: أنه اختار أن يكون صوتًا للعقل وسط الصخب، وصورة للأمل وسط العتمة.
 
وحين يُسأل عن غايته من كل هذا الجهد، يجيب ببساطةٍ تشبه اليقين: “أريد أن أرى هذا الوطن وهو يُفكّر.” عبارة تختصر مشروع حياة ورؤية جيلٍ من الأساتذة الذين حملوا همّ الوطن على أقلامهم قبل أن يحمله السياسيون على برامجهم.
 
إن فكر الدكتور رشيد مقتدر ليس خطابًا عابرًا، بل رؤية متكاملة تعيد الاعتبار إلى الإنسان بوصفه محور كل إصلاح. فهو يؤمن أن السياسة بلا تربية عبث، وأن التعليم بلا فكرٍ نقديٍ استبداد ناعم. لذلك لا ينفصل عنده الفعل عن المعنى، ولا الفكر عن الموقف. في كل محاضرةٍ له، تشعر أن الفكرة تتحول إلى طاقة، وأن اللغة تتحوّل إلى جسرٍ بين الوعي والواقع.
 
ومن هنا، يصبح مشروعه الفكري امتدادًا للرؤية التي دعا إليها موران: أن نعيد للعقل مكانته، وللإنسان معناه، وللوطن صوته الحقيقي. فحين يتحاور العلم مع السياسة، ويتزاوج الوعي مع الفعل، يولد جيلٌ لا يكتفي بالحلم، بل يصنعه.
 
في النهاية، لا يمكن اختزال رشيد مقتدر في لقبٍ أو صفةٍ أكاديمية، لأنه قبل كل شيء حالة فكرية مغربية تحمل في داخلها نَفَس الإصلاح، وقلق الفيلسوف، وإصرار المعلم. إنه يؤمن أن الكلمة يمكن أن تغيّر، وأن السؤال يمكن أن يشعل ثورة. وبهذا، يظلّ حضوره مرآةً نادرة تعكس ملامح الغد وسط غبار الحاضر.
 
إنه الدكتور رشيد مقتدر… الإنسان الذي آمن أن أخطر أزماتنا ليست في السياسة ولا في الاقتصاد، بل في ضياع الفكرة النبيلة بين الثرثرة والصمت.