Tuesday 4 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

مصطفى عنترة: قضية الصحراء.. من شرعية الإجماع الوطني إلى ترسيخ الشرعية الشعبية

مصطفى عنترة: قضية الصحراء.. من شرعية الإجماع الوطني إلى ترسيخ الشرعية الشعبية مصطفى عنترة
منذ اندلاع النزاع حول الصحراء المغربية منتصف السبعينيات من القرن الماضي، احتلت هذه القضية موقعا مركزيا في الوعي السياسي المغربي، وشكلت ركيزة أساسية في إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع. فملف الصحراء لم يكن مجرد نزاع إقليمي على السيادة، بل تحول إلى أداة استراتيجية لترميم الشرعية السياسية وتحصين الجبهة الداخلية في مرحلة حساسة من تاريخ المغرب الحديث.

كان هذا الملف، ولا يزال، أحد أهم القضايا الوطنية التي ساهمت في توحيد الصف المغربي. فقد شكل في الماضي حجر الزاوية في بناء الإجماع الوطني حول "القضية الوطنية الأولى"، وأسهم في إطلاق المسلسل الديمقراطي سنة 1975. كما ساعد على تخفيف حدة التوتر السياسي الذي أعقب المحاولتين الانقلابيتين سنتي 1971 و1972، حين استخدمت السلطة هذه القضية كمدخل لاستعادة الثقة الداخلية وتوجيه جزء من المؤسسة العسكرية نحو الجنوب.

في تلك الفترة، كان المغرب يعيش أزمة ثقة داخلية وعزلة خارجية. وجاءت قضية الصحراء لتعيد ترتيب البيت الوطني، إذ تحولت من ملف جيوسياسي إلى قضية جامعة استطاعت أن توحد الدولة والقوى السياسية والمجتمعية بمختلف توجهاتها. وكانت المسيرة الخضراء سنة 1975 تجسيدا فعليا لهذا الإجماع، إذ حولت الالتفاف الشعبي إلى فعل سياسي موحد، وأعادت للنظام شرعيته الوطنية على أساس المشاركة والوحدة.

بعد نحو نصف قرن، تعود قضية الصحراء لتؤدي الدور نفسه ولكن في سياق مختلف. فاليوم لم تعد الحاجة إلى الإجماع السياسي التقليدي بقدر ما تبرز الحاجة إلى ترسيخ الشرعية الشعبية وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع، في ظل التحولات الاجتماعية وتنامي وعي الأجيال الجديدة بحقوقها ومطالبها.

ورغم تغير الظروف، ما زالت القضية تحتفظ بأهميتها الاستراتيجية. فقد شكل القرار الأخير لمجلس الأمن حول مقترح الحكم الذاتي لجهة الصحراء انتصارا جديدا للدبلوماسية الملكية الهادئة التي نجحت في نقل الملف من نزاع إقليمي إلى إطار السيادة الوطنية، مع اعتراف المجتمع الدولي بالمقترح المغربي كحل واقعي وحيد لإنهاء نزاع طال أمده.

القرار الأممي رقم 2797 الصادر في 31 أكتوبر  2025 رسخ الاعتراف الدولي بالوحدة الترابية للمملكة، ودشن مرحلة جديدة من الحسم الدبلوماسي القائم على الحكمة وبعد النظر الذي ميز قيادة الملك محمد السادس لهذا الملف. ولم يعد المغرب في موقع الدفاع، بل في مرحلة تثبيت المكتسبات وتعزيز موقعه كفاعل إقليمي مسؤول ومؤثر في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.

هذا الانتصار الدبلوماسي جاء متزامنا مع حراك اجتماعي تقوده فئة الشباب، التي رفعت مطالب مشروعة تتعلق بالصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، الشيء الذي يفسر التجاوب الشعبي الواسع للرأي العام مع هذه المطالب التي تعكس تطور الوعي المجتمعي واتساع المشاركة في النقاش العمومي حول التنمية والحكامة، وتشير إلى نضج سياسي ومدني متزايد داخل المجتمع المغربي.

في هذا السياق، تبرز قضية الصحراء مرة أخرى كعامل توحيد رمزي يجدد الثقة بين الدولة والمجتمع، لا عبر الخطاب التقليدي، بل من خلال الإحساس المشترك بالمصير الواحد والانتماء الجماعي. فقد أصبحت المكاسب الدبلوماسية الأخيرة مناسبة لتجديد التلاحم الوطني وتوجيه النقاش نحو أولويات الإصلاح والتنمية.

قال الملك الراحل الحسن الثاني ذات يوم عن الصحراء هي الاصل والمنبع للخير، وقد رد عنه مقولة: "الخير كله يأتي من الصحراء، والشر  كله يأتي من الصحراء." عبارة تختزل بعمق الدور المزدوج الذي لعبته هذه القضية في تاريخ المغرب، فهي مصدر وحدة وطنية وميزان نضج سياسي في آن واحد. وقد كانت لعقود قضية مقدسة وخطا أحمر، غير أن المرحلة الراهنة تعيد تعريف هذا التقديس من قناعة رسمية إلى وعي شعبي يدرك أن الدفاع عن الوحدة الترابية جزء من الدفاع عن مشروع وطني شامل للتنمية والعدالة.

اليوم تواصل قضية الصحراء أداء دورها الاستراتيجي في ترسيخ شرعية المؤسسة الملكية وتعزيز بعدها الشعبي، باعتبارها رافعة للإصلاح والتحديث. وبعد أن ساهمت بالأمس في بناء الشرعية السياسية للنظام، أصبحت اليوم أداة لترسيخ الشرعية الشعبية، في ظل الدعم الدولي الواسع للمقترح المغربي من قبل القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا.

لقد عبّر الشارع المغربي عن هذا الزخم الوطني من خلال احتفالات عفوية عمّت المدن، رفعت فيها الأعلام الوطنية وصور الملك محمد السادس، تعبيرا عن التفاف شعبي حول المشروع الوطني الوحدوي والإصلاحي الذي يقوده.
إن قضية الصحراء اليوم ليست فقط قضية حدود وسيادة، بل عنوان لمسار وطني متجدد يسعى إلى بناء دولة ديمقراطية متماسكة، قوامها الشرعية الشعبية والعدالة والتنمية. فمنذ 1975 إلى 2025، ظلت الصحراء مرآة تعكس رحلة المغرب نحو التحديث دون التفريط في الثوابت، ونحو الديمقراطية دون المساس بالوحدة.

والظاهر أن الصحراء ستفرض مرة اخرى إعادة النظر في بنية الدولة المغربية ككل، وانفتاح النسق السياسي المغربي على درب الدمقرطة وتكريس دولة الحقوق والحريات.
وبالفعل فإن: "الخير كل الخير، يأتي إلا من الصحراء".